في الصميم

بقلم
لسعد الماجري
في جدوى الدراسة التكوينيّة للقرآن الكريم
 إن دراسة القرآن من الوجهة التكوينية أي البحث في مساره التكويني لم تحظ بالجانب الأوفر من الاهتمام ويعود ذلك حسب رأينا إلى جملة من العوائق المعرفية ضمن مجال الثقافة العربية عموما وفي إطار الفكر الإسلامي خصوصا :
(1) أما العائق الأول فهو اعتبار أن هذه الأسئلة مستجلبة أصلا من داخل الفكر الغربي وأنه فيما يخصّنا، فلا حاجة لنا لمثل هذه الأسئلة التي لا يتأتى منها إلاّ الأذى لديننا ولكتابنا الذي جمع فأوعى، وهو كتاب لم يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه. وهذا الكلام في جملته إن أمكن لنا تسويقه في الداخل الحضاري، لا يمكننا أن نقنع به الآخر الذي لا يرى أي مانع في دراسة كتب الإنجيل أو التوراة من الزاوية التكوينية وهذا غير غريب على الفكر الغربي وذلك لسببين أساسيين:
أ‌- هو أن الكتب التي هي موضوع الدراسة التكوينية تنسجم أساسا مع مثل هذا النوع من البحث، فمثلا التّوراة وقعت كتابتها في البداية من طرف النبي موسى عليه السلام نفسه الذي بوحي من الله أمره أن يكتب ما سمّي بسفر التكوين، ثم واصل كتابته بالوحي أربعون كاتبا من مختلف الأجيال وذلك لمدة راوحت الألف وستمائة سنة. في نفس السّياق لا نجد إنجيلا واحدا وإنما أربعة أناجيل على الأقل تروي ما نقله أصحابها من سيرة السيد المسيح عليه السلام، فهي تحاكي كتب السيرة النبوية عندنا وكلمة إنجيل تعني أساسا «البشري». هذا كلّه يؤيد المسعى الذي ذهب إليه الكثير من الباحثين في الغرب أو من المستشرقين في دراسة تكوين هذه الكتب وكيف كان مسارها عبر التاريخ.
ب‌- أن الفكر الغربي تكوّن على آثار القطيعة مع الكنيسة التي احتكرت إلى حدّ كبير الفهم الدّيني وتناقضت في عديد المناسبات مع الفكر العلمي، فانبرى هذا الأخير يبحث في طيّات الكتب السماويّة، طارحا أسئلة متعددة في مسار الكون والتكوين لهذه الكتب لأن الكتبة بشر والبشر نسبيّون ومخطئون.
فهل بالإمكان التعامل مع كتابنا المجيد القرآن الكريم بنفس المنهج ؟
لقد تعرّض المفكر عابد الجابري لمثل هذا السؤال المنهجي واستخلص أن تنزيل مثل هذا التساؤل على القرآن ضمن الثقافة العربية الإسلامية لا يمكن أن يؤدي إلى نفس النتائج، معتبرا أن السؤال في حدّ ذاته لا بدّ من طرحه رغما عن ذلك كلّه ولكن ضمن آفاق مختلفة عن الإطار الذي استعملت فيه في الفكر الغربي. ونحن من وجهة نظرنا نرى أن السؤال في حدّ ذاته يبقى مفيدا ولكن ضمن آفاق مغايرة لا تسعى للتقليل من كتابنا الكنز ولكن بالعكس من ذلك تماما تبحث على دعم فهمه ضمن الإطار التاريخي التكويني وذلك انطلاقا من الملاحظات الهامة التالية التي نسوقها هنا والتي تؤكد بما لا يدع مجالا للشّك في أن القرآن يختلف كثيرا عن الكتب الأخرى في مساره التكويني :
أ‌- إن القرآن لم تقع كتابته في 1600 سنة كما كان الحال بالنسبة للتّوراة مثلا وإنما ضمن إطار زماني أقصر بكثير وفي أقصى الحالات مدّة 23 سنة وهي المدّة التي نزل فيها الوحي على قلب الرّسول الكريم منجّما أي على مراحل.
