في العمق

بقلم
د. مصباح الشيباني
الصحيفة أول دستور في الإسلام
 المقدمة
في ظلّ التشريع الإسلامي حظيت مختلف الأقلّيات والأديان غير الإسلاميّة في المجتمع العربي والإسلامـــي بما لم تحظ به أقليات أخـــرى من حقوق وحرّيـــات في أي قانون وفي أي بلد في العالم. فقد استند الرّسول (صلى الله عليه وسلم) في تنظيم هذه العلاقــــة إلى القاعـــدة الربّانية التي وردت في قوله تعالى «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُـــمْ مِنْ دِيَارِكُـــمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ »(2). لقد حدّدت هذه الآية بشكل واضــح الأساس الأخلاقي والقانونـــي الذي يجب أن يعامل به المسلمون غيرهـــم، وهو البرّ والقسط لكل من لم يناصبهم العداء، وهي أسس لم تعرفهــا البشرية قبل الإسلام. وقد أرسى الرّسول (ص) هذه القيـــم بعد هجرته إلى المدينـــة من خـــلال وضع «الصّحيفة» لضمان التعايش بين مختلف مكونات المجتمع الجديد. وأصدق تعريف لهـــذه «الصّحيفة» هو ما قاله عنها ابن اسحاق:« وكتب رسول الله (ص) كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيها يهود وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم(3).
فإلى أي مدى يمكن القول أنّ «صحيفة المدينة» قد أرست اللّبنات الأولى للدّولة المدنية ولقيم المواطنة في تاريخنا العربي والإسلامي؟ 
«الصحيفة» أوّل دستور في الإسلام: 
مع هجرة الرّسول (ص) إلى المدينة انتهت مرحلة تاريخيّة وابتدأت مرحلة جديدة. لقد كانت المرحلة المكّية مرحلة الدّعوة السّرية إلى الدّين الجديد والصبر على معاداة مشركي أهل قريش، أمّا المرحلة المدنيّة فبدأ معها في تأسيس أوّل دولة إسلاميّة. ولم يكن معنى الهجرة مثلما يرى البعض هو التخلّص من الفتنة والاستهزاء فحسب، بل كانت الهجرة مع هذا تعاونا على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن(4). ومنذ أن وصل الرّسول (ص) إلى المدينة بدأ في وضع الأسس الأولى التي ستجعل من سكان هذه المدينة ( المهاجرون والأنصار واليهود) يكوّنون مجتمعا واحدا ومتّحدا على أسس الدّين الإسلامي ومبادئه السّمحة. فقد شرع أولا، في بناء المسجد لربط المسلمين بربهم سبحانه وتعالى. ثم قام ثانيا، بالمآخاة بين الأنصار والمهاجرين. وثالثا، قام بإبرام معاهدة بين المسلمين واليهود الذين يسكنون المدينة من أجل تحقيق التعايش السلمي معهم في ظل الدّولة الواحدة. ولتشكيل الأسس التشريعيّة الفعليّة لهذه الدّولة قام الرّسول (ص) بوضع ما باتت تعرف بـ «الصّحيفة» التي أسّس بمقتضاها أول «عقد» سياسي واجتماعي بين مختلف سكّان يثرب وطوائفها دون تمييز، فشكّلت هذه الوثيقة مثلما يذهب أغلب المفكرين المعاصرين(5) إلى اعتبارها أول «دستور» في الإسلام تم وضعه وفق معايير سياسيّة وأخلاقيّة جديدة في تاريخ العرب والمسلمين حيث انتفت فيها قيم العصبيّة القبليّة والمذهبيّة الدينيّة وحضرت فيها قيم المواطنة والدّولة المدنية.
فهذه الوثيقة ليست نصّا قرآنيّا بل هي عبارة عن «عقد» قانوني أو «دستور» وضعه الرّسول (ص) في ظل أحكام النّص القرآني. وهذه الصّحيفة كانت أول وثيقة لتنظيم العلاقات في مجتمع من المسلمين ومن غير المسلمين على أسس الحياة المشتركة بينهم جميعا، وقد وضعت لتنظيم الحياة المشتركة في منطقة جغرافيّة واحدة هي المدينة ولم تستثن أحدا من سكان هذه المدينة سواء كانوا من المؤمنين أو من غير المؤمنين مثل اليهود والوثنيين. لقد تمّ تشريكهم جميعا في إدارة الشأن العام للمدينة ـ أثناء الحرب والسّلم ـ وألزمتهم كلهم بالدّفاع عن مدينتهم دون تفرقة أو تمييز. فمن خلال هذه الصّحيفة توحدّت كل فئات وطوائف هذه المدينة في إطار الانتماء إلى دولة جديدة لا تستند إلى وحدة الدّين وإنّما إلى وحدة الأرض، أي إلى الإنتماء المشترك إلى «الوطن» الواحد.
