في العمق

بقلم
د.مصدق الجليدي
مقاصد الشريعة وطبائع العمران البشري: مدخل إلى علوم إنسانية تطبيقية
 (أوّلا)
تطوّر العقل الفقهي الإسلامي من الحَرْفيّة إلى المقاصدية:
إنّ الناظر في مسار نشاط العقل الفقهي السّنّي يجده قد قطع إلى حدّ الآن أربع مراحل أساسيّة، وهي التالية:
1) المرحلة ما قبل النظريّة: الممارسة المباشرة لأحكام النّص.
2) بداية المرحلة النظريّة : الفقه المدون بالتوازي مع تدوين الحديث وبدونه.
3) التنظير الواعي: علم أصول الفقه.
4) نضج الوعي النظري: علم مقاصد الشريعة الإسلامية.
(1) مرحلة البدايات الأولى للفقه الإسلامي
في المرحلة الأولى، مرحلة ما قبل التنظير كانت الأحكام كلها تنبع من خارج ذهن كل الناس باستثناء ذهن الرسول الذي «لا ينطق عن الهوى»: ينزل الأمر «من السّماء» ليطبق مباشرة على الأرض. ولم يكن الرسول إلا مبلّغا لأمر السّماء.
لم يتم المرور مباشرة من هذه المرحلة إلى التي تليها وإنّما كانت هناك مرحلة وسطى حدثت فيها اجتهادات بعد وفاة الرّسول. اجتهادات  استنبطت لا بطريقة منهجية وإنّما بنوع من الذائقة التشريعيّة العفويّة وكانت «مجرد حلول جزئية لوقائع فعليّة، ولم تُسمّ هذه (الاجتهادات) علم الفقه ولم يسم رجالها من الصحابة الفقهاء» (1) 
وفي الحقيقة، لم يجد النّاس حاجة في البداية إلى التقعيد والتقنين، فالنّص الذي جاءهم من الله أو السّنة التي صدرت عن الرّسول مازالا ينطبقان انطباقا مباشرا على واقعهم، إذ لأجله نزل القرآن وبالتفاعل معه تكوّنت السّنة. ويظهر هذا بوضوح من خلال «أسباب النزول» و«الناّسخ والمنسوخ». النّص كان يواكب لحظة بلحظة معيش الناس وقضاياهم. الله «من فوق سبع سماوات» يهتم بشأن امرأة تجادل الرّسول في زوجها(2) ويبدي للنّاس ما الرّسول مخفيه من شأن رغبته في الزواج من زينب التي لم تعد ترغب في البقاء في عصمة زيد بن الحارث الذي ربّاه الرّسول (3) ويجيب عن مسألة الخمر والميسر  (4) إلى آخره من القضايا الحقيقية التي واكبها الوحي. بل إن الوحي كان يغير أحكامه كلما أصبحت غير متماشية مع الواقع (ظاهرة النسخ في القرآن) (5) . وبالتالي، لم يكن النّاس بحاجة إلى التفكير في هذا الأمر، فالوحي والرّسول (الذي يستلهم روح الوحي) كانا يكفيانهم مؤونته.
وبطبيعة الحال، سيستمر الأمر كذلك، ردحا من الزمن حتّى بعد وفاة الرّسول، فلم تكن وتيرة التغيرات الاجتماعية متسارعة. وإنّما الذي سارعها نسبيّا هو انفتاح العرب المسلمين على بقية المجتمعات التي وصلها الإسلام من فرس وروم وغيرهم.
(2)  تدوين الفقه وتأسيسه منهجيا
المرحلة التالية، هي بداية النشاط المنهجي للعقل الفقهي الإسلامي. هذا العقل الذي راكم في ذاكرته قدرا هاما من النصوص أصبح بحاجة إلى السيطرة عليها منهجيّا وإن بشكل بسيط. هذه السيطرة المنهجية اتخذت شكل التبويب، تبويب النّصوص والأحاديث بخاصة. والذي مكّن من ذلك هو افتتاح عصر التّدوين الذي ابتدأ بتدوين الحديث (السّنة).