ب‌- أن الكتب الأخرى كالتوراة مثلا نزلت دفعة واحدة ولكن كتابتها امتدت على فترة طويلة وهذه الفترة كافية لكي يقع التشكيك في بعض النّصوص وارتباطها بهوى أصحابها بينما القرآن وقع نقله مباشرة سمعا عن الرسول الكريم من طرف حفاظ الوحي ضمن جيل واحد من الصّحابة وهو ما يؤكّد صحّة نقله لأن الرسول الكريم كان حاضرا في التاريخ وكان هو نفسه من يتولّى إدارة العمليّة كلّها وتبيان أين يجب وضع تلكم الآية في أي سورة من السّور. 
(2) أما العائق الثاني فهو اعتبار أن الإسلام كدين جاء في ظرف تاريخي استثنائي عمّت فيه الجاهلية ومظاهر التوحّش الإنساني في أرجاء الجزيرة العربية وأن الإسلام وجد أناسا لا يتميزون بأي حسّ أخلاقي أو إنساني وإنّما مجرد دواب تمشي فوق الأرض. هذا التعامل مع الفترة التي نزل فيها الوحي فيه حسب رأينا الكثير من التجنّي ومجانبة الصّواب. 
(3) أما العائق الثالث فهو اعتبار أن القرآن ككتاب تفرّد في دعوته وكان يمثّل قطيعة مع الشرائع السماوية التي سبقته، أي بعبارة أوضح كان عنوانا جديدا لدين جديد مبني على عقيدة التوحيد في حين كان الدّين السّابق (المسيحية مثلا) مبنيّا على عقيدة التثليث والتي تمثّل انحرافا كاملا على الوجهة الصحيحة للدّين القيّم. وهذا الكلام رغم صحته عموما يلغي نوعا ما استمرار التواجد التاريخي لعقيدة التوحيد في الفضاء الجغرافي للجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام وأن عقيدة التوحيد تواصلت في الانتشار رغم القيود والتضييق عليها من طرف الدّين الرسمي السائد وهو المسيحية (دين بيزنطيا القديمة) وأن القرآن لا يمثّل استمرارا لكتب سبقته وإنما كتاب فريد من نوعه وذلك لأنه بامتياز دعا إلى عقيدة التوحيد حين سادت عبادة الأصنام فكان مرفوضا من قريش....الخ. 
(4) أما العائق الرابع فهو اعتبار أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه كان أمّيا وأن أمّيته يمكن اعتبارها حجة في كون القرآن كتاب ذو إعجاز وذو مصداقية، إذ كيف لرجل أمّي لا يعرف القراءة ولا الكتابة أن يأتي بكتاب كالقرآن؟ والمشكل هنا أن معنى الأمّية قد وقع فيه شطط ويثبت لنا الجابري في بحثه أنّ الرّسول لم يكن أمّيا بهذا المعنى كما نؤكد نحن أنه حتى في حالة القبول فرضا بأمّية الرّسول، فان ذلك لا يصلح أن يكون حجة على الإعجاز اللغوي والعلمي للقرآن كون من تنزّل عليه كان لا يفهم القراءة والكتابة وإنما هذا الإعجاز يكون إثباته بالمحتوى ذاته لكتاب الله وفي هذا ننحو منحى مشابها لما ذهب إليه «ابن رشد» في إثبات الصّحة بجودة وجدوى الشريعة التي يدعو إليها القرآن كونها تدعو إلى قيم الخير والهدي والرشاد والحكمة والعدل. 
سوف نحاول في مقالات تالية التعمّق في كل هذه العوائق المعرفية التي سنؤكد مرة أخرى في معرض حديثنا عن ملابسات نزول الوحي وظهور الدّين الإسلامي أن هذه المسائل التي أسميتها عوائق للمعرفة المحقة هي في الحقيقة متهافتة أو مبالغ فيها من طرف بعض علمائنا القدامى ومسار غير دقيق انخرط فيه الكثير من كتّابنا فيما بعد دونما تمحيص ولا تعمّق وإنما نقلا عن من سبقهم دون تحقيق.