تبدأ الصّحيفة بتحديد هويّة الطّرف الأوّل في هذه «المعاهدة» فتقول:
«بسم الله الرّحمان الرّحيم. هذا كتاب من محمد النبي (ص) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنّهم أمّة واحدة من دون النّاس.المهاجرون من قريش على رِبْعَتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم(6) بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم(7) الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. ثم ذكرت مختلف أسماء القبائل المقيمة في المدينة وأهمّها «بني ساعدة» و «بني النجار» و «بني عمرو» وغيرهم.
ثم تقول: «وإنّ المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا ( مثقلا بالدًّيْن) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل». وتضيف «لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإنّ المؤمنين المتّقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة(8) ظلم أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإنّ أيديهم عليه جميعا ولو كان ولَدَ أحدهم، ولا يقتُلُ مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإنّ ذمة الله واحدة: يجير عليهم أدناهم، وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون النّاس، وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم»(9).
هكذا أتت هذه «الصّحيفة» على ذكر أهل يثرب طائفة طائفة دون استثناء. وأكّدت أيضا على تحريم القتال في ما بينهم، وكذلك على مبدأ الدّفاع المشترك عن هذه المدينة «وإنّه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويهن وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة»(10). وتقرّر هذه الصّحيفة أن أي خلاف يحدث سواء بين المسلمين أو بينهم وبين اليهود مرّده إلى قول الله عز وجل ومرجعه هو رسول الله الكريم. وتختم الصحيفة في الفقرة الأخيرة بالتأكيد على أن العلاقات في يثرب يجب أن تبنى على البرّ والإحسان في المعاملة وعلى حفظ الأمن بصفة مشتركة «وإنّ البرّ دون الإثم: لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإنّ الله على ما في هذه الصحيفة وأبرهن وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنّه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإنّ الله جارٌ لمن برّ واتقى، ومحمد رسول الله (صلى الله وعلى آله وسلم)»(11).
يبدو من خلال هذه الفقرات التي أوردناه أنّ القضيّة الأولى التي شغلت بال الرّسول (ص) بعد هجرته إلى المدينة هي تنظيم طرق «التعايش» بين المهاجرين الذين غادروا مكة تاركين ديارهم وممتلكاتهم وبين الأنصار. ولكي يجسّم هذه الدّعوة إلى واقع ملموس اجتماعيّا وسلوكيّا سنّ نظام «المؤاخاة» بينهم، وأصبحت الأخوّة في الدّين محلّ الأخوّة في النّسب، وحلت الأمّة محل القبيلة والعشيرة(12).
إنّ هذه الصحيفة أحدثت ثورة حضاريّة لا مثيل لها ممّا سبقها من حضارات وثورات، لا لمجرد أنّها كانت سلميّة وثوريّة، ولكن لأنّها ارتقت طفرة واحدة بمجتمعات قبليّة عريقة في العصبيّة، إلى مرحلة «الشّعب» الواحد والمتنوع في الآن نفسه الذي قبل في صحيفته ( الدّستور) أن تقطع العلاقات والرّوابط القبليّة السّابقة التي كانت تميّزه لتفسح مكانا حضاريّا لعلاقة الانتماء الشّعبي إلى الوطن. فقد أقرّت هذه الوثيقة نسقا من التعاون بين المؤمنين وغير المؤمنين وأهل الكتاب على أساس احترام الآراء وحمايتهم على اختلاف أديانهم وأعراقهم. حيث أكدت «وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وإنّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنّه لا يوتغ إلا نفسه»(13). هكذا أرست هذه «الصحيفة» أسسا قانونية وقواعد جديدة للتعامل بين مكوّنات هذا المجتمع المتعدّد  في إطار الاحترام المتبادل بينهم وحماية لخصوصياتهم الدّينية، وألزمت جميع الطوائف بعدم التعدي على بعضهم البعض باعتبارهم يكوّنون أمّة واحدة.   
الهوامش
(1) صحيح البخاري، الجزء الأول، كتاب الجنائز، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2000م، ص 310.
(2) سورة الممتحنة، الآية 08.
(3) الإمام أبي محمد عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، مؤسسة المعارف، بيروت، لبنان، 1426ه ـ 2005م، ص 254.
(4) الشيخ صفي الرحمان المباركفوري، الرحيق المختوم، بحث في السّيرة النبوية، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2002م، 170.
(5) أنظرمثلا، محمد عمارة، الإسلام والمستقبل، دار الشروق، القاهرة، 1984.
محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،1990.
(6) عانيهم أي أسيرهم.
(7) المعاقل: هي الدايات.
(8) الدسيعة: يعني العظيمة.
(9) ابن هشام، السيرة النبوية، مصدر سابق، ص 254.
(10) ابن هشام، السيرة النبوية، ص 255.
(11) ابن هشام، السيرة النبوية، مصدر سابق، ص 255.
(12) محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1990، ص 96.
(13) ابن هشام، السيرة النبوية، مرجع سابق، ص 255.
-----------
-  أستاذ وباحث اجتماعي، جامعة صفاقس ـ تونسabounour05@yahoo.fr