في العمق

بقلم
البحري العرفاوي
الخطاب الحداثوي في تونس من الخيبة إلى «التكفير»!!
 (1) خيبة خطاب الحداثويين
 يُخشى أن يكون «الحداثيون» قد انتهوا إلى خيبة مسعى بعد عقدين كاملين من الإشتغـــال على مفردات بارقة من مشتقات العقـــل والتقــدّم والنور... بعد مـــدة زمنية كافية لبناء دولة وتخريج أجيال عاقلة ومتمدّنة ومستنيــــرة ومعتدلـــة ،انتهى الخطاب الحداثـــوي إلى «الصراخ» في ظلمة يقول أحاطت به ... خطاب حداثوي  يعوي مستجمعا أهلهُ على خطة جديدة لمواجهة خطر عودة «الظاهرة الدينية»!!
نحن أمام أسئلـــة حقيقيـــة لا يمكن تجاهلها ولا يمكن اختزال أجوبتها في صرخات فزع ولا في بيانات إدانة ولا حتى في تقارير أمنيــــة:
ـ ما الذي أنجزه خطابٌ يقولُ حداثي بعد عقدين كاملين من النشاط مستقويا بذراع الدولة وغارفا من الخزينة العمومية ومتكلّما بلسان طويل وبصوت جهوري وبنبرة ساخرة ومستعلية ؟
ـ كيف كانت محصلة الخطاب الحداثوي حالة من التشوه الحضاري واستفحال الجريمة والعنف وتفكك الأسرة والتمرّد على المشتــرك من القيم وانتشار «عيادات» الروحانيين والفلكيين والرّاجمين بالغيب ومظاهر سلوكيّة لا علاقة لها بالعقل ولا بالتمدّن ؟!
ـ كيف عــــادت الظّاهـــرة الدّينيـــة من بين أنقـــاض حمــــلات التجريف والتجفيـــف خاضها شركـــاء المصـــالح السياسيـــة منذ عقدين كاملين؟
ـ كيف انتهى الخطاب الحداثوي من حالة العُجب والوثوق والإستعلاء إلى حالة توجس وتحصّن «بالحيل الفقهيّة» وبالجهاز القضائي؟!
هل يمكن القول بأنّ الخطاب الحداثوي لم يفلح في إنتاج حداثة طالما بشّر بها واكتسب منها مشروعية «التسلّط» معرفيّا وماديّـــا على المجتمع طيلة عقدين ؟
(2)  الذهاب إلى الظلمة!
 يردد العاقلون دائما الحكمة القائلة : «أن تضيء شمعة واحدة أفضلُ من لعن الظلمة ألف مرة» ولكن يُخشى أن يكون  حداثويّون عديدون قد أعيتهم المواجهة بأدواتها المعروفة مع الظاهرة الدينيّة ـ في مختلف أبعادها السياسية والعقدية والثقافية ـ فقرّروا اعتماد أساليب جديدة يظنّونها أنجع وأسرع حسمًا للـ «معركة»! ومن بين تلك الأساليب:
ـ الذهابُ مباشرة إلى الظلمة وإقامة طقوس الرثاء للحداثة والعقلانية والتنوير!! بحيث يستعيض المعنيون أولائك عن الخوض في الفكر الحداثي التنويري بالحديث عن الظلامية والرجعيّة بنبرات يمتزج فيها الخوف والتخويف والحقد  والتشنيع ـ مع إن مثقفين كثيرين ويساريين هم أكثر هدوءا وعقلانية ـ 
ـ تجميع حطب المواقد وإقامة طقوس النار ودعــوة الأصدقـــاء إلى الإسهام في التحريض والتحذير والتهويل .
ـ تحميل السلطة مسؤولية «الردة» وعـــودة «التهديد الدّينــي» إذ فسحت المجال السمعي البصري والمكتوب لخطاب يرونـــهُ غير حداثي!!
ـ وأخطرُ ما يستسهلُ هؤلاء اعتمادهُ هو : «تصنيع التكفير»!!... وهنا ننبهُ إلى أن مثل هذا السلوك يخرج عن الصراعات الإيديولوجيّة وعن التدافع الفكري الى استتباعات أمنية قد لا تكون هينة!!
«فتاوى التكفير» ليست تقاليد تونسيـــة وليس ثمة منابت عقديـــة أو مذهبيّة أو عشائريّة أو ثقافيّة  قد تسمـــحُ بإنتاجها... رُبّما نُعت بعض النّاس بما نعتوا به أنفسهم من إلحاد أو لا أدرية أو لائكيـّــة .. ليس في الأمر «تكفيرٌ» حين يُدعى الفردُ بما أقرّه لنفســــه فالقرآن ينادي الذين كفروا بصفتهم تلك معترفا لهم بهويتهــم واستقلاليــــة ذاتهم «يا أيّها الكافــــرون»... وأمّا اتهــــامُ الشخص بالكفر ولم يعلنــهُ بسبب فكــــرة أو تأويل أو سلــــوك فليــس ذاك من حــــق أحدٍ.... وإذا حصل على لســـان أفــــراد ليس لهم سلطـــان مــــادي أو روحــــي أو شرعـــيّ فلا يكون من داع للفزع والتهويل، إذ لا يخرج مثل ذاك القول عن كونه إقصاءً نظريا لشخص من حقـــل مُقدّس مشتــــرك وهو لا يختلف في ذلك عن مفردات إقصائية من جنس الظلاميّة والرجعيّة والتّخلف إذ تقصي ـ نظرياـ المستهدفَ من حقل التنوير والتقدمية  والحداثة.