إن دراسة القرآن من الوجهة التكوينية كما بينّا سابقا لا يمكن أن ننظر إليها من زاوية الاتهام: اتهامها بالسعي إلى التشكيك في قدسية كتابنا أو مدى صدقه. إن هذه النظرة المبنية على الخوف من الدراسة هو نوع من هشاشة الفكر والتقوقع داخل الأنا الحضاري ومهاجمة كل فكر نوعي علمي باحث عن الحقيقة. والأجدر بنا الإقلاع من هذا المنحدر الخطير والانطلاق نحو مشروع عميق للبحث في مسار تكوين كتابنا حتى نكون بالفعل أهلا له كما فعل الآخرون مع كتبهم فتبيّن لهم درجة الإضافات التي وقعت على كتبهم وفهموا إلى حدّ كبير مدى التحريف الذي أصاب كتبهم. نحن هنا ننطلق في الدفع والتحريض على مثل هذا البحث ونحن نقف على أسس متينة من الثقة والتأكد من مدى صدقيّة كتابنا وأنه لم يأته زيغ ولا بطلان، فالله حفظه عبر السّنين وفي طيّاته من المحتوى ما يؤكد ذلك. فنحن إذا في هذا المشروع ليست لنا نفس الأهداف ولا نفس الطريقة التي توخّاها الدارسون الغربيون أو المستشرقون لكتب التوراة والإنجيل، وإنما نريد بهذا فهم العديد من الحيثيات التي ضمنها انتقل القرآن من حالة الوحي (الكلام المسموع من ملاك الوحي جبريل عليه السلام أو الكلام المنزّل مباشرة على قلب الرسول الكريم) إلى حالة الكتاب التّام المكتوب ضمن دفّتي كتاب في رسم معين وضمن قراءات معينة. 
الأهداف المرجوة متعددة من بينها الإجابة على الأسئلة التالية :
* ما هي التسميات أو المصطلحات التي اتخذها القرآن عبر صيرورة نزوله؟
* ما هي علاقة هذه التسميات بمراحل تشكّل الكتاب ومراحل تشكّل الوعي بالكتاب لدى المسلمين الأوائل؟
* فهم طريقة جمع القرآن في مصحف (من جمعه ؟ في أي مرحلة ؟ من أين جمعه ؟ وكيف جمعه ؟ وكم دامت فترة جمعه ؟). 
* ما هي مسألة القراءات المختلفة وهل لها تأثير كبير في معاني القرآن؟
* ترتيل القرآن كطريقة محبذة للقراءة.
إن كل هذه الأسئلة هامة ووجب علينا الإجابة عنها ضمن دراسة قيّمة يقوم بها المختصّون، إذ نحن لا ندّعي الإلمام بهذه المسائل التاريخية المفصّلة ولكن سنحاول في هذا الجزء البسيط استخلاص النتائج من ما توصّل إليه بعض المفكرين في بحثهم والعبور من ذلك إلى الدّفع نحو استكمال المهمة التي ابتدأها هؤلاء المفكرون الصادقون وتسطير معالم هذا المشروع الأول وهو الدراسة التكوينية للقرآن وضبط شروطها وشروط القائمين بها حتى لا تكون مطيّة لغيرنا من أعداء هذه الأمة الذين لا همّ لهم إلا التقليل من قيمة هذا الكتاب واثبات نتائج مسبقة غير علمية أو استنساخ نتائج توصل إليها الغربيون على كتبهم السماوية فيأخذها هؤلاء وينزلونها على كتابنا دونما مراعاة للاختلاف الكبير بين مسار القرآن والمسارات الأخرى.
-------
- أستاذ  جامعي في الاٍعلامية الصناعية
وتواصل الاٍنسان والآلة 
mejrilassad@yahoo.fr