دمتم سالمين

بقلم
عبدالنّبي العوني
تناطح الإيديولوجيات الصمّاء
 في الفضاء العام الذي يتحوّز عليه و يحويه «شرق المتوسط» تعتمل فيه صراعات وتدافعات وتناطحات ومناكفـــات....تبتدئ بصفة بدائيّـــة في شكلهــــا القبلـــيّ العشائـــريّ و تحتدّ و تصل ذروتها المدمّـــرة إذا تلاحمت مع الأشكال والأنماط المذهبيّة، تنتج بعد الإنهـــاك الجماعي شظايا هويَّات معقّدة، متقوقعة ومتصلِّبة ومكثَّفة بوعي الخوف والخشية من الفناء والاضمحـــلال أو الإفنـــاء، وهذا الشكــــل من التشابــك نجــده يؤثث شـــرق «شرق المتوسط»(*) أين يستمدّ حاجاتـــه الغذائيّة التّاريـــخ والجغرافيا القبليّة والمذهبيّة والسّياسيّة مع طبيعـــة السَّمت الذهني العام لعناصره المهمَّشة والقابلية النَّهمة للتشظِّي وبالأخصّ في اللّحظات الواهنــة والتقلّص الحضــاري وكي يتمكّن من المحافظة على استمراريّة وجوده ولو في الحدّ الأدنى من حراكه وحركيَّته .
هذا في الشّرق، أمّا غرب «شرق المتوسط» أو بلاد المغرب كما سمّاها أسلافنـــا، فيتغيّر المشهـــد تدريجيًّـــا كلّما وجهنا وجهتنا نحوه. وسأقتصر في وصف التطاحنـــات على وسط غرب «شرق المتوسط» (إفريقية قديما أو تونس حديثا) وهي في هذه الحالة تمثل نموذجا رائعا في هذا الفضاء الغربي من شرقنا.. حيث تعتبر مطبخا تعتمل فيه الكثير من التفاعلات والتحوُّلات والتحويلات والتغيّرات والتغييرات، مع المحافظة على الخصوصيّات المتأصّلة والتّاريخيّة في أشكال التّطاحن والصراع والتّدافع مهما تغيّرت الشّخوص والفترات الزّمنيّة... في فضائنا الحيوي هذا تغيب المذهبيَّات بشكل كبير وينحسر البعد القبليّ العشائريّ نتيجة لعدّة متغيّرات تاريخيّة حصلت طوال العشريّات الماضية خصوصا بفعل تغوّل أذرع الدّولة الوطنيّة وأجهزتها وما لحق بمكوّناتها القياديّة من مزايا ومنافع لهم وامتيازات، ونتيجة أيضا للقابليّة الفطريّة لدى كل الشّخوص المقابلة والمؤثّثة لهذا الفضاء في التّنازل على بعض المكتسبات البدائيّة الصّلبة من أجل الدُنوِّ من بعض المكتسبات الحضاريّة العامة ولو كانت هشّة أو مصطنعة، حتى وإن اقترن التّنازل بفائض من الدّم المسفوك وخسارة للطّاقة والثروة وضمور في التَّنمِيَّات المختلفة، وفي غياب الأشكال الأولى ومع قاعدة منهجيّة وطبيعيّة بعدم وجود الفراغ، وفي فضاء انحسر وضمر النّمط البدائي الأوّل،  نمت على أنقاضه أشكال من  صراعات  أخرى وتطاحن  تغذّيه القابليّة الفطريّة للصّراعات ولو كانت مدمِّرة كما تغذِّيه مكوِّنات وعناصر للدولة «حديثة» من أنتلجنسيا سياسيّة وثقافيّة مع  انتلجنسيا نهمة للمال الموازي(إن صحّ التعبير) المتغوِّلة والمسنودة بأدوات قهريَّة جيّرتها لها مؤسّسات الدّولة من قوانين وأنماط إنتاج وأنماط تفكير وتكوين وتربية وتعليم: أنماط هندسة وتوزيع، أنماط تنميات مهجّنة ومُنبتّة، أنماط بحوث أكاديميّة، أنماط إعلام وأعلام وتسفير(من السِّفْر) وتصحيف(من الصحف)، وأشكال تكارفير«من كارفور» وتكييس وتستيغ (ستاغ) وتصنيد(صوناد) ومن ذهنية «جانا الكيّاس وجانا الضوء  وجانا الماء»، هذا الصّراع أو التطاحن هو ما أسمِّيه تطاحن الأيديولوجيات الصمّاء، فالايدولوجيا بوصفها نمط للتفكير  وصياغات له ينتجها الإنسان وينضبط لآلياتهـــا وأدواتها في المشاهدة (الحسية والشعوريــــة والعقليــــة) والاستقبال والتحليل والاستنتاج وصياغة الرؤى والحلول لمجمل التفاعلات الداخلية والقضايا التي تؤرّق مجتمعه، والصمَّاء لأنّها تكتسب مع الزمـن والعجز والوهن والضمور وعدم القابليّة للقسمة وإن انقسمت فهي ليس لها دور ولا معنــى ولا نهاية، لأنها ببساطـــة تعيد إنتــاج آليات تفكيرها ولو في شكل بسيط ومتردّد (Fréquence) ومتوتِّـر(Contraction/Tension) في حدودها التجزيئية الصغرى، فهي إذًا لا تسمع (لها صمم داخلي) ولا ترى (العمى داخلي أيضا في البصر والقلب والفؤاد وله مرتكزاته) ولا تدرك (أقفالها صدئة ومتكلِّســـة)، كما أنها تنتج بعد تكاثرها بذورا لنبت الطلح والشوك وشيء من سدر قليـــل ينتشـــر ويتوزّع فــــي المناخ الحار والجاف،  في المناطق القاحلة وشبه القاحلــــة.
