قرأت لكم

بقلم
د.ناجي حجلاوي
ثنائيّة الصّمت والكلام في مجموعة بحري العرفاوي«نمل ودود»
 توطئة
الكلام هو الجانب المتعيّن من اللّغة وله موجبات. وضدّه الصّمت والصّمت حالة سكونيّة يحلّ بانقطاع الكلام. وله شروط وموجبات. ولهذا وذاك ضروب وأشكال فمنها الصّادق والمراوغ ومنها الدّال على الخوف أو الزّيف وقد يُكلّمك الفرد وهو صامت كما أنّه لو صمت عند الكلام لكان خيرا، فكيف تجلّت ملامح هذه الثّنائيّة في مجموعة «نمل ودود».
الصّمت والكلام في مجموعة «نمل ودود»
إنّ المطالع لمجموعة، «نمل ودود»، للشّاعر بحري العرفاوي تشدّه ثنائيّة بارزة من جهة التّكرار والدّلالة وهذه الثّنائيّة هي الصّمت والكلام، فأين تتجلّى ملامحها وما هي أبعادها الرمزيّة والمعنويّـــة؟ إنّك تلفي الذّات الشّاعرة منذ البداية تولي الكلام المفيــــد الّذي يبني القيم ويصون المعنى أهميّة كبرى وتعلن ولاءها لــــه. وعلى العكس من ذلك يعلن خيانة الفصحاء الّذين إذا تكلّموا لا ينفعون ولا يفيدون، وإنّما همّهم الكبيــــر هو الجــــري وراء المتع والشّهوات وإن لبســـوا جبّة الشّعراء (1) وقد ساق الشّاعر هذا التّفريق بين  نمطيْن من الشّعراء من خلال علاقة الذّات الشّاعرة بهم مذكّـــرا في ذلك بمــــا ذهب إليه أبو القاسم الشّابي من أنّه لا يصوغ شعره من أجل إرضاء الأمير وإنّما هو كلام نابع عن حالة ذهنيّة وشعوريّة إراديّة وفقها يكون القول الشّعري صادقا نابعا عن قناعة دونها يستحيل الصّمت أبلغ وأقوم. وإذا الكلام الصّادق هو العلامة المميّزة الدّالة على كون المرء حيّا مفارقا لمستوى العيش الحيواني يقـــول: « وليست حياة المرء كونه عائشا» (2) وإذ يتّخذ الكــــلام بعده الوجـــودي فإنّه يصطــدم بالثّقافـــة السّائدة بعيوبها الماثلة في التّفريق بين الضّعيف والقــويّ والقـــادر والعاجـــز من خــــلال ثنائيّـــة الكــلام والصّمــت وأنّ القـــويّ هــو الّــذي لا يعــرف إلى الصّمت سبيلا ولا إلى البكاء طريقا فإنّ الشّـــاعـــر يثور على هذه النّمطيّة في الاعتبارات الثّقافيّة معتبرا أنّ الرّجل قد تبكيه الشّهوة أو المصيبة وقد يصمت أحيانا (3)، وفي المقابل يحتلّ الكلام، إذا كان أصيلا، مرتبة الفعل وهو ما يُسمّى بالفعل الكلامي، ولاسيّما إذا امتزج بالهداية والرّشــاد واستمــــــــع إلى قصيــدة « محمّد» تقول:
في الملايين تقوم وتقول:
أيّها الإنسان عصرك
أيّها الإنسان اختر أن تكون
أو يكون الجسم قبرك (4). 
أمّا إذا مـــارس الكلام خداعه وفوّت على نفسه الهداية فيستحيل إلى محاورة خدّاعة « بلسان أفّاك» (5) وليســـت الأصـــوات بمعـــزل عن التّوظيف فقد تتعالى الأصوات وتتزايد الهتافات وقد يذهبنّ الظّنّ بالمرء إلى أنّ أصواتا متعالية هي من أجل المطالبة بالحقوق المهدورة أو هي الطّبقات الضّعيفة في المجتمع وإذا بالهتافات من أجل هدف سُجّل في الشّباك فتتبخّر الأحلام المعلّقة بالحناجر الهاتفة إذ تعبّر عن وعي مفوّت ومغيّب، وليس هذا الأمر ببعيد عن فوضى التّساؤل النّاجمـــة عن جيوش «يأجوج ومأجوج» المتمثّلة في قوافل النّمل والدّود حيث يغيب الصّوت ويحلّ محلّه الإيماء والإشارة وحيث يسود الارتخاء وتعمّ الميوعة تحت وطأة الخوف الّتي تشيعها القصور المستبدّة والمتسلّطة (6).