وأما أن يكون هذا «التكفيرُ» صادرا عن مجموعة أو أفرادٍ ومتبوعا بتهديد بالتصفية المادّية، فهو مــــا لا يُقبل عقلا ولا شرعـــــا ولا قانونا، مع إنهُ ـ وفي مثل هذه الحالات ـ يكون من الــــلاّزم التثبّت من صدقية ما يُشــــاعُ وما ينشرُ .. وإذا كان للإشاعـــــــات أساليبها الحداثية جدّا ، فللأمن أيضا أدواته الحسّاسة لا تنطلي عليه البيانات غير المُبينة!
كما على من يحترمُ عقلهُ ألاّ يستعجل تأكيد سذاجة غير ضروريّة حين يُصدق ما لا يُعقلُ وحين يشاركُ أسماءً نكراتٍ وهمها بأنها في دائرة التهديد التكفيري!
(3)  الظاهرة والأسباب
 ليس ثمة من ظاهــــــرة بدون سبب ، ولعل من أوكد مهام العقل رصدُ أسباب الظواهر بحيث لا يربطها بنوايا تآمرية أو بمجــــرد رغبات عابرة أو حتى قرارات سياسيّة ـ وهنا يُعول على دور المثقفين وعلماء الإجتماع وعلماء النّفس ودارسي الظواهر التاريخيّة والإجتماعيّة ـ 
لماذا فشل الخطابُ الحداثوي في تحقيق الحدّ الأدنى من الحداثة؟ ـ نأملُ ألا يُزايد أحدٌ في الوهم وفي لوْك شعارات تستعمل كالزبيبة لتحْلية خطاب حداثوي!! 
لماذا لا يجدُ أنصارُ الحداثة من التأييد والإقتداء والثقة والتقديـــــر ما يجدهُ إمامٌ خطيبٌ أو داعيـــةٌ أو مُفتٍ؟ لماذا كلمــــا اصطدم مفكـــر أو كاتب بمعتقدات الناس عادُوهُ ونفروهُ وسدّوا آذانهم عن كلامه؟ لماذا فشل أنصارُ العقلانية في نصرة عقولهم؟ ولمـــاذا فشل العلمانيون في تحشيد الناس حولهـــم؟ لماذا عجز «عسكر التجديد» عن اختراق المنظومـــــة الفقهيــــة والمسلمــــات في أصول الدّين والتّفاسيــــر؟ رغم ما يتوفّر عليه فكر اليسار من عمق فلسفي واجتماعي ومن قوة تحليلية.
أيّ عقلانية أو تقدميّة أو حداثيّة يدّعيها من يُروّجُ خطابا استعلائيا ساخـــــرا أو تحريضيّـــا حاقــــدا تجاه أبنــــاء شعبه من المتديّنيــــن إذ يعتقدون أنهم على صوابٍ وإذ يجدون سكينة واستقرارًا وراحة ضميرٍ في ما هم عليــــه من تمثل طقوسي وسلوكي لتصور دينيّ متوارث أو مكتسبٍ ؟!. لماذا يتعاطى بعضٌ من النخبة الحداثيــــة مع الظاهرة الدّينية تعاطيا «حربيّا»؟! كما لو أنهم في مواجهة أعداء وافدين من خارج الحدود؟ـ( ولمن سيقول إن العداوة كامنة في الفكرة أقولُ: إن الأفكار لا تعالجُ بغير الأفكار ولا يُستفتى في أمرها القضاة ولا الجهات الأمنية!! تلك أساليب غير منسجمة مع مهابة المعرفة وهيبة العارفين )ـ.
العقلانيــون أولائك يشكّكون في قدرة العقـــل حيــــن يلجـــأون إلى أجهزة الدولة لمعالجة الأفكار أو حين يتصارخون منذرين بالويل والثبور متحشدين كما العسكر حول مدرسة بأسماء شتـــى ولكن...من غير بابٍ!
(4) مبروك عليك التكفير( أو سُيّاح اليمن )
 العنوان يبدو كما لو أنهُ مزحة...ولكنهُ سيكون حقيقة إذا انطلت «الحيلة الفقهية» على البلاد. وإذا تهافت أناسٌ يناصرون المكفّرين أولائك ويلعنون التكفيريين كما لو أن تونس امتــــدادٌ لـ «تورا بورا» أو لوادي سوات أو الصومال!! 
