الكلمة الحرّة

بقلم
عبدالعزيز الرباعي
الثورة التونسية في مفترق الطرق
 ما يثير الدهشة حقا خلال الفترة الأخيرة هو تواطؤ العديد من الأطراف في الداخل والخارج من أجل إجهاض الثورات التي دفع المواطن العربي ثمنا باهظا من أجل تحقيقها وتقديمها هدية للنخب السياسية التي كان من المفروض أن تصل بها إلى برّ الأمان في تحقيق ما تصبوا إليه تلك الشعوب من كرامة وعدالة وحرية ..لكن وللأسف الشديد نرى أن جلّ إن لم نقل كل تلك الثورات تتعرض طورا للتشكيك وتارة للتقزيم والاستخفاف وفي كثير من الأحيان للإرباك والتشويه والتركيع... والثورة التونسية لا تعد استثناء ...فالعديد من الأطراف في الداخل والخارج لم تكن مستعدة لحدث من ذلك الحجم وذلك النوع مما فاجأ الجميع وأصابهم بالإرباك « ولا أدل على ذلك من الموقف الفرنسي من الثورة التونسية في بداياتها وتصريحات وزيرة خارجيتها آن ذاك» لكن وبعد انجلاء غبار المعركة وتبين جدّية الشعوب وإصرارها على إزاحة أنظمة القمع والنهب والعمالة ونجاحها في تحقيق ذلك غيرت تلك الأطراف من تكتيكاتها لاستعادة زمام الأمور وعدم السماح بتحقيق تلك الشعوب لطموحاتها...قد يتهمنا البعض بالتخريف وبالركون إلى نظرية المؤامرة الوهمية وأن السبب فيما يحصل ناجم عن فشل النخب السياسية في الداخل وخاصة منها تلك التي منحها الشعب ثقته بعد الإطاحة بنظام القمع والاستبداد وعدم نضج الشعب العربي وفقدانه للحسّ المدني وغياب أي استعداد لديه لتبني الثقافة الديمقراطية التي تسمح بالتّنوع داخل الوحدة لكنّنا ندلّل على كلامنا بتعجيل العديد من دول العالم التي تطلق على نفسها لقب «الديمقراطيات العريقة» بقبول الانقلاب العسكري في مصر ومساندتها له بما يخالف كل القوانين والأعراف الدولية وإجهاضها للثورة السورية واستخدامها لتصفية حسابات جيواستراتيجية في المنطقة إلى غير ذلك من الأمثلة... إن ما حصل ويحصل في تونس منذ 14 جانفي 2011 لم يخرج عن سياق الصراع الخفي والعلني بين قوى الثورة والقوى المضادة للثورة وما أكثرها « في الداخل والخارج» مستخدمة كل ما تملكه من إمكانات ضخمة من أجل كسب المعركة... لذلك فإن كل ما يقال زورا وبهتانا من دعم العالم الغربي وإعجابه بالثورات في العالم العربي ليس سوى أكذوبة كبيرة ومحاولة بائسة لذر الرماد في العيون...فكل المؤشرات تؤكد أن تلك الدول وخاصة منها ذات المصالح الكبرى والنفوذ في دول «الثورات العربية» تشعر بالمهانة وعدم الرّضا لما يحدث ولخروج الأمور عن سيطرتها بما يهدّد مصالحها...لذلك نرى أن تلك الدول تعمل على الضّغط على تلك الثورات بمختلف الأشكال وذلك بدعم أطراف في الداخل وخاصة القوى المعادية للثورة والتي كانت أداتها في السابق لحماية مصالحها من أجل تركيع الثورة وإرباك مسارها...وهي تغلف ذلك التدخل طورا بحماية حقوق الإنسان وطورا بفرض القيود الاقتصادية وإن بأشكال مقنعة من ترهيب للسّياح و تأخير في التصنيف الائتماني وبمنع للاستثمار والتمويل ومقايضة كل ذلك بتنازلات تفضي في الختام إلى إجهاض الثورة وإعادة الوضع إلى ما كان عليه وإن بأقنعة جديدة... إن العودة القوية لرموز النظام الشمولي الدكتاتوري الذي قامت الثورة من أجل إزاحته وعدم فتح أي ملف من ملفات الفساد والنهب والسرقة بشكل جدي وتمييع قضية العدالة الانتقالية وعدم تخليص دواليب الدولة من الفساد والفاسدين وعدم فتح دفاتر النهب والسرقة وإعادة أموال الشعب المنهوبة ممن هم في الداخل قبل من هم في الخارج ...كل تلك مؤشرات تدل على أن الثورة في انتكاس إن لم نقل أنها أصبحت مهددة بشكل جدي... إنه من الغريب اليوم وبعد مرور ما يزيد عن ثلاث سنوات من عمر الثورة .. أن نرى أن من أجرم في حقّ الشعب طيلة العقود السابقة...يقدّم نفسه على أنه الأمل الوحيد في النجاة من الكارثة والبديل المنقذ للبلاد مما تردت فيه من «أزمة اقتصادية؟؟؟» وكأنّ الشعب عندما قام بثورته لم يكن واعيا بما يفعل وأنه أخطأ وأجرم في حقّ هؤلاء؟؟؟ لقد أصبح هؤلاء نجوم الإعلام السمعي والبصري والمكتوب في الداخل والخارج ...يفسح لهم المجال لتبرير مواقفهم والتعبير عن بطولاتهم وصولاتهم وجولاتهم في تحرير الشعب وتحقيق الازدهار واستتباب الأمن وتوفير الرفاه عندما كان الحكم بين أيديهم وأنهم كانوا مثال الوطنية والإخلاص والشرف وأنه لولاه لكان التونسيون يعيشون في الكهوف ويقتاتون على اللحوم النيئة؟؟ إذا لم قام الشعب بثورته؟؟ هؤلاء عندما يتكلمون أو يصرّحون أو ينتقدون أو يشتكون تهتز لهم جنبات الأرض ...وتصبح تصريحاتهم حديث وكالات الأنباء المحلية والإقليمية والدولية ...ويتقاطر السفراء من الداخل والخارج لتقديم الدّعم المعنوي المعلن وأنواع أخرى من الدعم غير المعلن...وتغلق المصانع ويتوقف العمل وتشلّ الحركة وتخرج المظاهرات وتتقاطر وسائل الإعلام لتغطية الحدث؟؟؟ والشعار المرفوع حماية الثورة وتحقيق أهدافها؟؟؟ 
