في الصميم

بقلم
نعمان العش
لماذا نطرح مسألة الحرّية والعنف؟
 العنف والحريّة ثنائية داخل الفكر الفلسفي السّياسي ومفهوم التّاريخ، فهلاّ يحدث أن ينظر في هاتين المسألتين دون أن يكون ثمّة من تلازم بينهما؟
إنّ التّلازم القائم بينهما لا يخلــو من مفارقة، ذلك أنّ العنف يمارس تحت راية الحرّيـــة، ومع ذلك فإنّ ممارسة العنف تنتهك الحرّية، الأمـــر الّذي يجعـــل من التّـــلازم بين العنف والحرّية موضـــوع توتّر يبعث على التّســـاؤل عن وجوده، فأيّة دلالـــة يتّخذهـــا العنف في الفكر السّياسي؟ وعلى أيّ نحو تتحــدّد علاقة العنـــف والحرّيــــة ؟ وأيّ دور اتّخــــذه العنف بالنّسبـــة إلى علاقـــة الإنسان بالآخـــر؟ وهل أنّ واقع العنف تنتجـــه حرّية الإنسان أم إنّ تطوّر العلاقـــات البشريّة تاريخيّا هـــي الّتي أفرزت هذا الواقـــع؟ وهل العنف ضرورة لا بدّ منهـــا عند الحديث عن حرّية الإنسان أم أنّ هذه الحرّيــة لا تستقيــم إلاّ عبر مواجهة العنف ووضع حدّ له؟ وبالتّالي، أيّهما يحدّد الأخر؟ الحرّية أم العنف؟
إنّ الاحتكام إلى معيار يتحدّد به الحرّية أو العنف كمفهوم، قد لا يغني عن الانكفاء عنه، لأنّ المعيار ينساب بدوره في التّاريخ، ولمّا أن كان التّاريخ هو ما يتحقّق بالحرّية أو بالعنف، فإنّ المعيار سوف يستعاد النّظر فيه. ولمّا أن أقررنا القول بأنّ الإنسان هو عقل وحريّة، جاز لنا العود إلى مفهوم الإنسان الّذي تحقّق في تاريخ الفلسفة، فهو كائن الوعي والحرّية، أمّا الوعي فهو الوعي المعترف بالآخر، وأمّا الحرّية فهي تشترط تحقّق هذا الاعتراف بضمان من قانون وضعيّ ونبذ للعنف.
لا يفتأ المفكرون والفلاسفة يستحثّون مناهج وأدوات، تتطوّر باستمرار، تتّجه إلى تحديد طبيعة العلاقــة بين الذّوات العاقلـــة والحرّة داخل الدّولـــة ولقد احتضنت الحداثـــة قوانين وتشريعات، يلزمنا نهجهما بأن نتحدّث عن حداثة للإنسان ونتحدّث، بالقدر نفسه، عن حداثة الرّؤية للعالم وعن رؤية جديدة للتّاريخ. لا يخالف كلّ تحوّل في مفهـــوم الإنسان نمط جدليّة التّطوّر الّذي يعرفه التّاريخ، فالتحوّل في مفهوم الإنسان من مفهوم الإنسان المجتمع إلى مفهوم الإنسان الفـــرد لا يكون إلاّ سبيلا للعـــود إلى تأثــر العلاقة بين الذّوات –الحرّة والعاقلـــة-، بين الدّولة والمواطنيـــن، أو تأثيرهــــا على تحقّق الحرّيــــة أو تنزّلهـــا في الواقـــع، بل وتأثّر السّياق الدّلالي لمفهوم الحرّية في واقع العنف والقـــوّة. هذا الواقع هو الّذي طبع الوجود البشـــري الرّاهن في عالم ارتبكت فيه مفاهيم الحرّية والإنسان والتّاريخ وتراجعت فيه قيم الحداثـــة.
