قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
من رمضان إلى آخر
 يعشق النّاس في تونس شهر رمضان ويحبّونه حبّا لا يوصف حتّى أنّهم لا يذكرونه إلاّ واقترن ذكره بكلمة سيدي والنّاس فى هذا البلد يحفلون بالشّهر الكريم ويأملون بركته في معاشهم وفي آخرتهم، فلا يقبل عليهم إلاّ استقبلوه مستبشرين مستعدّين لكلّ ما يطرأ فيه من توسّع في النّفقة وتكاليف في السّهر والعبادة ولا تجد متبرّمين منه إلاّ قلّة من النّاس ليس بينها وبين الدّين إلاّ كلّ البغضاء.
تأخذ المساجد في رمضان زينتها فتزدان بأبهى الفرش وتضاء بأبهج الأضواء لا يختلف في ذلك موقع المسجد ريفا كان أو حضرا، في أرقي الأماكن أوأشدّها فقرا، ولا بأس أن يتكلّف النّاس مصلّين أو غير مصلّين نفقة الزّينة والطّلاء والفراش، بل تراهم يتنافسون في ذلك أيّما تنافس. ولأنّ رمضان هو شهر العبادة فلا بأس أن يغالب  فيه  كل مسلم مشقّة العبادات، آملا من الله ما يرجوه كلّ صائم في هذا الشّهر الكريم من العتق من النّار بعد المغفرة والأجر العظيم .
ليس لشهر رمضان مثيل في الأديان الأخرى، فهو مكرمة خصّ الله بها أمّة محمد دون غيرها من الأمم، وقد كان الأنبياء من قبل بعثة النّبي الخاتم يصومون ولكّنهم لم يكلّفوا أتباعهم صوم شهر كامل من كل عام، وربّما كانت عادة الصّوم معروفة عند الشّعوب غير الموحّدة قديما وحديثا ولكن هذا التّوالي عاما يعقب عاما دون سقوط الفريضة أو استبدالها لم يعرفه غير المسلمين. وإنّنا إذا أنعمنا النّظر في ما كان يأتيه الرّسول في هذا الشّهر الفضيل من عبادات ومناسك وسلوك فسوف نفهم الغاية من الصّوم كما أرادها لنا الرّسول الكريم وهي حفظ النّفس بما فيه من فوائد للبدن وحفظ العمران باجتماع النّاس على كلمة سواء ورأي واحد ومنسك واحد حيث تنقاد الأمّة كلّها والمجتمع كلّه إلى ضابطة الدّين في وقت واحد بما يشبه الإجماع الكامل وهي ضابطة لا تعلي من شأن المعبود وحده وإن تكن تلك غاية المسلم السّامية ومقصده من التوحيد وإنّما تعلي من شأن العابد أيضا إذ ترفع من قدر نفسه وتهذّبها وتزكّيها وتجعلها غاية في الصّفاء فلا يكتمل الشّهر حتى تكون النّفس قد بلغت أرقى درجات الكمال.
ليس من العسير أن ندرك مقدار ما بين صفات الرّسول صلى الله عليه وسلم وبين ما يتّصف به رمضان الكريم من صلات فهو النّبي المبعوث رحمة للعالمين ورمضان أوّله رحمة وآخره عتق من النّار وما بعث محمّد إلاّ ليتمم مكارم الأخلاق وما من شهر وجب فيه على المسلم التّحلي بأرفع درجات الخلق الحسن مثل رمضان، فإن سابّك أحد أو شاتمك فقل اللّهم إنّي صائم. وقد كان الرّسول أجود ما يكون في رمضان حتّى قيل أنّه كان أجود من الرّيح المرسلة ولا يتقبّل الصّوم ألا بعد أداء حقّ المساكين والفقراء قبل العيد، أما أثناء الشهر فليس للإنسان إلاّ ما سعى وما من مناسبة أوفر للمرء من مثل هذا الشهر يسعى فيه للخير سعيا دؤوبا كأنّه يغالب الشّهر أن ينتهي قبل أن يغتنمه والصّوم عمل يرقّق النّفس ويجعلها أقرب إلى البرّ ممّا كانت عليه في بقيّة الشّهور، أمّا صفة النّبي في الجدّ في العمل والصّبر على الخطب والسّعي في الدّنيا فقد تجلّت خيرا في حياة المسلمين أكثر من مرّة عبر الزمان ولعلّ أقرب تجلّياتها إلينا نصر رمضان العظيم في حرب سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين الذي تحقّق في شهر رمضان والجنود صائمون.
إنّ المرء ليحار من كثرة الفضائل في هذا الشهر وكم  يودّ أن يرى فيه المسلمين قد ازدادوا قوة ولم يعودوا متخلّفين لا يحسب لهم حساب، متشرذمين يزدادون انقساما عاما وراء عام، مختلفين يتآمر بعضهم على بعض وحالهم هذا ينعكس على كل شأن من شؤونهم، فهم لا يتوحّدون ولا يجدون حرجا من المناكفة في أبسط الأشياء ولعلّ اختلافهم في تحديد دخول الشّهر ورؤية الهلال عند انقضائه أصبحت مسألة روتينية كأن لا سبيل للتّغلب عليها رغم التّقدم العلمي وثورة الاتصالات.
هل نحن حقّا أمّة رمضان؟ هل لهذا الشّهر من نصيب عندنا غير الحبّ وشيء من العبادة غايته الخلاص الفردي في الآخرة ؟ ألا يحزّ في النّفس ما نراه من مأساة في سوريا وفي العراق وفي أكثر من قرية ومدينة من قرى المسلمين ومدنهم ؟ كم مضى على مآسينا من شهر كريم دون أن ندري لنهاياتها معادا ؟ لماذا لا تجتمع إرادتنا على محاربة الفقر والقضاء عليه نهائيّا وهو الدّاء الذي ينخر أكباد الفقراء ويشعرهم بالذّلة؟. إنّني على يقين من أنّنا سنسأل الأسئلة ذاتها في رمضان القادم دون أن نجد أجوبة تشفي الغليل ولن يبقى لنا حينها إلّا ما بقي لنا في سالف السنوات  أن نصوم الشّهر محتسبين، آملين، داعين الله أن يغيّر من حالنا فهو نعم المجيب.
-------------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com