ثلاثة أسئلة إلى النخبة (16)

بقلم
نعمان العش
ثلاثة أسئلة إلى النخبة (16)
 1
قراءتكم لما حدث في تونس 
بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011؟
إنّ عمق الجواب يحتاج إلى الإقرار بتوفّر القادرين على الفهم وعلى القراءة وعلى ترجمة كلّ ذلك في قراءة تحليلية علمية موضوعية، لكنّني أعجز عن التّسليم بتوفّر هؤلاء القادرين الّذين وإن وجدوا فإنّهم يطمسون بوعي أو بدون وعي تلك القدرة بتدخّل لم أجده محذوفا في كلّ ادّعاءات التّحليل والتّفسير لما حدث في تونس بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 لإيديولوجيا مغرضة تفتقد لذاكرتي التّاريخ والتّحيين أو لمنفعية مذلّة للتّاريخ وللإنسان الكريم وللوطن أو لأجندة دعوني أدّعي بأنّها أجنبيّة قد أجزم بأنّ فصولها لا تتضمّن المصلحة الوطنية وقيمتي الحرّية والكرامة. 
« إنّ الثّورة التّونسية انطلقت يوم 17 ديسمبر عندما انتحر الشابّ محمّد البوعزيزي في سيدي بوزيـــد وتواصلت الأحداث بصفــة تدريجية ولم تصبح الثّورة شاملـــة وعارمـــة في كامل البـــلاد إلاّ في شهر جانفـــي 2011 وبلغت مرحلة متقدّمـــة يوم 14 جانفي يوم هروب بن علي، أي أنّ سقوط بن علي كان تتمّة لمرحلة أولى من الثّورة التّونسية الّتي لم تنته بعد ومازالت متواصلة إلى أن تحقّق أهدافها ». هذا القول للمرّخ عميرة علية الصغير نحاول أن نخلص به إلى قراءة أولى تفيد بأنّ الثّورة شرعت يوم 17 ديسمبر 2010 واكتمل شوط إنجازها يوم 14 جانفي 2011  ليمكث السّؤال الّذي تتضمّنه عبارة المؤرّخ متى تكتمل الثّورة؟ شرط التّمام يجعله المؤرّخ في تحقيق أهداف الثّورة. 
أمّا المؤرخ محمد ضيف الله فهو يرى « أنّ الثّورة التّونسية يجب أن تسمّى بثورة 17 ديسمبر لأنّ هذا التّاريخ يرمز إلى أنّ انطلاقتها كانت من المناطق الداخلية المحرومة، وأنّ القول بأنّها ثورة 14 جانفي يعني أنّها مرتبطة بالعاصمة كما لو أنّ العاصمة هي الّتي احتكرت كلّ الأحداث السّابقة وهذا هضم لدور المناطق الداخلية ».
يعتقد قارئ لمثل هذا التّوصيف للدّكتور محمّد ضيف اللّه أنّ الثّورة التّونسية هي ثورة جهوية أو طبقية أو هي ثورة جوعى. درجة من الفهم لمثل ذلك قد تسوق إلى إدّعاء البعض، من الملوّثين بإيديولوجيات لا تاريخية و لا حضارية، بأنّ الثّورة تخصّهم دون غيرهم من أبناء وعناصر وأطياف الشّعب التّونسي. هو ادّعاء لا أستطيع أن أتحمّل وزر تصديقه ولا عبء تبنّيه. 
إنّ الإدّعاء دون الجزم، حسب توصيف الدّكتور محمّد ضيف اللّه،  بأنّ الثّورة التّونسية لم يكن مخطّطا لها ولم يسبقها أيّ تنظير فقد كانت عفوية وبلا قادة خلافا لما كان عليه الحال بالنّسبة للثّورات الفرنسية والرّوسية والإيرانية، هو ادّعاء لا أراه مفارقا للواقع أو منافيا للمنطق غير أنّ ما ينقصها هو التّنظير وما يفيد بالدّور الجوهري لمختلف الأطياف المثقّفة والمفكّرين باستئناف الدّور التّاريخ الّذي تتميّز به كلّ ثورة لها مثقّفوها ومنظّروها الّذي يحشدون للتّاريخ شوطا جديدا مزدوج الأطراف أي يفني المنظومة القديمة ويؤسّس منظومة جديدة يحوّلها الشّعب إلى شرط أساس للتّحقّق النّاجز للثّورة فيصبح منتشرا في أنماط الثّقافة المستحدثة ومؤسّسات المجتمع المدني وفي القوانين والتّشريعات ومختلف البنى العلائقية داخل المجتمع الّذي ثار ويواصل ثورته.