فكانت أوّل الأعمال الفقهية كتب حديث وفقه في الآن نفسه وكانت مهمتها تبويب محتويات الحديث تبويبا فقهيا: كتبا وأقساما وأبوابا. وأول عمل وصل إلينا من بين هذه الأعمال هو كتاب «الموطأ» للإمام مالك بن أنس فإنه جمع فيه بناء على طلب الخليفة المنصور ما صحّ عنده من السنة ومن فتاوى للصحابة التابعين وتابعيهم، فكان كتاب حديث وفقه في الآن نفسه.
العقل الفقهي في هذه المرحلة، مازال مشدودا انشدادا مباشرا إلى النّص. وإنّما كانت الخطوة التي تقدمها، خطوة إجرائية تتمثل في تنظيم ذاكرته الشرعية النصيّة وهو ما يعرف في علم النفس المعرفي النشوئي (كما وضع أسسه بياجي) بالقدرة على التصنيف (في مجال الحسيات يصبح الطفل قادرا على التصنيف وتكوين المجموعات منذ سن الخامسة). يمكن تسمية هذه المرحلة بلغة النظرية البياجسية بالمرحلة الحدسية، حيث تكون النصوص والأقوال المرويّة هي موضوعات الحدس الفقهي المباشر (6) .
أما المرحلة التي تأتي بينها وبين مرحلة التنظير الحقيقي (المرحلة الثالثة) فهي المرحلة الوسطى التي جسدها فقه المذهب الحنفي (أو مدرسة أهل الرأي كما سميت) والتي لا تكون الأحكام الفقهية خلالها إجابة عن وقائع حقيقية بالضرورة وإنّما كحلول لمشكلات مفترضة في عديد الأحيان (كما يحلو للإمام أبي حنيفة أن يفعل ذلك في أوقات فراغه كما اشتهر عنه).
هذه المرحلة لا يمكن أن تكون المرحلة الافتراضية الاستنتاجية التي هي آخر مراحل النمو الفكري في الإبستمولوجيا النشوئية البياجسية (نسبة لجان بياجي)، بالرغم من الاشتغال بافتراض مشكلات ضمنها، وذلك لأنّ موضوع الافتراضات ليس موضوعا مجردا، كما يقتضي ذلك نشاط الفكر المجرد خلال المرحلة الافتراضية الاستنتاجية وإنما هو امتداد لواقع معيش حتى وإن لم يعش حقا. فخاصية التفكير الافتراضي الاستنتاجي كما يقدمه بياجيه هو كونه يجعل الواقع إحدى ممكنات الفكر فحسب، بينما يكون الفكر في المرحلة التي تأتي قبله مجرد امتداد للواقع (7).
والمرحلة التي تأتي قبل مرحلة التفكير الافتراضي الاستنتاجي هي مرحلة الفكر الإجرائي العيني. هو إجرائي لأنّه يعنى بحل مشكلات، وهو عيني لأنّه ملتصق بالواقع، حتّى وإن كان هذا الواقع متصوّرا.
(3)  تأسيس علم أصول الفقه
إنّ مرحلة الافتراضية-الاستنتاجية الحقيقية في المسار التكويني للعقل الفقهي الإسلامي السني هي المرحلة التي سميناها مرحلة التنظير الواعي: مرحلة أصول الفقه وهي المرحلة الرئيسية التالية (خلال ق 2هـ)، في هذه المرحلة تظهر القواعد الكلية المجرّدة والفئات التطبيقية الكليّة لا التفصيليّة.
فإذا كانت المرحلة السابقة هي مرحلة علم الفقه الذي هو: «العلم بالأحكام الشرعية المكتسبة من أدلّتها التفصيلية» (8)، فإنّ هذه المرحلة هي مرحلة علم أصول الفقه الذي يكون موضوعه هو «البحث عن الدليل الشرعي الكلي من حيث ما يثبت به الأحكام الكليّة».
لنقدم مثالا على ذلك قاعدة القياس الشرعي الذي هو الأصل التشريعي الأساسي الرابع المثبت لدى جمهور الأصوليين: القياس في اصطلاح الأصوليين «هو إلحاق واقعة لا نصّ على حكمها بواقعة ورد نصّ بحكمها، في الحكم الذي ورد به النّص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم» (9) . من الواضح أنّ هذا القول ينتمي إلى صنف الأقوال المجردة الافتراضية-الاستنتاجية أو ما يسميه بياجيه بالقضايا المنطقية الرياضية. أي، يمكن صياغته صياغة رياضية افتراضية مثل «إذا وجدت واقعة لا نصّ على حكمها تشترك مع واقعة ثانية ورد نصّ بحكمها في علة هذا الحكم فإنّ حكمها يكون حكم هذه الواقعة الثانية».
