حديقة الشعراء

بقلم
عبداللطيف العلوي
بنتُ السّماءْ .. ( عن أسماء البلتاجي ، شاهدةً وشهيدة )
 هي ليستِ امرأةً بما يكفي ..
كما خُلِقَتْ نساءُ الأرضِ أجمَعُهنَّ من حوّاءَ حتّى آخرِ الملِكاتِ ، 
ليستْ طفلةً موعودةً بكمالها في عالمِ النُّقْصانِ ، 
وهْيَ كما أرى ..
شيءٌ قليلٌ من حقيقةِ ما جرَى ..
ولأنّني مازلتُ إنسانا بما يعني الشّهادةَ ، لم أزَلْ ..
طفلا غريرًا ذاهِلاً متعثِّرَا 
ووددتُ لو أبكي عليها ساعةً ، أو بعضَ يومٍ ،
أو لأسبوعٍ ... وأُشفَى ..
غير أنّي منذ أن سمّيتُها بنتَ السّماءِ كسرتُ ضلعًا داخلي ،
وتركتُ وجهي بين آلافِ الوجوهِ مُبعْثَرَا .
هي ليستِ امرأةً بما يكفي ..
لِتُعرفَ من بعيدٍ وهي مُقبِلةٌ برائحةٍ مميّزَةٍ لعطرٍ باذِخٍ، 
ما حدّثتْ عنها مجلاّتٌ كَـ « سيّدتي»، 
ولا اعتادتْ نوادِي الرّقْصِ أو قصفَ الحرائرِ في العُلَبْ .
لمْ تعترفْ يومًا بعيدِ الحبِّ في زمنِ المهانةِ والغضبْ
لم تحتفلْ مثل النّواعِمِ بانتصاراتِ النّساءِ ، 
وفضلِهنّ على الرّجال المُتعبينَ بلا تَعبْ .
لم تُطفئِ الأضواءُ شمعةَ روحها ،
كانت خواتمها بلا ثمنٍ ..
فراشاتٌ ترِفُّ على أصابعها النّديّةِ ، والخطى ..
مطرٌ خفيفٌ فوق أوراقِ العنبْ 
أسماء يا من علّم الأسماءَ ... كانتْ 
تعشقُ الشّعر الفصيحَ و تحفظُ القرآنَ ، 
تغرَقُ في أحاديثِ السّياسةِ ...
دونما رقصٍ على حبلِ الخُطَبْ 
وهي ابنةُ العشرينَ ، أو ما دونها ..
ما كانتِ امرأةً بما يكفي ..
لِتلهمَ شاعرًا فيقولَ فيها مثلما غنّى جميلٌ في بثينة
والحديقةُ تحتَ شرفتها يحاصرُها العسَسْ 
كانت تردُّ البابَ في خوفٍ وتصرخُ : يا أبي ..
جاء الحرسْ ..
وتشدُّ في وجع مخدّتها ، وتبكي .. يا أبي ..
لمَ دائما يأتون ليلاً عندما أحتاجُ حضنكَ يا أبي ..
وأنا أخاف اللّيلَ ، 
ثمّةَ من يراني في الظّلامِ ولا أراهُ ..
أحسّ من حولي خُطاهُ ..
أحسّها تمتدّ نحو فمي وصدري يا أبي في اللّيلِ باردةً 
وتخنقني يداهُ 
هي ليستِ امرأةً بما يكفي لتصبحَ شهرزادَا ..
لم تقلْ يومًا سأُطفئُ جمرةَ السّلطانِ في لحمي ، 
ولا قالتْ أريدُ العشقَ زادَا ..
كان يسكنها قطيعٌ من أرانبَ شبهِ راقصةٍ وغزلانٍ 
وتحلمُ باكتمال البدرِ فوقَ حديقةِ البيتِ الصّغيرِ ،
كأنّما خُلِقتْ بلادًا .. للّذي يبكي البلادَ ..
وهْيَ مَنْ هي بين إخوتها . 