2
هل ترون أن النخبة التونسية قد نجحت 
في فهم مستحقات المرحلة وحققت بعضا منها؟ 
وهل نجحت في وضع البلاد 
على السكّة الصحيحة للإنتقال الديمقراطي؟
إذا كان « الاندلاع الرّسمي للثّورة التّونسية يوم 17 ديسمبر 2010 وأنّ يوم 14 جانفي 2011 هو السّقوط الرّمزي للنّظام لتتواصل بعده عمليات أخرى هامّة وهي حلّ التّجمّع الدّستوري الدّيمقراطي وكان بدوره يوم انتصار كما هو الشّأن بالنسبة لإقرار العفو التشريعي العام »، بتعبير المؤرّخ عبد الواحد المكني، فإنّ تساؤلي سوف يكون ردّة فعل تلازم كلّ مثقّف عاش التّاريخ المكلّل بغيم كثيف غير مبشّر بأمطار نافعة أو مغذّية بل بحجارة سجّين أمطرت الشّعب التّونسي لعقود كانت مسوّمة لكلّ المعارضين الوطنيين وأبرزهم الإسلاميون، وهو: هل أنّ قرار حلّ التّجمّع الدّستوري الدّيمقراطي كان قرارا وطنيا تقرّر في الآن المناسب لتواصل تحقيق الثّورة حتّى تكتمل أم أنّه قرار لاوطنيّ يعادي استمرار الثّورة مبشّرا بحالة « محلّك سر » وبقاء الحال على نمطه القديم. 
أدعوكــــم إلــــى التّأمّــل فـــي أحـــداق إيديولوجيــا يلبسهــــا هذا المؤرّخ (؟؟) فـوق عباءة التّاريـــخ حيـــن يقول: « الثّورة التونسية مازالت مستمرّة حتّى بعد انتخابات أعضاء المجلس الوطنــي التّأسيســي وإلى غايـــة أن تحقّق ما جاءت من أجله وهو القضاء على الفقر والحرمان والتهميش والحدّ من المساس بالحرّيات الأساسية التي كان يعتدى عليها في عهد بورقيبة باسم الشّرعية النّضالية وفي عهد بن علي باسم الشّرعية الأمنية وهناك الآن من يريد الاعتداء عليها باسم شرعية المقدّس الدّيني ». 
هكذا، أجدني مذكّرا باشتراط إتقان القراءة و بالتّمكّن من ضمانات قراءة تحليلية علمية موضوعية، لأنّ ما عبّر عنه هذا المــؤرّخ مصاب بفقر العلم وتضخّـــم الأوراد الإيديولوجيـــة فخاتمــة قول هـــذا الإيديولوجـــي متكلّــس الفهـــم والحصانــة العلميـــة، مصابـــة بغشاء الوهم لواقع يريده أن يتحقّق ضمن قراءة فكرية وافدة وغير محلّية أو تاريخية وطنية. هذا الواقــع لم ينبــئ عنه أيّ حدث لذلك حاسب المؤرّخ إمكان وقوعه بحسب ما تمليـــه عليه أوهامه الإيديولوجية. كلّ الوصفات التّحليلية الّتي تبرّع بهـــا محلّلـــون لآذان غافلـــة ربّما كانت تسمعها أو لآذان أرادت أن تكون صمّاء فلم تسمعها وردت من زبائن مخلصين في بنك العمالة الدّولية والخيانة الوطنية، فهل نصدّقها؟
3
أي مستقبل ينتظر تونس؟ 
وكيف السبيل إلى تجنّب الفشل؟
إنّ أفق المقبل يحاط:
(1) بكثافة الأحداث
(2) وبكثافة التّباين الّذي يجب أن يشوبها
(3) وبتصاعد وتيرة الصّراع،
 لأنّه من الأحداث ما كان تكثّفه مطبخا حقيقيا لصناعة الحدث الرّئيس لعلّه أحد أعمدة الثّورة النّاجزة ومحضنتها ولأنّ التّبايــن ما لا يكون حاملا لدلالة الصّراع بمعنييه اللّيبرالي أو الماركســـي (المنافسة الحرّة/الصّراع الطّبقي) بل ما يكون تدافعا حاملا لكاميرا كاشفة لعورات اللاوطنيين وفاضحة لخياناتهم في التّاريـــخ وفي الجغرافيا وموثّقة للتّحاذي والتّرادف الوطنـــي ومؤسّسة لتزاحم من أجل التّراحم لا من أجل الإقصاء والامتلاك غيـــر الشّرعي لكرامة الوطن ولثروته ولأنّ الصّراع لا ينفصـــل عن اصطـــدام المتزاحميـــن المتراحميــن مع المزدحمين المتزاحميــــن، فهذا يجب أن يبعـــد الآخر ولا يستبعده. أليس الصّراع سلما إجباريـــة؟ يدفعنـــي هذا التّوصيف المجازي إلى توجيه خطــاب شديـــد الثّقــــة إلـــى كلّ السّياسييــــن وأحزابهـــم وإلى كلّ المثقّقفين ونخب علوم السّياسة وعلماء الاقتصاد السّياسي وإلى أهل الاختصاص في مجالات «علم الاجتماع الثّقافي» يشحن فيهم ما يمثّل نضالا وطنيا لأجل تأسيس أفـــق يحــــاذي كلّ ما بذله أمثـــال هؤلاء في أوطان أخرى ثارت في عمق التّاريخ فكلّ ضمنيات ما عبّرت عنه بالتّدافع تختزل هذا النّمط النّضالــي الّذي يهيئ أفق الخلاص الوطني السّلمي الآمن الّذي يجب أن يمتنع عن أن تشحنــه الإيديولوجيـــا من جديد فتفسد الحاضـــر والمستقبـــل تعكّـــره بفشل يلغـــي عمّـــا حــدث بيــن 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفــي 2011 فلن يسمّـــى بعده ثورة أنجزت وتمّ إنجازها. تلك هي الثّورة وكلّ جواب عنها لا يوسم ببراءة إلاّ براءة الاختراع الّتي حضي بها كلّ الشّعب.