من الواضع كذلك أنّه لا أثر لأي نصّ أو لأي دليل تفصيلي في مثل هذا النتاج الأصولي الفقهي الذي يعبّر عن ارتقاء في درجة التعميم والتجريد الفقهي. لا تهمنا هنا تفاصيل الاختلاف حول مدى حجّية القياس بين العلماء (مع أن أغلبهم قد قبله حجة شرعية على الأحكام العملية)، وإنّما الذي يهمنا فقط هو رصد حدث فكري نمائي دال في نشوئية Genèse العقل الفقهي السني.
بعد القياس يأتي الاستحسان، وهو «العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر، لوجه أقوى يقتضي هذا العدول»، ثمّ يأتي الاستصلاح وهو «بناء الأحكام الفقهية على مقتضى المصالح المرسلة»، أي المصالح المطلقة أو المصالح العامة غير المنصوص عليها. ثمّ يأتي الاستصحاب وهو «استبقاء الحكم الثّابت في الزّمن الماضي على ما كان واعتباره موجودا مستمرّا إلى أن يوجد دليل يغيره أو يرفعه»... إلخ. كل هذه المصادر التي عدّت فرعية إنّما تشير في الحقيقة إلى نصيب التجربة والخبرة الإنسانيّة التّاريخيّة والاجتماعية في الفقهيات القديمة وإلى مرونة العقل الفقهي وانطوائه الضمني على فكرة وضعانية الشريعة الإسلامية واعتبار السياق الذي تتنزل فيه الأحكام، وما مفهوما تحقيق المناط وتنقيح المناط إلاّ تحقيق لفكرة أخذ السياقات المختلفة بعين الاعتبار.
أما المنهج الذي اتبعه علماء الفقه لوضع قواعدهم الكلية فهو المنهج الاستقرائي. ويطبق هذا المنهج على أساليب اللغة العربية والاستعمالات الشرعية، فيستنتج الأنواع الكلية مثل «أن صيغة الأمر تدل على الإيجاب وصيغة النهي تدل على التحريم وصيغة العموم تدل على شمول جميع أفراد العام قطعا وصيغة الإطلاق تدل على ثبوت الحكم مطلقا» (10) . كما طبق هذا الاستقراء على الأحكام الفرعية (أحكام علم الفقه) التي جاء بها أئمة المذهب قبل تكون أصوله وقواعده الكلية مثلما فعل علماء الأصول الحنفية (كأبي زيد الدبوسي.ت.سنة 430هـ، وفخر الإسلام اليزودي.ت.سنة 430هـ كذلك). وهنالك من اعتمد المنهج المقابل الذي هو المنهج النظري الاستنباطي البرهاني مثل الأصوليين من علماء الكلام (كما فعل أبو حامد الغزالي الشافعي في المستصفى.ت.سنة 505هـ وأبو حسن الآمدي الشافعي.ت.سنة 631هـ). وهنالك من طبق منهجا مزدوجا يجمع بين الاستنباط والاستقراء معا. وهذا يدل على مرونة أكبر فأكبر للعقل الفقهي الذي أصبح بإمكانه الذهاب والإياب معا من منهج إلى آخر. مثال ذلك مبدأ «رعاية المصلحة» الذي يعد العالم الحنبلي نجم الدين الطوفي الذي عاش في القرن 8هـ من أبرز القائلين به. ويقضي هذا المبدأ بأنّه «إذا تعارض النّص والمصلحة في غير الاعتقادات والعبادات قدمت المصلحة على النّص» (11).
وقد استمده الطوفي من حيث الرسول: «لا ضرر ولا ضرار» وبنى عليه ضرورة نفي الضرر والمفاسد شرعا، وهو نفي عام إلا ما خصصه الدّليل، وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلّة الشرع، وتخصيصها به في نفي الضّرر وتحصيل المصلحة».
