قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الانتخابات وأشباه الحلول
 دخل الزعيم الحبيب بورقيبة قصر قرطاج رئيسا لأول جمهورية في تونس وكان ذلك باختيار من أول مجلس تأسيسي منتخب ألغى الملكيّة باسم الشّعب وأعلن الجمهورية تحت شعار الحكم للشّعب .
رضي الشّعب بالدّستور وبما جاء به وبدأ حقبة جديدة من البناء والتأسيس ولم يكن همّ الرّئيس تونس الجديدة كما كان يبشّر بها فقط، بل كان همّه التّجديد لنفسه بين حين وآخر مستغلاّ ما كان أحاط به نفسه من هالة الزّعامة التي استطاعت بحكمتها وتضحياتها إخراج مستعمر جشم على البلاد والعباد ما يقرب من قرن. ولم تأل الآلة الاعلامية والحزبيّة حينه جهدا فى جعل بورقيبة يستطيب البقاء وقد أصبغت عليه هذه الآلة ألقابا كثيرة قطعت بها الطريق عن أي منافس، فهو زعيم الحزب والوطن وقائد الاستقلال  وباني تونس الحديثة وباعث الأمة من عدم التاريخ وصولا إلى لقب المجاهد الأكبر وهو اللّقب الفريد من نوعه الذي حوّله الى ما يشبه المقدّس في نظر نفسه خاصّة. وهكذا تفتّقت عبقريّة الزّعيم وبطانته عن إبداع فريد فدعا النّاس لاستفتاء يكون بموجبه رئيسا مدى الحياة، فأراح الناس واستراح.
غير بعيد عنا من جهة الشّرق جاء الزعيم معمر القذافى قائدا لثورة أطاحت بالملك اللّيبي وبدأت عهدا جديدا من الحكم  وكصاحبه لم يدّخر هو الآخر جهدا لكي يظلّ قابضا على الحكم سنة بعد أخرى في تناغم تامّ بينه وبين آلة الحكم التى صنعها بيديه حتّى صار أنين القوميّة ورافع راية ليبيا وباني عزّها وبذلك ظلّ يحكم البلد بقوة البطش والتزوير حتى اهتدى هو أيضا إلى حيلة لا سابق لها، فجعل من نفسه قائدا للثّورة فوق مؤسّسات الدّولة غير قابل للتّغيير أو المنافسة أو المساءلة ولم يكن بالتّالي في حاجة للتّرشح أو الانتخاب، فقد انتخب نفسه بنفسه فأراح هو أيضا واستراح.
هاذان نموذجان لا غير، وما من حاكم عربي أعار الانتخابات أي قيمة ولا كان أي واحد منهم يرى في نفسه الحاجة لسؤال النّاس عن رأيهم فى ما يفعله بهم وبالوطن  بل الأدهي أن هذا الحاكم العربي كان يقدّم نفسه للنّاس على أساس أنّه يمنّ عليهم بقبوله منصب القيادة والرّئاسة لشعب غير مؤهّل بعد للتّقدم والحداثة فهل كانت العلّة في هذا الحاكم العربي المتسلط؟ أم العلّة في الشّعوب التي لم تكن مهيأة لاختيار حاكمها؟ وهل كان لقرون الاستبداد الطويلة وما أعقبها من استعمار وانحطاط أثرها في استكانة هذه الشعوب وانقيادها لهؤلاء المستبدّين؟ ليس من العسير التذرّع بكل هذه العلل أو بعضها وسيجد كل متذرّع حجّة بالغة في ما يدعيه من أسباب إذ لم تكن شعوبنا تعرف الاختيار في علاقتها بالحاكم وإنما كان الحاكم يغتصب الحكم من سابقه بالدّم وبالعصبيّة ليبقى فيه حتى يفتكّ منه أو من سلالته ولم يكن الملك إلا عضوضا إلى أن  يهرم وتدركه عوامل الوهن فيأتي من يستطيع افتكاكه. ولم يكن الحكّام إلاّ مستبدّين يذودون عن ملكهم بالدّماء والسّيوف غير آبهين بأنات ضحاياهم وما أكثر ضحايا الملك والملوك على امتداد تاريخنا العربي .
إنّنا إذا نظرنا إلى الثورات العربيّة الحديثة انطلاقا من تونس وصولا إلى سوريا بمعيار الإنصاف، فسنلاحظ فداحة ما فعله التّسلط ببلدان الرّبيع العربي وسنقف إجلالا لهذه الشعوب التي استطاعت أن تغيّر الأوضاع في هذه البلاد وأن تنتشل نفسها من الدّرك الذي كانت فيه غير أنّنا لن نستطيع بأيّ حال أن نبرّر ما أعقب هذه الثورات من عجز عن إدارة الشّأن السّياسي وشؤون الحكم عامّة في ظل الحريّة التي أتاحتها الثّورات وأتاحها غياب الدّكتاتور المتسلط لهذه الشعوب. أو نفهم لماذا دخلت النّخب طورا من الصّراع المجنون كاد أن يعصف بمهد الثّورة تونس وأعاد لمصر قاتلا مجرما على ظهور الدّبابات ويكاد الوضع في ليبيا  ينحدر إلي منزلق الحرب الأهليّة؟ 
كان التونسيّون ينادون منذ ما يزيد عن قرن ببرلمان تونسي وحين جاء هذا البرلمان بإرادتهم وإن متأخّرا استبدلوا حكمه وقد أكره بعضهم بعضا بحكم معظم أمره بيد المتكالبين على البلد من مستعمري الأمس والطّامعين في خيراته من منافسيهم. فلماذا كانت الانتخابات إذن ولماذا لم يرض قلّة من النّخبة بما اختاره النّاس ولم يجدوا في سبيل إسقاط هذا الاختيار حرجا في استدعاء مستبدّ الأمس أوأعوانه من الخارج؟ لماذا أسقط الرئيس محمد مرسي بمعاونة نخبة النّظام القديم وغباء مناضلي الأمس لتنصيب دكتاتور جديد أشدّ سوءا من سابقيه؟
العلّة إذن ليست في الشعوب و لا هي في قرون الاستبداد الطويلة ولا هي في النخبة التي نازلت طويلا وقارعت الإستبداد ولا هي في أطماع الطامعين وممثليهم من نخب غريبة عن شعوبها وليست في كوننا لم ننضج بعد كشعوب ولم نفق من غفلتنا الطويلة وإنما العلّة في كل هذه العلل مجتمعة ولذلك ما زال أمامنا الكثير من العمل ولا فائدة حينئذ من الإستقالة أو البحث عن أشباه الحلول. 
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com