في الفكر السياسي

بقلم
نعمان العش
أركيولوجيا المواطنة
 لماذا يعتقد بعضهم أنّه ثمّة طوباوية متأصّلة لدى البشر تتمثّل في الوصول إلى حالة من إلغاء الدّولة والعودة المتحضّرة بالمجتمع البشري إلى وحدته الأصيلة في ظلّ تنظيم ذاتيّ طوعيّ دون أيّ تسلّط فوقيّ؟ فهل الطّوباوية ناتجة عن يأس البشر من ترشيد السّلطة والحدّ من عنفها الّذي وصل إلى حدّ جعل بعض الحقوقيين العقلاء يرفعون شعار: « دولة أقلّ ومجتمع مدني أكثر» على أساس أنّه كلّما كان المجتمع المدني ضعيفا كلّما كانت الدّولـــة قويّـــة وكانت سلطتهـــــا في ممارسة القمع لا تقاوم؟ إنّ الرّغبة في الحدّ من نفوذ المتسلّطين يكاد يكون في عصرنا الحالي قاسما مشتركا بين عموم البشــــر، إذ أنّ الأحداث العالمية المتّسمة بالإبادة والقتل والإرهاب المنظّم أصبحت تشاهد في جميع أنحاء العالم، وأصبح أيّ فرد يمكنه، في دقيقة واحدة، أن يعاين أحداث الدّمار الحاصلة في كلّ أنحاء العالم عبر وسائل الإعلام السّمعية والبصرية، وهذه المشاهد، بدورها، تدمّر ضميره ونفسيته ومعنوياته، لأنّه يقف عاجزا عن ردّ الفعل تجاه سلطة الظّلم والاستبداد الّذي تمارسه دول بعضها في قمّة التّقدّم وبعضها في درك التّخلّف.
غير أنّ هذه الطّوباويـــة - الرّغبة في الوصول إلى حالة من إلغاء الدّولة - تصدر، بالأساس عن السّــــواد الأعظم من النّــاس، الّذين أفقدهم تحالــــف التّقــــدّم العلمــــي مع السّلطـــات الأحاديـــة، أيّ ضرب من ضروب التّواصـــل الّذي يرسّـــخ لديهم مواطنتهــــم، فهم مغلوبون على أمرهم، خاصّة منهم المنتمون إلى العالم المصنّف ثالثا، وفي مقابل هؤلاء نخب المجتمع المدني الحيوية أو مفكّـــرون يمارسون مقاومة نقدية عقلانية أو تضامنية وفاقية للدّفاع عن حقّ المواطنة وعن حياة ومصير المجتمع، وذلك من أجل تقنين سلطة الدّولة وليس، بأيّ حال إلغاؤها. إلاّ أنّ مثل هذا السّلوك لا يمكن أن يصدر إلاّ عن أفراد يدركون حقوقهم وواجباتهم عبر عقد اجتماعيّ تمارس الدّولة، بموجبه، السّلطة لتنفيذ بنود العقد...وعندما تضخّم نفوذ الدّولة وتوزّع مفهوم السّلطــــة على شتّى مجالات الحياة ليشمل نفوذه كلّ ما يخصّ الإنسان بل لتزداد محاصرة السّلطة للمواطنين، وحادت بالتّالي سلطة الدّولة عن موجبـــات هذا العقد الاجتماعي، بدأ، وبشكل مواز لتضخّم هذا النّفــــوذ يتكوّن ما اصطلح على تسميته بالمجتمع المدني الّذي من أبرز سماته أنّه مستقلّ إلى حدّ بعيد عن إشراف الدّولة المباشر، ويتميّز بالاستقلالية والتّنظيم التّلقائي، وروح المبادرة الفردية والجماعية، والعمل التّطوّعي، والحماسة من أجل خدمة المصلحة العامّة.