كما توصل إليه من طريق استقراء أحكام الشرع. إذ يعتقد الطوفي أن الله راعى حقوقه وحقوق البشر في العبادات، ولذلك يتحتّم فيها اتفاق النّص والاجتماع والمصلحة. وأما العادات والمعاملات، فإنّ الله لا يقصد منها إلا خير الناس ومصالحهم وحقوقهم، ولذلك يرجّح فيها رعاية المصلحة على النّص والإجماع «لأنّ رعايتها في ذلك هي قطب مقصود الشرع منها» (12) . وهكذا نلمس من خلال اجتهاد هذا العلم السلفي الحنبلي الذي تتلمذ على ابن تيمية أنّه يطلق حرية الإنسان في الاجتهاد في المعاملات «فالراجح عنده روح الشريعة ومقاصدها لا نصوصها وحروفها».
(4) مرحلة المقاصد الشرعية:
قد لا يكون من باب الصدفة أن نلحظ هذا التدرج الزمني في الارتقاء إلى التفكير النظري المنطقي. وهو ارتقاء يشبه إلى حدّ كبير النمو الذهني لدى الفرد كلما غادر منطقة الطفولة (العقليّة) واقترب من مرحلة الرشد. وإذا كانت بعض السنوات كافية لدى الفرد لينتقل من مرحلة ذهنية نشوئية إلى أخرى فإنّ النمو الذهني للعقل الثقافي بأسره يتطلب قرونا متطاولة.
ومما يؤكد ذلك أيضا أنّه في أواخر القرن الثامن للهجرة، كتب الشاطبي (790هـ) مؤلفه المشهور «الموافقات في أصول الشريعة» ليجدد فيه علم أصول الفقه ولينقله إلى طور جديد أرقى من خلال فكرة «المقاصد الشرعية» (13) «ويجعل الوحي منطقا قصديا»  (14) وفي الحقيقة إن فكرة «المقاصد» قد تم التمهيد لها من قبل «عز الدين عبد السّلام المصري الشافعي في قواعده وشهاب الدين القرافي المصري المالكي في كتابه الفروق فلقد حاول غير مرة تأسيس المقاصد الشرعية [إلاّ أنّ] الرجل الفذ الذي أفرد هذا الفنّ بالتدوين هو أبو إسحاق الشاطبي المالكي» (15).
والمقاصد الشرعية التي تم التوصل إليها باستقراء مختلف موارد الشريعة الإسلامية خمسة: وهي حفظ النّفس والدّين والعقل والمال والنسل (أو العرض).وقد اعتبرها الشيخ الطاهر بن عاشور الكليات الضرورية في الشريعة وعدّ معظم أصول الفقه غيرها مظنونة، بينما تعتبر هذه المقاصد قطعية.
وتعتبر المقاصد الشرعية الدرجة الأعلى من درجات التعميم والتجريد الفقهي وتنضوي تحتها كل جزئيات الشريعة في مختلف مراتبها.
وعن ذلك يقول الشاطبي «وعلم هذه الضروريات صار مقطوعا به ولم يثبت ذلك بدليل معين بل علمت ملاءمتها منها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد» (16)  وقد لخصت هذه المقاصد الخمسة في قاعدة تنص على أن مقصد الشريعة هو «جلب مصلحة أو درء مفسدة».
وقد بلغ عز الدين بن عبد السّلام القمة في تأسيس الشريعة على النظر العقلي البرهاني والاستقرائي من خلال ثنائية «جلب المصلحة ودرء المفسدة» بقوله «قاعدة فيما يعرف به الصالح والفاسد : أن مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها وأسبابها معروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات (الفرضيات). فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلّته فمن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد راجعها ومرجوعها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبن عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته» (17).
وقد عمل ابن عاشور على أن يفصل مبحث المقاصد عن علم أصول الفقه ليصبح علما قائما بذاته في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» وأخرجه من المنطق المذهبي الضيق ليجعل منه علما كليا اجتهاديا مفتوحا، وأدخل عليها بعض التطويرات، من ذلك مثلا التوسعة في مجال المقاصد لتتجاوز حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، إلى مقصد الحرية والديمقراطية وقد فعل ذلك في كتابه «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام» وبذلك يكون قد سبق كل الحركات الإسلامية إلى هذا المقصد. 