قد يكون مُجديا افتراضُ وجود من يسعى إلى إشاعة «صناعة التكفير» في البلاد لأهداف ذاتية لا علاقة لهـــــا بالتدافع الفكـــــري أو بالصراع الإيديولوجي.
بعض النكرات من المستعجلين على الشهرة يودّون صدور أسمائهم في قائمة المتّهمين بالكفر والمُهدّدين ـ افتراضياـ بالتصفية... يغضبُ بعض المغمورين ممن لم يذكر مع هؤلاء ... يُباركُ بعضٌ لبعضٍ «شرف التكفير» ويتمنى لغيره من الأصدقاء شرف ما نال: «العاقبة لك» يقولُ من كُفِّرَ لمن لم يُكقرْ بعدُ!!
تلك لعبة ٌ ساذجة ولكن مُؤذية معرفيا وأمنيّا وعقديّا واجتماعيّا... ومؤذية للذين يغامرون بعرض أنفسهم للتجريب العبثي.
سألني صديق رأيي في المسألـــة، فأجبتــــهُ بالكثيــــر ممّــــــــا في النّص ثم ذكرت لهُ حوادث السيّــــاح الغربيين في اليمــــن، يختطفهم قطـــاع الطريـــــق، يغتصبــــون منهم من شـــــاءوا ثم يطلبون الفديــــة من أهلهم لإطلاق سراحهـــم ... بعض السياح الغربيين اشتهوا التعرّض لما تعرّض له غيرهم فتعمّدوا الذهاب إلى الأماكن الخطرة مُتظاهرين بإضاعة الوجهة...فحصل اغتصابهم كما اشتهوا ودفع أهلهم الفدية!!
ونالوا شهرة في الإعلام ووجدوا تعاطفا في «محنتهم» تلك !!
(5)  الضعف والخوف والعنف
 يقول البعض: « لماذا تضيق صدور المسلمين اليوم بوجهات نظر أو بتأويلات أو بمواقف وسلوكات، وقد شهدت الحضارة الإسلامية سابقا من الأقوال والأفعال ما لا يتسعُ لهُ صدرٌ اليوم؟ ماذا لو كتب شاعر اليوم ما كتب بشّار بن برد أو المعري أو أبو نواس؟!» 
أعتقد أن الأقوياء هم المتسامحون إذ يستمدّون من قوتهم الأمان والثقة بالنفس فلا يخشون من مختلف ولا يرتابون من بدعٍ ولا يخافون مَن خرج عن إجماعهم وانجذب لسواهم... الضعفاء يخافون، والخائف يضربُ في كل اتجاه ويحرص على أن يراهُ الآخرون عنيفا وقادرًا على الإيذاء!! ربما يقتنعُ بعض الشباب بأن المسلمين اليوم هم في أشدّ مراتب الضعف ولذلك يحرصون بحسن مقصد على حماية ما بقي من مكونات الأمة، يخافون أن تفقد مقوماتها الأخيرة أمام مشاريع يعتقدون أنها خطرة ومهدّدة، ذاك الخوف وذاك الحرصُ وذاك الحبّ كلها عواملٌ نفسية لا يمكن إلا أن تنتج ردود فعل ليست من جنس الحوار ولا من إنتاجات العقل ولا حتى من طبيعة الإسلام نفسه.
على خطاب الحداثة أن يكون مسؤولا وأن يبدي التضحية النضالية وأن يكف عن لعب دور الضحية دائما! وبين «التضحية» و«الضحية» هُوّة ليست سطحيـــة إنّمـــــا عميقـــــة وتاريخيـــــة وحضاريــــــة. الأنبياء والمصلحون والفلاسفة كانــــــوا مُضحّيـــن ومصطبرين ومتسامحيــــن ومغالبيــــن لغرائزهم الإنتقامية وللرغبات العقابية..لذلك انتصـــــروا ولذلك حققــــوا تغييرات عميقــــة في الوعــــي وفي العواطف وفي التاريخ.
كيف يمكن لنخبة متعالية ومتجبّـــرة وحاقدة أن تجتذب إليها الناسَ أو أن تكون قدوة معرفية وعمليّة ؟! كيف يمكن أن يُسلمها الناسُ مصائرهم وتاريخهم ومدخراتهم من الثروة ومن التراث؟!
من أوكد مهام العقل ليس فقط البحث عن الأجوبة وإنما وأساسا طرحُ الأسئلة.
على المثقفين عامّة وعلى مثقفي خطاب الحداثة تحديدا أن يستلوا الأسئلة من مفاصل «الجمل البارك»!! أيها الأصدقاء غشِيَنا نُعاسٌ ونحن جميعا في الظلمة!
أيها الرفاق والإخوة والأصدقاءُ.. لقد «برك الجملُ» وكلّ مؤونتنا ووثائق هويتنا عليه... فتعالوا نتكلم في الطرائق والطريق.