هذا النّوع من المجتمع المدني المعارض لهيمنة السّلطة منتشـــــر بقوّة في الأنظمة الديمقراطيــــة حيث علاقـــة المحكوم بالحاكـــم علاقة مواطنة تستطيع، بموجب الدّساتيــــر والقوانين، وعبر مؤسّسات المجتمع المدني، مواجهــــة تسلّط الدّولـــة. أمّا عندما ننتقــــل إلى المجتمعات العربية، فإنّ علاقة السّلطة بالمواطن علاقة يكتنفها الكثير من الغموض والتباس، إلى درجة جعلت بعض الدّارسين يشكّكـــون في اعتبـــار شعوب المنطقة العربية مواطنين، لأنّ السّلطـــة، الّتي، من المفروض أن تستعمل لخدمة الشّعب، نجدها في الأنظمـــة العربية تستعمل لجعل الشّعب في خدمة جهاز الدّولة. وبالتّالي، فإنّ نوعية العلاقة هي علاقة سلطـــة برعيّة ليس لها إلاّ السّمـــع والطّاعـــة.، وهذا ما جعل من القمــــع الوسيلـــة السّائـــدة لإسكات أيّ معــــارض. أنّ كلّ هذه الأنظمة تدّعي أنّها ديمقراطية وتتوفّر على دساتير وقوانين إلاّ أنّ الفعل وحقيقة الواقع مغاير تماما لهذه الدّساتير وهذه القوانين... بل إنّ الإعلان العالمي لحقـــوق الإنســــان، المؤرّخ في 10 ديسمبر 1948، المعترف به من كلّ هذه الأنظمــــة لا علاقة لموادّه الثّلاثين بالواقع المعيش. ونسوق من هذه الموادّ مثـــلا المادة عشرين(20) « لكلّ شخص حقّ في حرّية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السّلمية.  لا يجوز إرغام أحد على الانتماء إلى جمعية ما »، وكذلك المادّة واحد وعشرين (21) « لكلّ شخص حقّ المشاركة في إدارة الشّؤون العامّة لبلده إمّا مباشــرة وإمّا بواسطـــة ممثّلين يُختـــارون في حرّية.  لكلّ شخص، بالتّساوي مع الآخرين، حقّ تقلّد الوظائف العامّة في بلده ».
إرادة الشّعب هي مناط سلطة الحكم، ويجب أن تتجلّى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين النّاخبين وبالتّصويت السّــرّي أو بإجراء مكافـــئ من حيث ضمان حرّية التّصويت. إنّ هذه المواد الّتي تتمحور حـــول قيمة الحرّية بكلّ أبعادها، خاصّة منها السّياسية، نجد صداها في الخطاب الإعلامي بشكل مكثّـــف، وهو خطاب يؤكّـــد على سيادة القانون وعلى سيادة مبادئ حقوق الإنسان وعلى سيادة الشّعب، أي أنّ الغائب واقعيا حاضر وبإلحاح في الخطاب الرّسمي عبر وسائل إعلام سمعية وبصرية ومكتوبة لا حول ولا قوّة لها إلاّ إذا روّجت للخطاب الرّسمي كي تؤكّد على وجود ما ليس موجودا وعلـــى غياب ما هو حاضر وواضح للجميع، وهكذا تمتدّ السّلطة، لا إلى قمع حقّ المواطنة بالاعتداء على أغلب حقوقه، بل تمتدّ إلى بســـط نفوذها، بكلّ الوسائل المتاحة، فتصبح المؤسّســـات، المفترض أن تكــــون في خدمة المجموعة الوطنية، أداة قمع بيد السّلطة تستعمل لخدمـــة فرد أو أفراد مرتبطين بجهاز الحكم. وهكذا تتضاعف السّلطة وتتعاظم حتّى تلغي كلّ نفس حرّ ويصبح الفرد - لا المواطن- يفكّر في الطّريقة الّتي يدرأ بها ظلم السّلطة و لا يفكّر في كيفية التّمتّع بحقوقه المشروعة المضمونة دستوريا وقانونيا. وهكذا، فإنّ السّلطة، في الأنظمة اللاّديمقراطيـــة تلغي المواطنة وتمحقها وتفرّخ رعايا لا حول لهم ولا قوّة فتسود قيم الانتهازية والتّملّق والرّشوة. إنّه الظّلم، على حدّ تعبير ابن خلدون، وهو مؤذن بخراب العمران.