(ثانيا)
مقاصد الشريعة وطبائع العمران البشري:
بالرغم من التجديد الذي يُشهد به للشيخ الطاهر بن عاشور في مجال المقاصد الشرعية، فإنّ اللحظة المعرفية الفريدة التي لم تلتقط حسب رأينا إلى الآن، هي اللحظة التي بنى فيها ابن خلدون المقاصد الشرعية على قوانين وطبائع العمران البشري، فاتحا الباب بامتياز أمام رفع الحواجز المصطنعة بين الشرعيات والإنسانيات، وبين علوم الشريعة وعلوم الطبيعة بشقيها المادي والإنساني. فقد جاء في المقدمة قوله في تعريف علم العمران البشري: « وهذا الفن الذي لاح لنا نجد فيه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله بالموضوع والطلب[...] مثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلّط للأنساب مفسد للنوع، وأن القتل مفسد للنوع، وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع، وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام، فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران» (ص. 71). هذا الكلام مطابق تماما لقول ابن عاشــور أن «مقصد الشريعـــة الإصلاح وإزالة الفساد». حيث جاء في كتابه عن مقاصد الشريعـــة الإسلامية قولـــه:« إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالّة على مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقراة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمــة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان. ويشمل صلاحه صلاح عقله وصلاح ما بين يديه من موجـــودات العالم الذي يعيش فيه[...فـ]مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد»(مقاصد الشريعة الإسلامية، ص. 63).
ويقول ابن خلدون لدى تبريره لترتيب فصول كتابه: « وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها كما يتبين لك بعد، وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار، وأما تقديم المعاش فلأن المعاش ضروري طبيعي وتعلُّم العلم كمالي أو حاجي (18) ، والطبيعة أقدم من الكمالي» (ص. 74-75). فإذا علمنا أن مراتب المقاصد الشرعية ثلاث: الضرورية والحاجية والكمالية، تبين لنا مدى «مقاصدية» المنهج العمراني الخلدوني نفسه. وهذا من أعجب ما عثرنا عليه في التفاعل والتكامل الحاصلين بين العلوم في الحضارة الإسلامية. وهو أمر مفهوم ومقبول من الناحية الابستمولوجية، لأن كلاّ من علم العمران البشري وعلم أصول الفقه وكذلك علم المقاصد الشرعية علوم تنبع من منطق العقل العملي وليس النظري الخالص، إذ أن موضوعها الممارسة الإنسانية الاجتماعية أو الفردية (طبائع العمران البشري  والضروريات والحاجيات والكماليات الفردية والجماعية). كما أن الشاطبي وابن خلدون ينتميان إلى ابستيمية واحدة. وفي الحقيقة لا ندري على وجه اليقين إن كان ابن خلدون قد أخذ ثقافته ومقاربته المقاصدية عن الشاطبي، حتى وإن كان معاصرا له، ومن المستبعد جدا أن يكون قد فعله لأنه لم يذكر الشاطبي أبدا في الفصل الذي خصصه لعلم أصول الفقه (المقدمة، ص. 551-556) ولأن الشاطبي (790هـ) كتب «الموافقات» التي ضمت المقاصد، في أواخر القرن الثامن، بينما كتب ابن خلدون مقدمته بين سنتي 776هـ و780هـ. ومن المحتمل أن يكون قد اطلع على هذا المفهوم في «مستصفى» الغزالي (505هـ) و في «مختصر» ابن الحاجب و «فروق» تلميذه القرافي (684هـ) وهؤلاء كلهم قد ذكرهم في فصله عن أصول الفقه. كما أنه من المحتمل أن يكون الخطاب المقاصدي شائعا في صفوف الطبقة العليا من العلماء على عهد ابن خلدون حتى قبل أن يقعّد له الشاطبي في «موافقاته».  