أصبح العنف لغة يتكلّمها أصحاب رؤية تريد أن تشرّع لنهاية التّاريخ، الّذي هو بمثابة الإعلان الأخير لموت الحرّية والإنسان وإنّ في ما شهده النّصف الأخير من القرن التّاسع عشر والنّصف الأوّل من القرن العشرين من صدمة لثورة الحداثة كان دون شكّ، صدمة الانتشار العسكري الاستعماري الأوروبّي في بقيّة العالم، يضاف إليها وعد بلفـــور وفرض إقامة كيان صهيونــيّ على أرض فلسطيـــن تزامن، تقريبا، مع حرب كونية مدمّـــرة استعملت فيها أسلحة الدّمـــار الشّامل وكانت سببــا في تقسيــم العالـــم إلى قطبيــن يتصارعان سياسيّا واقتصاديّا بواسطة التّسابــق نحو التّسلّـــح وامتلاك القوّة العسكريّة. إنّهما قطبـــان تسودهمـــا رؤيتـــان تستمـــدّان جذورهما من أساسين للكليانيّــة ومن إيديولوجيتيـــن تنفيان كلّ خصوصيّة وتميّز تتفارقان فلا يمكن استشراف أيّ نمط من أنماط اللّقاء أو التّحالف بل يوجّهان، بواقع التّناقــض، إلى النّفي. لا شكّ أنّ القطب الأوّل رأسماليّ يقـــوده فكـــر يتبنّى مبدأ «المنافسة الحـــرّة» وأنّ القطــب الثّانــي شيوعــيّ يقــوده فكـــر يتبنّى مبـــدأ «صراع الطّبقـــات». في كلّ من هذيـــن القطبيـــن اعتداء على الآخر وعلى حرّيتــه وحقوقـــه، يضاف إليه تقريـــر مصيـــر مُسْقَـطٍ أريد له أن لا يكون له بنفسه.
أمّا الصّدمة الأبعد تأثيرا فتتمثّل في ما شهده النّصف الأخير من القـــرن العشريـــن حين ساد التّنميــط والتّشريط لعالم أوشك فيه الاختلاف والتّنوّع الحضـــاري أن يندثـــر، وتغيب معــه إلى الأبـــد أرصدة عاليـــة من الإضافــــة الّتي قدّمت فــي التّاريــخ كلّ جســـور حداثـــة الإنسان وحداثة الرّؤية للعالـــم. في هذا ما يحقّ لنا أن نتساءل: هل يستجيب الاعتراف بواقع عنيـــف إلى الإقرار بالانتكاس عن انجازات الحداثة النّظريـــة ومكاسبها التّاريخية ؟ وهل يعني انتشار الحرب والعنف ضدّ الآخر، في واقع الانفراد بالسّيادة على العالم، مشروعـــا لكليانيّة مضادّة للإنسان ولحرّيته وللحضارات وللتّاريخ ؟
يتنزّل خطاب العنف والتّصوّرات الكليانية في رحم أزمة غياب التّحايث الحضاري والثّقافي، أي في واقع غياب مقوّمات إقرار الاعتراف بالآخر، وهو غيـــاب يشرّع لاستمراره سلطان القوّة الاقتصاديـــة والمصلحـــة، حتّى أصبح يعتقـــد أنّ خطابات الحوار والتّواصل والتّشارك، كانت لغة حداثويـــة تغيّب حقيقة المصلحـــة والمنفعة الاقتصاديـــة أو السّياسية، وهذا أقرب إلى التّضليل والمخادعـــة الّذين ينبئـــان بهزيمـــة الحداثــــة، غير أنّه يبقــــى للفلسفة-ولنا نحن- الرهانات التّالية : ترسيخ مقولة الحرّية، ونبذ الأنظمة الكليانية وتأكيد أنّ حقوق الإنســـان هي مبدأ للحداثة الإنسانية.