فما هي المبادئ الّتي تقوم عليها المواطنة؟ وهل يكون وجود السّلطة بدون وجود ذوات حرّة؟ وكيف يقدّم «فوكو» رفضه للفرضية القمعية؟ وما هي قيمة المواطنة في العصر الحالي؟
مسألة حقوق الإنسان 
الإنسان هو المصدر الوحيد لحقوق الإنسان 
واقتران الحقوق بمسألة التّحرّر الوطني.
لقد شاع استخدام مفاهيم سياسيــــة من قبيل حقــــوق الإنســــان زاد ذلك في حجب ضـــرورات التّفكير الفلسفـــي في دلالاتها وغيّب إلى حدّ كبيـــر إمكانية النّـــقد. ولذلك ولغيره من الاعتبــــارات، تقدّمت « حنّة آرندت » إلى التّأكيد على أنّ المصدر الوحيد لحقوق الإنسان هو الإنسان ذاته وأنّ مسألة حقوق الإنسان مقترنـــة بمسألـــة التّحرّر الوطني. إنّ الاقتران بين الاثنين يستتبعـــه التّماهـــي بين حقوق الإنسان وحقوق الشّعوب.  وتتجلّى حقـــوق الإنســـان كجملة من البنود الّتي تؤمّن للإنسان حقوقه، اجتماعيا، في العدالة والمساواة ومجانيّة التّعليم ومجانية الصّحّة وحرّيّة المعتقد وضمان الكرامة، اقتصاديا، في حرّية العمل وحقّ الشّغل وحقّ الملكيّة، و سياسيـــا، في حرّية التّعبير وحقّ الانتخاب وحقّ اللّجوء السّياسي والمساواة أمام القانون.
لقد سعى « جون جاك روسّو » في كتابــه « العقد الاجتماعي » إلى بيان شكل من أشكـــال الاجتمـــاع الإنساني (المجتمع المدني) يقوم على احتفاظ الأفراد بحرّية وعدالة ومساواة كان الأفراد يتمسّكون بها في حالة الطّبيعة. يقول « روسّو » « يولد الإنسان حرّا ولكنّنا نجده مكبّلا بالحرّية من كلّ مكـــان »  لا يقوم حقّ الإنسان، مثلمــــا يقدّمـــه « روسّو »، على أساس الحقّ الطّبيعي ولا على أساس القوّة وحدها، لأنّ اصطلاح حقّ الأقوى متناقــــض لا معنى لــــه، وفي ذلـــك يقول « إنّني إذا نظرت إلى القوّة وحدها وعنيت بإيضاح النّتائج المرتبطة بها،  وجدت أنّ شعبا يحسن الصّنع إذا اضطرّ إلى الخضوع فيخضع،  لكنّه يحسن الصّنع أكثر إذا استطــــاع خلع الظّلــــم فخلعــــه ».  أليس في ذلك دلالة على أنّ الإنسان يستعيد حرّيته بالحقّ نفسه الّذي سلبه إيّاها؟
إنّ النّظام الاجتماعي هو حقّ مقدّس يصلح قاعدة لكلّ الحقوق، لكنّ هذا الحقّ ذاته لا يصدر عن الطّبيعة بل يستند إلى اتّفاقات عقدت بين النّاس، فحقوق الإنسان هي جملة من القواعد والمبادئ والقوانين الّتي تنصّ على ضرورة ضمان الحاجات الإنسانية المختلفة للأفراد داخل المجتمع المدني كحقّ الإنسان في الحياة والكرامة والحرّية أي حرّية التّفكير والاعتقاد والانتماء السّياسي والعمل والصّحّة والعلم والأمن. الإنسان هو مصدر حقوقه باعتبارها جملة القوانين الثّابتة الّتي تفرضها الطّبيعة الإنسانية، ولذلك، فإنّ هذه الحقوق لا تستوجب أيّ سلطة لإقرارها ولا أيّ قانون لضمانها، لأنّ الإنسان وحده هو مصدرها وهو غايتها القصوى وأنّ كلّ القوانين والتّشريعات المنظّمة للحياة المدنية للإنسان تهدف بالأساس إلى تكريس هذه الحقوق وضمانها.