والحاصل أن النتيجة التي وصل إليها ابن خلدون تُعدّ في نظرنا انقلابا ابستمولوجيا كوبرنيكيا في بناء العقل التشريعي. لم تعُد الطبيعة تتبع الشريعة كما يفهمها العقل ما قبل العلمي، أي لم نعد نفسّر الوقائع الطبيعية بوقائع ما فوق طبيعية غامضة ولم يعد مقبولا بمقتضى الوعي العلمي العمراني الخلدوني أن يشرّع المجتهدون للعمل الإنساني من خارج منطق ذلك العمل نفسه، وإنما ترسخت الشريعة في الوعي الخلدوني، كما أرادها الشارع نفسه، حنيفية سمحة مرنة تتبع الطبيعة بنوعيها: الطبيعة الأولى وهي الفطرة والطبيعة الثانية وهي طبائع العمران البشري. وهذه النتيجة تمثل في حد ذاتها إحدى العلامات الواضحة على تشرّبه لمعنى ختم النبوة في دلالته على انفتاح أفق نضج العقل الإنساني، وعلامة أيضا على استبدال مركزية النّص بتعدّد أقطاب الفهم والوعي. حيث يدخل النّص في حوار مع الواقع (العمران البشري) بتوسّط العقل الذي يعمل على فهم الواقع فهما علميّا باستخراج طبائع العمران البشري وسنّ التشريعات والقوانين بناء عليها. أي بناء على مقاصد المكلَّف هذه المرة لا على ما ظن أنه مقاصد المكلِّف بمعزل عن حاجات المكلَّف، لأن المكلِّف إنما وضع تكليفاته من أجل تحقيق مقاصد المكلَّف، لا بمعنى المكلَّف الفرد المتعين في هذا الشخص أو ذاك، فقد تقصر بعض الذوات الفردية عن إصابة مقاصد مصلحية حقيقية، وإنما المقصود به النوع الإنساني في مرحلة من مراحل تطوره الحضاري والمدني. فتصبح المقاصد بهذا المعنى الحاجات والضرورات الوظيفية الموضوعية التي قد تبلغ في مراحل الرفاه أو الترف الحضاري مرتبة الحاجات التحسينية. وهذه المقاصد/الحاجات الوظيفية هي في أدناها مقاصد حيوية وهي التي عناها في رأينا قوله تعالى: «ربّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى» (طه: 50). أي هدى الخلق إلى معرفة حاجاته الوظيفية وطرق تلبيتها، كما يهدي الرضيع إلى ثدي أمه يستدرّ منه الحليب بكيفية لم يدرّبه عليها أحد ولكن الله هداه إليها بالفطرة التي فطره عليها. ثم تتدرج المقاصد وترتقي بارتقاء درجة الوعي والعمران والحضارة. مثل وعي الإنسان الحديث بحقوق الإنسان وبالديمقراطية. فحقوق الإنسان هي من مقاصد المكلَّف اليوم الذي هو المواطن في الدولة المدنية. ولا نظن أنّ المكلِّف إلا طالبا هذه الحقوق للمكلَّف. إذ لو قارنا مقاصد الشريعة الخمسة والتي هي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل بـ «حقوق الإنسان» لوجدنا بينهما صلة وثيقة:
* فحفظ الدّين يعني حرية الاعتقاد وحرية التفكير «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». (قرآن كريم).
*  وحفظ النفس يعني الحق في الصحة وصيانة حرمة الجسد.
* وحفظ العقل يعني الحق في التعليم والمعرفة والغذاء المتوازن.
* وحفظ النسل يعني الحق في المناعة وفي إقامة علاقات جنسية منظمة وحقوق الطفولة.
* وحفظ المال يعني الحق في الشغل والكسب المشروع أو الملكية الخاصة.
وهكذا فإن تطور العمران البشري الذي استحدث مثل هذا الوعي الحقوقي المعاصر والذي غايته إعمار الأرض على أحسن وجه وبأفضل كيفية بالطرق المعنوية والمادية هو الغاية من استخلاف الله الإنسان في الأرض «قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب» (هود: 61)، وليس هذا الاستخلاف متحققا إلا بتحقيق مقاصد الشريعة، فيكون العمران البشري السويّ بشروطه المادية والروحية هي عين مقاصد الشريعة. ولذلك ليس من الصدفة في شيء ألا يفطن علماء المسلمين إلى حقيقة تلكم المقاصد على نحو منظم إلا بعد بلوغ حضارة الإسلام شوطا متقدما في التطور والازدهار. وعند بداية أفول تلك الحضارة جاء الشاطبي وجاء ابن خلدون ليحدثاننا على نحو منهجي عن مقاصد الشريعة وعن طبائع العمران البشري، على سبيل التقييم واستخلاص القواعد العامة مما تمت ممارسته فكريا وماديا في الحضارة الإسلامية. وما ذهبنا إليه آنفا هو عين ما نظّر له ابن خلدون بالفعل بعقده فصلين في المقدمة عن «أنّ الصنائع إنما تكتمل بكمال العمران الحضري وكثرته» وعن «رسوخ الصنائع في الأمصار برسوخ الحضارة وطول أمدها» والعلوم هي من أشرف الصنائع لطبيعتها العقلية والكلية والمنهجية.
