في الصميم

بقلم
البحري العرفاوي
الإنتخابات وحماية مسار الثورة
 «من ينتخب المسؤولين الفاسدين هم المواطنون الصالحون الذين لا يدلون بأصواتهم» -جورج جان ناثان- 1882 / 1958 
كثيرا ما ينبّه البعض إلى مخاطر قوى الرّدة وإلى أساليبها في تعطيل المسار الثّوري والإرتداد بالمشهد إلى الحالة القديمة، والمقصود عادة بقوى الرّدة هم أصحاب المصالح والإمتيازات والمواقع والسّلطان في النّظام البائد وهم أيضا القوى المحافظة في وعيها وتقاليدها وبِنيتها النفسيّة وفي قِيمها وأساليب تعاملها وطرائق عيشها.
الذين يطلق عليهم قوى الرّدة هم في الحقيقة شرط من شروط قيام الثّورة واستمرارها فهم الطرف الآخر في الصّراع والتّدافع ووجودهم ضروريّ حتى تستمر حالة اليقظة وحتى تظلّ قوى الثّورة مستنفرة متوثّبة وفعّالة، قوى الرّدة تلك لا تمثل خطرا حقيقيّا طالما ظلّت قوى الثّورة تشتغل وطالما ظلّت الإرادة حيّة والأمل في مستقبل أرقى وأنقى متّقدا فيّاضا.
الخطر الحقيقي يكمن في قوى الفوضى التي تمارس النّفخ الشعبويّ وتريد رفع سقف الشّعارات بما يلامس الأوهام ويفارق الواقع والحقيقة، تلك القوى عادة هي قوى عاجزة عن التأثير الإيجابي في المشهد وعن صناعة وعي جديد وصورة لمستقبل مختلف يجتذب إليه عموم الناس فينتظمون في حركة أو حزب يتحرّكون في انتظام وتمدّن وفق رؤية واضحة وأهداف محدّدة ومسار واثق متّزن ورصين بما يضمن عملية البناء الثّوري على أنقاض ما يتهدّم باستمرار من مبنى الفساد والطغيان .. جماهير الثورة تتقدّم في التاريخ مجهّزة بالإرادة والوعي والأمل تقتلع نبتات الشرّ وتغرس الخير تهدم المعابد القديمة ، معابد الإستبداد والإستعباد، وتبتني صروح العدالة ومحاريب التحرّر.
إن قوى الثورة هي قوى متمدّنة وهي قوى منتظمة واعية مسؤولة وبنّاءة وليست مجرد حالات فوران عاطفي أو ردّات فعل غرائزية ثأريّة تدميريّة وهي أيضا ليست قوى غنائميّة تحرّكها غرائز التّحكم والكسب وشهوات التّسلط والإستثراء.
قوى الثّورة تلك لن تجد صعوبات كبيرة في التضييق على القوى المحافظة وفي  تعطيل الماكينة القديمة عن الاشتغال بنسقها العادي ولن تتأخّر كثيرا في تحقيق تقدّم نحو مستقبل أرقى وأنقى ونحو مشهد لعلاقات ومعاملات جديدة ولحياة بين النّاس مختلفة وأكثر أمنا مدنيّا وأمانا نفسيّا.
ولكن الذي سيظلّ يربك مسار قوى الثّورة هم الفوضويّون الذين يمارسون النّفخ الشعبوي فيُلبسون الحقيقة بالوهم والواقع بالخيال ويُزينون للعامّة المسالك المهلكة ومطبّات الخراب.. وإنما يمارس هؤلاء التلبيس على النّاس لا عن حسن نيّة وسوء تقدير بل عن تخطيط مُسْبق وتدبير مُتَعَمّدٍ وعملا بقاعدة الأنانيّين: إمّا أن نَعْبُرَ لوحدنا وإما أن نهْلَك وإياكمْ أو نُهلككم إن استطعنا.
الشعبويّون هؤلاء يعانون عقدة الهزيمة ويخافون الحرّية فلا يخوضون معركة الأفكار والمعاني ولا يقتحمون مواعيد التفريز السّياسي بالإحتكام إلى الإرادة الشّعبية ولا يثقون لا في بعضهم ولا في ما يقولون ولا يطمعون في مقبوليّة لدى الجماهير التي يزعمون التّحدث باسمها... لذلك يظلّون يمارسون الصّراخ والعويل والتّشويش تماما كما التّلاميذ الفاشلين يتمنّون تعطيل الامتحان بل وحتّى إغلاق المؤسّسة نهائيّا ليكون الجميع في الرّسوب سواء.
أرى أن على النّخبة السّياسيّة والفكريّة أن تُغيّر وجهة اهتمامها من الحديث عن قوى الرّدة إلى الحديث عن قوى الفوضى ـ رغم ما بينهما من التقاء مصالح وتشابك أساليب وأفاعيل ـ ولكن الخطر الأكبر إنّما مأتاه التلبيسيّون الذين يمارسون النفخ الدائم في بالونات تتقاذفها الرّياح وتشدّ إليها أنظار الناس فلا يتأمّلون واقعهم ولا يتحسّسون الأرض التي يقفون عليها فيصرفهم زيف الأوهام عن شرف المهام.