هذا الصراع أو التطاحن ينخفض التوتــر فيه كلّما انخفض منسوب السوائل وإفرازات الزّوائـــد الأيديولوجيّـــة المهجّنــة داخل الموائد المائيّـــة الذهنيّـــة التي تحوز على الطبقة السفلى للقشرة الدماغية للمجموعـــة، وكلّما ابتعدت نوعا ما الاستحقاقات والمحطّات المصيريّـــة التي ينتظرها المجتمـــع أو يمرّ بهــــا، وبالرغم من حالة الاسترخـــاء والتودّد العامّـــة التي تبرز على مُحَيَّـــى المجتمع طيلـــة هذه الفتـــرة، فالمتعارف في غرب شرقنـــا أنّ محطات التَّحليـــة والتَّصفيـــة والحلحلة وتدوير الزوايا لا تعمـــل بالشكل المطلوب ومردوديتها لا تفارق حدودها الدّنيـــا المكتسبـــة.
أمّا في حالات انفتاح الشهيّة  وغلبة الشّهوات الثّقافيّة لكلّ الجزئيّات الأيديولوجيّة التي تؤثّث الفضاء العام وبالأخص في فترات المخاض العسيرة التي تلامس الإجهاض، أو في فترات تفكك وتحلُّل لأذرع الدّولة الماسكة بمقود التّسيير والتسييس الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وإدارة  الأزمات، وبالخصوص عندما تفرز هذه الدّولة من بين ثناياها الرّطبة والرّخوة واللّزجة أنتلجنسيا مصابة بالعقم وبالتثلّث الصبغيّ، تنشر القحط الثقافي والمعرفي وتوزّع بذاءاتها على المنابر مجّانا، وغنيّة بالهوس التّلازمي والشبق النّفسي للتّربّـــع مجدّدا على أنقاض الخـــراب الذي أودعتـــه مخازن معارفهـــا وبنوكهــــا وجامعاتهـــا ومساجدهـــا ومقاهيها وندواتهـــا وموائدهـــا المستديرة والمقعّرة والمخمّســـة والمسدّسة..الخ، وتحاول معالجته بأياديها المغمّسة في ثريد الدّولة القابضـــة والمشاركة لها في هندسة مساراتها السّابقة وبحبرهـــا الذي جيّرته ماضيا للكتابـــة على مشاهد المعذَّبين صولات وجولات وفتوحات زعمائها في حصون هويّات أبائها وأجدادها وأشِقّائهــا، عندها وعلى يمينها أو على يسارها يزداد الصمم ويستفحل وتتحنط الأفكار وتتصلّب وتغيب الحياة والحيويـــة والحيـــوان (بمعنى الحياة الحقيقية) فيها وتنمو  في أجِنَّتها  بشكـــل مطَّرِد و مكثّـــف وعشوائي الخلايـــا المسرطنة، ونتحصّل على حلبات صراع مؤثَّثـــة إعلاميًّا وشوارعيًّا، صُوَرها مدعاة للسّخريـــة والتّنبير الشعبــــي وكأنّها مستدعــــاة من الموروث البيزنطـــيّ أو الرومانيّ وفي حالات النّشوة القصـــوى يتمّ التّماهـــي مع الكاهنـــة جســـدا وروحــــا وهويّةً في استجـــلاب فريـــد لتناســـخ الأرواح التاريخيّـــة.
 يستمر هذا الصّراع والتّطاحن في شكله الرّمزي الدّيكـــي (صراع الدّيكة)، في فضائنا المعرفي والثقافي والسّياسي، إلى أن نصل حقًّا للإطلال على الأبواب المغلقة والتي تحيل  مباشرة على ساحات التّغيير الحقيقيّة التي تمسُّ كلّ البُنَى المتراكبـــة والمركّبـــة وكلّ المناهج السّالفي- تهجينية (مثل سالفي كربول الجديدة)  والقشورية الستاتيكيّة وهي كلّها متغلغلة في بنية مشاعرنا الجمعيّة وطرق معالجاتنا الآنية أو الانفعالية (وفق ردّات فعل أو رجع صدى)، وحتّى تحين ساعة الإنجاب والولادة الديناميكيّة والايجابية والبنّاءة.....دمتم سالمين
(*)  استعارة لرواية عبدالرحمان منيف شرق المتوسط
-------
-  أستاذ وباحث
ouni_a@yahoo.fr