المطلوب اليوم إذن هو عدم الوقوف دون اللحظة الابستيمية الخلدونية بل فتح «حظائر» علمية واسعة للإسهام في تأسيس وتطوير العلوم الإنسانية الأصيلة المبدعة التي تعيننا على فهم واقعنا في كامل تعقداته وتشعباته فهما علميا نوعيا دقيقا يمكن من تشخيص معضلاته وتعيين أنجع الحلول لمشكلاته. 
إن ما طوره العقل الفقهي الإسلامي من مناهج تشريعية وقواعد فقهية واجتهادات لحل المشاكل العملية لحياة المسلمين مع المكوث قريبا من النص استدلالا وتفسيرا وقياسا واستنباطا واستقراء يمكن أن يمثل الروح العامة للثقافة الإسلامية التوحيدية في مجال المعاملات. هذه الروح هي ما يجب المحافظة عليه لأنها متمثلة لأخلاق الله عز وجل من عدل ورحمة وتيسير التي هي ضرورية لحياة الإنسان واستمرار النوع الإنساني وازدهاره، ولكن الآلة التشريعية نفسها يجب أن تستفيد من تطور العلوم الإنسانية التي تعين على تحقيق مناطات الحكم الشرعي، دون الاكتفاء بالبحث عن توفر علة الحكم وإنما بالحرص على تحقيق المقصد الشرعي منه الذي هو المصلحة المتوافقة مع الفطرة والعدل والرحمة والتيسير. والعلوم الطبية وكذلك علم النفس وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي وعلوم التربية والتاريخ والحضارة والإناسة كلها علوم تفيد في تحقيق هذه الغاية وذلك من طريقين اثنين: أولهما الإجابة عن أسئلة المشرّع في بحسب المقاصد التي ضبطها ابتداء بالاستقراء من جزئيات الشريعة، فنعرف مثلا بعلم النفس هل أن في هذا السلوك أو ذاك محافظة على الصحة النفسية للشخص أم لا، ونعرف بالعلوم الطبية إن كان هذا السلوك أو ذاك غير ماس بالصحة البدنية للشخص أم لا.  
أما ثاني وجهي الاستفادة من علوم الإنسان في مجال التشريع فهو باستمداد مقاصد جديدة تجب مراعاتها وحفظها في التشريع. وهنا نتخلى عن منهج استقراء جزئيات الشريعة لصالح استقراء جزئيات الطبيعة: الطبيعة الإنسانية أو العمران البشري. حيث إن الشريعة كما أسلفنا مطابقة للفطرة ولطبائع العمران البشري. وهذه الطبائع إنما تفيدنا بها علوم الإنسان. فمن طبائع العمران البشري لهذا العهد هو تشوفه للحرية وللكرامة، وقد سبق لابن عاشور أن ذكر أن «الشارع متشوف للحرية». ولكنه في الحقيقة كان على ما نعلم هو الأول للتصريح بهذا الرأي، وليس ذلك إلا لخروجه عن مجرد علوم الملة إلى نظرة كونية لوضع الإنسانية في العالم، فلاحظ ما عليه الأمم الأوروبية من تقدم وازدهار بفضل الحرية والديمقراطية، وأن الشارع عند التثبت في أحكامه يميل بحنفيته نحو هذا المقصد الإنساني، فعده ابن عاشور من مقاصد الشريعة الإسلامية. 