لقد جعلت « حنّة آرنت » سلطة هذه الحقـــوق فوق كلّ سلطة أخرى، وهي تشير، بذلك، إلى خطورة تجـــاوز هذه الحقوق أو النّيل منها طالما أنّ الإنسان نفسه يتحدّد باعتباره المصدر الوحيد لحقوق الإنسان. لكن، مالّذي يضمن تكريس هذه الحقوق وبقائها؟  لقد أعلن « روسّو » أنّ حقّ الشّعب أو سيادته هو الضّامن الوحيد لتمتّع أفراده بحقوقهم الطّبيعية وذلك في ظلّ النّظام الديمقراطــــي حيث تكون السّيادة، دائما، للإرادة العامّة. إنّ سيادة الشّعب لم تعلن باسم الله بل باسم الإنسان. إنّ الانسان، الّذي أراد التّمتّع بكلّ كرامته، انثنى ليصبح مجرّد فرد من الشّعب. فمرجع حقوق الإنسان هو الإنسان، لكنّه بالمعنى المجرّد، وهذه مفارقة، فالإنسان المجرّد لا وجود لـــه في أيّ مكان.
إنّ المجموعــــة البشريـــة الّتي لا تعمـــل بحقــــوق الإنســـــان هي مجموعة غير متحضّرة، واستتباعا لهذا الإقرار الأوّل، يكون الشّعب المستقلّ الّذي يتمتّــــع بالسّيادة الدّاخليـــة والخارجية وغيـــــر خاضــــع لأيّ شكــل من أشكـــال التّبعيـــة العسكريـــــة أو السّياسيـــة أو الاقتصادية أو الثّقافية، هو السّبيــــل الوحيد الضّامن لحقوق الإنسان، كإقرار ثان. 
تستبعد « حنّة أرنت » المقاربة المقرّة بأنّ مصدر حقوق الإنسان ليس المجتمع المدني بل هو الطّبيعة البشريـــة، وبأنّ مسألة حقوق الإنسان ليست مقترنة بمسألة حقوق الشّعـــوب، وبالتّالي : ألا ينتهي هذا الاستبعاد إلى إقرار تنتهي إليه « حنّة آرنت » يتمثّل في اعتبار الجنس البشري أسرة واحدة من الأمم؟ هذا الإقرار ثبتته أطروحتهـــــا في مرحلة تقدّمت نحو مزيد من التّسليم التّدريجــــي بأنّ الشّعــب، وليس الفرد، هو صورة الإنسان المقصود. إنّ مفهوم حقوق الإنسان ارتبط بظهور المجتمع المدني الحديث والدّولة الدّيمقراطية الحديثة الّتي يعود فيها حكم الشّعب إلى الشّعب نفسه، لذلك، فإنّ الدّمج ثلاثي الأبعاد أو المركّب الجديد للإنســـان مصدر الحقــــوق، إنّما يشيـــر إلى ما يلي:
مصدر حقوق الإنسان هو الإنسان ذاته داخل نظام ديمقراطيّ تستمدّ الدّولة في هذا النّظام شرعيّته من سلطة الشّعب وتستبعد استمدادها لشرعيتها من سلطة خارجية. كلّ هذا السّياق يؤيّد النّسق النّظري الّذي يشّرع لوجود خيط ناظم يسمّى الدّولة الدّيمقراطية، وهي سلطة المؤسّسات الضّامنة لحقوق الإنسان من خلال تطبيق عدد من القوانين. أمّا النّظام الدّيمقراطي فهو نظام يحكم فيه الّشعب نفسه بنفسه بواسطة مؤسّسات مستقلّة وبواسطة القوانين، وأمّا القوانين فهي جملة القواعد المحدّدة لما يجب أن يكون وما لا يجب أن يكون، سواء كان هذا القانون سياسيا أو اقتصاديا أو أخلاقيا، وأمّا الدّولة فهي القوّة الاجتماعية المنظّمة الّتي تملك سلطة قويّة تعلو قانونيا فوق قوى الأفراد والجماعات داخل المجتمع، وهي تتمتّع، شرعيّا، بحقّ استعمال العنف. وأخيرا، تكون الأمّة هي الوشاج الّذي يربط مجموعة بشريّة كوحدة اللّغة والتّاريخ والعقيدة فتكون شعبا. وهي شعب وإن انقسمت إلى عدّة دويلات.