كتبت سيمون فايل Simone Weil سنة 1934:
« يبدو واضحا أنّ الإنسانية المعاصرة تتّجه في كلّ مكان إلى نموذج كليانيّ للتّنظيم الاجتماعي بهدف استخدام المصطلح الّذي كان وضعه الوطنيون الاشتراكيون كأسلوب نظام تقرّر فيه سلطة الدّولة، بشكل مستقلّ وهي متمتّعة بالسّيادة على جميع المجالات، بالخصوص، على مجال الفكر»[1].
أمّا بالنّسبة إلى برتراند دي جوفانال Bertrand de Jouvenel، فإنّ الدّيمقراطية هي الكليانيّة. إنّه يعتقد أنّ الدّيمقراطية، بإعطائها الأمل لكلّ واحد للوصول إلى السّلطة، فإنّها تستثير الرّغبة في الاستيلاء عليها وليس في الحدّ من « تعسّفية الدّولة »، ظاهرة تتسبّب في تزايد قدرة الدّولة[2].
لقد أجريت الأبحـــاث، بشأن مفهـــوم الكليانيّـــة، في السّياق السّياسي للحـــرب البــــاردة، حيث عارض  النّموذج اللّيبرالي النّموذج الشّيوعـــي. بعد أن حوّلتـــه الماكارثيـــة «McCarthyism» إلى الأداتيــة في الولايات المتّحدة الأمريكيــة في سنـــوات 1950، بدأ مفهوم الكليانيّـــة يتعرّض إلى التّبرّؤ منه أثناء سنوات 1960 من قبل البحـــوث التّجربيــة في العلـــوم الاجتماعية، في إطار حركة عامّة تريد  استجواب اللّيبرالية الّتي يروّج لها بكلّ استرخاء.
يستبعد مفهوم الكليانيـــة، إمكانيـــة أيّ تغيير هــــــامّ في النّظام، فلا يكون ذلك إلاّ عقب هزيمــة عسكريّـــة. يتمّ استخدام الإيديولوجـــي لتبريـــر النّظام القائـــم بـــدلا من المحرّك الدّيناميكـــي للتحوّل الاجتماعـــي. وأخيرا، يحرز الاستهلاك والاقتصاد المـــوازي تقدّمـــا، وتسيـــر البلاد إلى الانفتاح اقتصاديا على الخارج. منظّـــرو الكليانيــــة مثـــل حنّــــة أرنـــت «Hannah Arendt» وزبيغنيـــو بريجنسكـــي «Zbigniew Brzezinski» كان لهـــم أن وضعوا في طليعة ما ورد في تحليلهم، الأشكال القصوى للدّيكتاتوريـــات الكليانيـــة الّتي ظهرت فـــــي الاتّحـــاد السّوفيتـــي ثمّ، في وقت لاحـــق في الصّين الشّعبيــــة. لقد أثبتت دراساتهـــم التّحليليـــة ارتباط أشكـــال الدّيكتاتورية هذه، وذلك إلى حدّ كبير جـــدّا، بشخص المستبـــدّ. إنّ نظريّة الكليانيـــة لم تصوّر من قبل احتمال قيام هذه الأنظمة بالانخـــراط في مســـار التّخفيف من الدكتاتوريـــة.
الهوامش
[1] Simone Weil ajoutait : «La Russie offre un exemple parfait d’un tel régime, pour le plus grand malheur du peuple russe » dans Réflexions sur les causes de la liberté et de l’oppression sociale, Gallimard, Folio Essais, 1955, p. 138.
[2] Zbigniew Brzezinski, Ideology and Power in Soviet Politics, New York, Praeger, 1962. Ces passages sont pris de l’anthologie de Betty B. Burch (éd.), Dictatorship and Totalitarianism. Selected Readings, Princeton, Van Nostrand Company, 1964, p. 177. Pour une analyse semblable, voir Zbigniew Brzezinski et Samuel Huntington, Political Power USA/ URSS, New York, Viking Press, 1964. 
 
-----------
- أستاذ  فلسفة باحث في الفكر السياسي 
noomen_e@yahoo.com