بالله عليكم أريد أن أسألكم: «هل شنّ الإضرابات العامّة المتتالية وغلق الطرقات وتعطيل الإنتاج والتغاضي عن التهريب وحماية الفاسدين وهزّ صورة الدّولة في نظر المجتمع وتعجيزها بمطالب تفوق طاقتها وإدخال البلاد في مهاترات إيديولوجية فارغة وتصفية الحسابات السياسية الشخصية الضيقة والاستقواء بالأجنبي ..حماية الثورة وتحقيق لأهدافها؟؟؟ حتى ما تحقق من إنجازات «على الورق» (فالدستور في النهاية ليس سوى حبر على ورق إن لم يقع تركيز المؤسسات والهياكل التي تسهر على تطبيقه وتحمي بنوده من الانتهاك) جاء بولادة قيصرية قدّم لنا على أنه توافقات ولكنّه في الحقيقة لم يكن إلا خليطا من الرغبات والتوجهات والإملاءات والإكراهات...ثم ماذا؟؟؟ هل سمعتم أحدا ممن ينادي بحلّ روابط حماية الثّورة ومراجعة التعيينات وتحييد المساجد، بالمطالبة بمحاسبة الفاسدين ووقف عملية رسكلة وجوه النّظام السّابق ومحاسبة رؤوس الأموال الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة والأراضي المغتصبة في الداخل والخارج وتخليص الإدارة والمؤسسات العمومية من رموز النظام السابق والذين كانوا يمثلون ذراعه الغليظة في وجه الشعب ومحاسبة الجلادين والمزورين والمرتشين والمتهربين من الضرائب ...بل على العكس من ذلك...أصبحنا نرى التعامل باحتقار واستخفاف مع من كان في طليعة الثّوار وبالتّهكم على من قاسى ويلات السّجن والتّعذيب خلال سنوات الظلم والقهر والاستبداد واستكثار حصوله على وظيفة تحفظ كرامته بعد سنوات العذاب...أصبحنا نرى كيف يدعو البعض إلى التّوافق وأنه السّبيل الوحيد لحكم تونس ثم يدعون إلى إقصاء من ليس من زمرتهم وحصرها في مجموعة معينة «مجموعة التأسيسي رغم أن البعض اشترى نوابه مراكنة»؟؟؟
رأينا كيف أن من يدّعي أنه حامي حمى الديمقراطية أول من ينقلب عليها ويتّهم الشعب بالجهل والغباء ويحاول معاقبته على اختياره الغبيّ عبر انتخابات هو أول من أكّد مصداقيتها ونزاهتها؟؟؟ رأينا كيف أنه عوض الانكباب على العمل ودعوة الناس إلى بذل المزيد من الجهد لتحقيق حلم التونسيين جميعا باللحـــاق بالأمم المتطـــورة تم تعبئة الشعب من أجل أن يرفع من سقف مطالبه ويطالب بالحصـــول على كل شيء وفي نفس الوقت كاستحقـــاق آني عاجـــل لا يقبل التأجيـــل أو التدرج وذلك لتركيع الدولة وتحطيم اقتصادهـــا وإشعــــار النـــاس بالنّدم على قيامهم بالثورة. وقد رأينا العديد من المواطنين البعض منهم له خلفيات والبعض الآخر بدونها يتحسّر على النظام الدكتاتوري وإنجازاته؟؟؟
إن واجب كل القوى الثورية الصادقة والواعية بخطورة ما يحدث وما يدبّر بالليل والنّهار من طرف بقايا النّظام السّابق والمتحالفين معهم من الانتهازيين والمتسلقين بدعم من أصحاب المصالح والنفوذ والأطماع من القوى الخارجية التي يمثل لها نجاح الثورة التونسية تهديدا مباشرا وبعيد المدى لمصالحها بتونس وبالمنطقة العربية بصفة عامّة أن تتنبه وأن لا تستخف بخطورة ما يجري...لأن صراع الإرادات والمصالح بين أبناء الثورة والشعب الحالم بتحقيق أهدافها وبين المتربصين والطامعين والمتحفّزين لاستعادة ما يعتقدون أنه حق انتزع منهم لا يزال في بدايته فحذاري من التقهقر والتراجع واستسهال الأمور ورمي المنديل...ولا يغرنكم ما يقال من الكلام المعسول ومن الوعود الزائفة والأكاذيب المنمقة فإنّه في السّكوت على ما يحدث وما يروج من أكاذيب بداية الاندحار...إن لبّ المعركة هو الإصداح بالحقّ ودحر أباطيل الكذب ثم محاصرة الفساد وإقصائه أو إصلاحه وإعادته إلى الجادّة ولكن ذلك لا ولن يكون إلا بمواصلة التيقظ ومواصلة طريق الثورة الطويل الذي مازلنا في بداية مشواره.
--------------
* ناشط سياسي ونقابي
azizrebai@yahoo.fr