ومـــن نتائـــج ذلك انعدام البيان في أنين الاكتئاب وقد يتكلّم الرّصاص عندما تحلّ ساعة الشّهادة احتجاجا على انعدام الصّهيل في الأصيل وعلى الأسود الرّاقصة دون دفّ والطّامعة في الجيف فتعوي كالذّئاب وتتثاءب وتموء كالقطط وعندئذ قد تنعدم الأصوات تماما معلنة أنّ الجبن رمز الخبز والقوت قد يتطاير بمجرّد فتح الفم بالصّوت:
قال الغراب جاثيا: «لا صوت يعلو، إذن تطير الجبنة لو قلتُ غـاق.» (7)  فلا مجال، حينئذ، لصخب المدن وإنّما يتّسع المجال فقط للهمس والنّبس والخفاء وبذلك ينعدم السّمع من خلال السّؤال الإنكاري « هل تسمع؟» (8).
إنّ الإشارة إلى لفظة « النّصّ» الواردة في الصّفحة 46 تذكّر بصمت النّصّ معزولا عن قارئه يناقضه الصّخب المذكور في الصّفحة ذاتها حيث تنام المدائن رغم هذا الصّمت في القيود حيث يدبّ الدّود في الخرائط والأجساد وأوصال الحضارة مدشّنا عهد الصّمت الأبدي الماثل في الفناء حيث لا تسمع إلاّ بقايا ضحكات ساخرة من عجائب الخرائب والصّلب والموت حيث وجبت الحياة ولزم ارتفاع الأصوات الآتية من الرّياح والأمواج.
إنّ المسألة ليست في القول أو القدرة عليه وإنّما المسألة تكمن في غياب الأقوال إلى المنطق (9) كقول المضروب والمظلوم للظّالم أنّه مسامح باسم التّعقّل والعقلانيّة، إلاّ أنّ هذا السّلوك مضرّ بالمعنى مبيد لها فتتقاطع الأصوات من المسول والمسؤول ومصالح تجّار الزّطلة والمزطول (10)، وذلك غير بعيد عن الأناشيد والأشعار والأغاني المطبوعة بطابع المديح والابتذال.
إنّ ثنائيّة الصّمت والكلام ثنائيّة مركّبة في هذه المجموعـــة يتوالد كلّ عنصر فيها من رحـــم العنصر الآخـــر، ولنا أن نلج من بوّابـــة هذه ثنائيّة إلى مسألتين مهمّتين: الأولى تتمثّل في تحوّل القصيـــدة إلى ما يشبه البيان الشّعري ومعنـــاه أن يضيّق الشّاعـــر على القارئ ما يظنّه هذا القارئ واسعا، وهو مفهـــوم الشّعـــر وهذا الإجراء الموضّـــح لمعنى الشّعر ومقاصده قد يؤذي المتلقّي لأنّه يعتبر نفسه مميِّزا ولا حاجة لتوجيهه، وأمّا المسألة الثّانية فتبدو في انكشاف النّصّ إلى حدّ يرتخي فيه التّوتّر الشّعري وينحـــلّ التّكثيف في الـــدّوال. وخذ مثليْن: «الأوّل ربّما تحشدون إلى معركة غير محسومة» (11) والثّاني قول الشّاعر: «فأنت مطبّع» (12) 
ومع هذا فالشّاعر على نصيب وافر من المجموعات والمقالات الصّحفيّة وما ثنائيّة الصّمت والكلام إلاّ مدخل من جملة المداخل المتعدّدة للغوص في هذه التّجربة الشّعريّة الممتدّة في الزّمن عموديّا وفي النّصوص أفقيّا، ولربّما أثّرت المقالة في النّصّ الشّعري والعكس بالعكس.
الهوامش
(1)    انظر ص9
(2)    ص 16.
(3)     ص 17.
(4)      ص 23.
(5)      ص 25.
(6)      ص 36.
(7)     ص 43.
(8)     ص 44.
(9)    ص 56.
(10)    ص 77.
(11)    ص87.
(12)    ص 107.