تخاصمهُمْ إذا ظلمُوا ..
تُصالِحُهم إذا ندِمُوا ..
وتُمْعنُ في أمومتِها ، ..
كأنَّ بها شُعورًا أنّها سَتُزَفُّ قبل أوانِها للقبرِ،
مثلَ فراشةٍ حلُمتْ بنجمتها تُداعبُ خدَّها ..
وبأنّ دميتها ستبكي بعدها ..
وبأنّ دُميتها ستكبُرُ وحدَها ..
وهي ابنةُ العشرينَ أو ما دونها ..
لكنّها « أستاذَتي» ... 
يبكي محمّدُ وهو يرثيها ولا يرثِي سواهُ ..
وينحني عمّارُ فوقَ ترابِها ، يوصيهِ : كنْ حذرًا حنونًا ..
فهي من كبدي ، ومن ضلعِ الملائكةِ احتضنها يا ترابُ 
وكن حنونًا ..
وهي سرُّ أبٍ كنانيٍّ عظيمٍ ..
عاتبتْهُ على حياءٍ ذات ليلتِها الأخيرةِ .. يا أبي ..
حتّى ونحن معًا هنا .. بالكادِ صرْنا نلتقي ..
فمتى تجودُ بك الحياةُ لساعةٍ .. من دونِ خوفٍ يا أبي ..
يبكي محمّدُ ، ثمّ يحضنها بقلبٍ مُتْعبِ ..
ويرى  صغيرتَهُ عروسًا بين آلافِ النّجومِ تَحُفُّها ..
فتقولُ : ليس الآنَ ... 
موعدُنا غدًا عند الظّهيرةِ يا أبي ..
وهي ابنةُ العشرين أو ما دونها ..
كانتْ سماءً ممطِرَهْ 
أو سروةً عطشى تنامُ هناكَ حالمةً بريحٍ مُمْطِرهْ ..
يأتي الصّباحُ ..
ولا تُفيقُ على أذانِ الفجرِ رابعةٌ كعادتِها ..
وتُنْقلُ عبرَ شاشاتِ العواصمِ كلُّ أطوارِ الجريمةِ  
دونما خُدَعِ 
إلى كلّ العواصمِ دونما وَجَعِ ..
إلى كلّ العواصمِ دونما ..
لكنّ أسماء الّتي وقفتْ ببابِ الله يوم زفافها ..
مالتْ قليلاً مثل سنبلةٍ ولم تَقَعِ ..
مالتْ قليلاً حين مال الظّلُّ فوق ذراعِ رابعةٍ وما سقطتْ 
من قالَ إنّي قد سمعتُ لها أنينَا .. !
أو لمحتُ لها جبينَا .. !
مثل خدِّ الشّمس ينزفُ تحت عينِ الكامِرَا ..
من قال إنّه قد رآها تُغمضُ العينينِ أو تُرْخِي الوَتِينَ ..
من قالَ إنّه قد مشى خلف الجنازةِ ، 
أو بكى كسماءِ أيلولَ الحزينةِ فوقَ تُربتِها ،
وأبكى الياسمينَ ..
من قال إنّ حبيبها الغالي أباهَا 
لم يُودِّعْها ولا صلّى عليها يومَها 
وبأنّها تركتْهُ بعد رحيلِها في ظلمةٍ أخرى سجِينَا؟
أسماءُ ، يا من علّم الأسماءَ 
أجملُ ما تُعمِّرُهُ الحياةُ ، وما أضاع الموتُ فينا ...
وهْيَ سيّدةُ السّماءِ وزهرةُ الشّهداءِ ، 
مفتاحُ الجريمةِ فوقَ أكفانِ الضّمائِرِ والجباهِ مُعلَّقٌ
من قالَ إنّا قدْ نَسِينَا .. 
من قالَ إنّا قدْ نَسِينَا .. 
------
-  شاعر  وأديب تونسي
alouiabdellatif222@gmail.com