على هذا الأساس، يمكن لجامعاتنا في العالم الإسلامي السير بالعلوم الإنسانية في هذا الاتجاه التطبيقي حيث ترفع الحواجز في نفس الوقت بين الشرعيات والإنسانيات من جهة والإنسانيات والتشريعيات من جهة ثانية. الشرعيات هي نتاج العقل الفقهي الإسلامي إلى حد لحظة المقاصد. والتشريعيات هي نتاج هذا العقل عندما يتمثل الأساس العمراني البشري لتلك المقاصد نفسها، بما يسمح من مزيد توسعتها تبعا لتطور العمران البشري وتبعا لتطور العلم بهذا العمران البشري نفسه، أي تبعا لتطور العلوم الإنسانية. 
الهوامش
(1) انظر عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، المغاربية للطباعة والنشر والإشهار، بدون تاريخ،     ص. 15.
(2) انظر سورة المجادلة: 1 
(3) «وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. فلما قضى منها زيد وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا» (الأحزاب، 37)
(4) انظر سورة البقرة: 219.
(5) انظر سورة البقرة: 106.
(6) مراحل النمو الذهني لدى الفرد بحسب بياجيه هي التالية : مرحلة الارتكاسات الأوّلية-المرحلة الحس-حركية-المرحلة الحدسية-المرحلة ما قبل –إجرائية- المرحلة العينية-المرحلة الافتراضية الاستنتاجية (مرحلة التفكير المجرد).
(7) Voir, Vandan Plas Holper, Ch., Le développement psychologique pendant l’âge adulte et pendant la vieillesse, Puf, Paris, 1998.                                                                
(8)  وهو تعريف الشافعية والمتأخرين من الفقهاء.
(9) المصدر السابق، باب القياس.
(10) المصدر السابق، ص.13.
(11) د.حسن صعب، تحديث العقل العربي، دار العلم للملايين، ص.110. 
(12) مصطفى زيد، المصلحة في التشريع الإسلامي، دار الفكر العربي القاهرة، 1954 ذكره د.حسن صعب في المصدر السابق، ص 110.
(13) الشاطبي، أبو إسحاق، الموافقات، دار المعرفة للنشر، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.
(14) حسن حنفي، دراسات إسلامية، دار التنوير للطباعة والنشر، ط1، 1982، ص 57.
(15) الشيخ الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسيّة للتوزيع، 1978، ص 8.
(16) ذكره بن عاشور، المصدر السابق، ص 79.
(17) المصدر السابق، ص 70.
  التشديد من الباحث، لنبرز إدراج ابن خلدون لظاهرة التعلم في صنف المقاصد الشرعية الحاجية أو الكمالية، وأنها من طبائع العمران البشري، ولا فرق جوهري بين الشريعة والطبيعة الثانية (طبائع العمران)، لأن الشريعة في الأصل وضعية، أي وضعت من أجل ضمان مصالح الناس، وهكذا يجب أن تفهم، وإلا وقعنا في جمود الفكر وتخلف الممارسة.
 
المراجع والمصادر
 
- القرآن الكريم.
- ابن خلدون، المقدمة، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984.
- ابن عاشور، الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسيّة للتوزيع، 1978.
- ....................، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، ط.2، 1985.
- الجليدي، مصدق، ختم النبوة: إبستيمية مولد العقل العلمي الحديث، تونس 2002.
- ...............، أنوار من أجل رؤى حداثية أصيلة، الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2014.
- حرب، علي، «نحو فهم تكاملي للإنسان»، دراسات عربية، العدد 11-12، 1983، ص 51-55.
-  حنفي، حسن ، دراسات إسلامية، دار التنوير للطباعة والنشر، ط1، 1982.
- د.حسن صعب، تحديث العقل العربي، دار العلم للملايين، 
- الشاطبي، أبو إسحاق، الموافقات، دار المعرفة للنشر، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.
- عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، المغاربية للطباعة والنشر والإشهار، بدون تاريخ.
- لنسج، تربية الجنس البشري، ترجمة وتقديم وتعليق د.حسن حنفي، التنوير، بيروت، 1981.
- المحجوبي، علي بن حسن، «حقوق الإنسان بين النظرية والواقع»، عالم الفكر، المجلد 31، عدد 4، 2003.
- مصطفى زيد، المصلحة في التشريع الإسلامي، دار الفكر العربي القاهرة، 1954