لا يريد المهزومون أن يلج مسار الثّورة ميناء الإنتخابات كمحطّة رئيسيّة من محطّات الشّحن الثّوري حين يمارس الشّعب إرادته ويختار من يثق بهم ويطمئن إليهم دون وصاية أو إخضاع وحين تتّضح أحجام الأحزاب والحركات وتتبيّن برامجها وبدائلها من خلال خطابها الإنتخابي أو نصوصها المقروءة.. الإنتاخابات هي إحدى التعبيرات الشّعبيّة عن ممارسة الفعل الثّوري بما هو انخراط في الشّأن العام وبما هو دُربةٌ على التّحرر وعلى تحمّل المسؤوليّة والقطع مع التقاليد القديمة في إخضاع النّاس وسلب إرادتهم واغتصاب أصواتهم بالتّرهيب والتّرغيب والتّزوير والتّخدير والتّغرير. إن إقامة نظام حكم ديمقراطي ينفتح للكفاءات الوطنيّة ويستفيد من كل المهارات والخبرات ويستفيد من النّقد الشّجاع ويجتهد في تحقيق العدالة الاجتماعيّة والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ويُعطي الجهات المحرومة حظوظها في المشاريع التنمويّة ومواطن التشغيل وتحسين ظروف عيش متساكنيها وحماية الحرّيات الشخصيّة والعامّة واحترام الإبداع والفنون وأهلها، كل ذلك من صميم الثّورة وروحها وجوهرها إذ لا معنى لثورة تُبقي البلاد على حالة من الغليان والإنفلات والفوضى ولا معنى لثورة إذا لم تؤسّس لدولة مدنيّة تحتكم إلى إرادة الشّعب وتساوي بين المواطنين في مبدأ «المواطنة» وتقطع مع التّقاليد القديمة في الحكم وفي إدارة الشأن العام.
إن الذين يعتقدون في الثورة ويعتزون بكونهم ثوريين هم الذين سيحرصون على تعبئة الجماهير للإنتخابات القادمة وسيعملون من أجل أن تتجاوز تونس دائرة الفوضى وحالة «المؤقت» وما لها من أثر سلبيّ على هيبة الدّولة ومهابة الحكم وهم الذين سيعملون على أن يستعيد النّاس ثقتهم في العمل السّياسي وفي أهميّة الإحتكام إلى الصّناديق منعا لكل أساليب الغلبة والإنقلاب والإحتراب. 
منطق الدّولة يقتضي التّنظمَ والعملَ وفقَ قوانين وشرائع ويقتضي احترامَ شروط العيش المشترك والخضوعَ للإرادة العامة المعبَّر عنها في الإنتخابات النزيهة . 
ولا تعارض بين منطق الثّورة ومنطق الدّولة إذ الأولى مؤدّية حتما إلى الثّانية وإلا استحالت فوضى وبدائيّة وربما حروبا أهليّة ومناطقيةً وغيرها.
 أنصار الثّورة وهم يتمرّدون على بقايا الوضع القديم إنّما يستشرفون المستقبل، يضربون معه مواعيد يذهبون إليها مجهّزين بالإرادة والوعي والشّوق، إنه مستقبل الدّولة المدنيّة المتّسعة لكل بناتها وأبنائها، يصنعونها وتصنعهم، يستجيبون إليها وتُصغي إليهم. وإنها الدّولة التي تريد أن تكون شريكا مع الآخرين في صناعة عالم متقدّم متحضّر آمن ومتحرّك باتّجاه كمالات «الإنسان»، الإنسان المُفرد/الجمع، المتّحد في هويته الإنسانية والمتكامل في وظائفه ومهامه من أجل بناء الحضارة الإنسانيّة المتجدّدة والمتجهة نحو استعادة جنّة الأرض بعد أن ضيّعها آدم على نفسه وعلى ذريته حين اقترب من شجرة الشرّ.
ومثل هذه المهام التّاريخيّة والحضاريّة لن يتصدّى للقيام بها إلاّ من كانوا على درجة عالية من المسؤوليّة والوطنيّة ودرجة عميقة من الوعي والفطنة وروحيّة أخلاقيّة وهّاجةٍ وإنسانيّةٍ... تبدأ هذه المهام بممارسة المقاومة الفكريّة والأخلاقيّة لمشاريع اليأس والبؤس والسّخف التي يريد الفارغون إغراق التونسيّين وخاصة الشّباب فيها. يريدون زرع الهزيمة النّفسيّة وتقطيع الوشائج الإجتماعيّة وإشاعة الحماقة والخِسّة والجشع في التونسيّين، يريدون تدمير شخصيّة الفرد حتى يفقد الثّقة في نفسه وفي مستقبله وفي من حوله وحتى لا تكون ثورةٌ ولا يتبدل حال.
-------
-  شاعر تونسي
bahri.arfaoui.3@facebook.com