ثلاثة أسئلة إلى النخبة (12)

بقلم
فتحي الجميل
ثلاثة أسئلة إلى النخبة (12)
 1
قراءتكم لما حدث في تونس 
بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011؟
إن القارئ الجيد لمســـار التاريــــخ البشري يــدرك أن ما حدث فــي تونس أمر متوقّع، دون أن يعــــرف بالضـــرورة شكلـــه وتوقيتـــه. وما حدث يوم 17 ديسمبر 2010 هو تحرّك احتجاجيّ عفويّ غذته سنوات من الشعور بالظلم، تحوّل بفضل بعض وسائل الإعلام الأجنبية وبفضل شبكات التواصل الاجتماعي إلى حراك ثوريّ متنام وتضامن بين الجهات والمناطق في البلاد، لكن الانتبــاه إلى فكرة «الثورة» بمفهوم التغيير الجذري لم يتّضح إلا بصفة متأخــــرة، أي بعد أيام من مغادرة بن علي البلد، عندما بدأت اعتصامات القصبة تطالب بإسقاط النظــــام وبمجلس تأسيسي. قد تكون هناك جهات أجنبية نهضت بـــدور حاسم فــــي إخراج بن علــــي من البـــلاد، لكن المرء لا يستطيع أن ينكر دور الشعب في إشعال الثورة والسير بها نحو النجاح في إسقاط النظام. 
قد يكون من المبالغة أن نسمي ما حدث في تونس بين هذين اليومين «ثورة»، لكن الأيام ستثبت أنها ثورة من بنات زمنها، هي ثورة القرن الحادي والعشرين التي لا تقوم بالضرورة على سفك الدماء وسحل في الشوارع، بل على مسار طويل مضنٍ من إعادة التثقيف سعيا إلى بلوغ مرحلة استقرار ديموقراطيّ. 
2
هل ترون أن النخبة التونسية قد نجحت 
في فهم مستحقات المرحلة وحققت بعضا منها؟ 
وهل نجحت في وضع البلاد 
على السكّة الصحيحة للإنتقال الديمقراطي؟
علينا أن نقّر أولا بأن النخب في مجملها قد فوجئـــت بالثــــورة، لأن قلة منها قد ظلت تؤمن بإمكــــان التغيير وإلحاحـــــه. ويمكن لنـــا أن نجازف بالقول إن المثقفين قد أصيبوا «بصدمة الديموقراطية»، لأنهم في الغالـــب لم يقيمـــــوا نشاطهم التفكيـــــري أو الإبداعــــيّ أو النضاليّ على إمكانية التغيير والإسهــــام في البناء الجديد. بل كان جهدهـــم موجها للرفض والتمرد والنقـــض القريب من الحلم أكثر من التخطيـــط والإبــــرام والتأسيــــس. وقد أدت هذه الصدمـــة إلى عجائب نراهـــــا في ما يقولون ويكتبون وفي سلوكهم السياسيّ. لقد انقسمت النخب التونسية بين مجموعة هاجمت الثورة بشتى الطرق الصريحة والخفيــــة حفاظا على مكاسبها في العهد البائد، ومجموعة واصلت التلـــون والتسلّـــق والتجارة الفكرية فحاولت أن تكون دوما في صف السلطان مهما تغيرت أسماؤه وأفكاره، ومجموعة غلّبت الصراع الإيديولوجي الموروث عن عهد بورقيبة وأعــــادت تأجيجـــه، ومجموعة قليلة آمنت بالثورة بناء جديدا على أسس جديدة تقوم على الديموقراطية واحترام الخصم السياسي والإيديولوجي، ومجموعة خامسة فضّلت الصمت والمشاركة المحتشمة في الحراك السياسي تعففا أو تجنبا للضريبة التي يدفعها المثقف في زمن الانفلات الشامل. 
وأعتقد أن الثورة قد فضحت كثيرا من أدعياء الحرية والديموقراطية والحداثة، وأن بعض من يحسب على طائفة «غير المثقفين» قد أظهر وعيا ثوريا أعمق من بعض «المثقفين». وأظن أن الفئة الأولى التي تنتمي إلى صفّ الثورة المضادة ما زالت تشكل خطرا على الثورة والتجربة الديموقراطية، فهي لا تعسى فقط إلى إعادة النظام السابق في شخص بعض رموزه التجمعيّين، بل تحاول أيضا إعادة إنتاج ذلك النظام بإقصاء الإسلاميين وشيطنتهم. وهي تستعين في ذلك بجهاز إعلاميّ ضخم يحاول تشكيل الرأي العام وتوجيهه لخدمة هذه الثورة المضادة الاستبدادية الإقصائية.   
إن المثقف الحقيقي بعد هذه الثورة التي منحها له الشعب ليس مطالبا بتغيير مبادئه وتوجهاته الفكرية، بل هو مطالب بتبنّي المشروع الديموقراطي بمفاهيمه الأساسية القائمة على التداول السلمي على السلطة والاحتكام إلى الدستور والقانون والحفاظ على الحق في التفكير والتعبير ومعاملة الخصوم السياسيين على أنهم شركاء في الوطن وليسوا خونة أو أعداء. 
وحول مدى نجاح النخبـــة في وضع البــــلاد على السكّة الصحيحة للانتقــــال الديمقراطــــي، فقد كــــان التجاذب السياســــي خطرا على البــــلاد، وكاد يفضــــي بها إلى الفوضـــــى والانهيار الاقتصادي، لكنّ شعورا جماعيا بالخطر لدى السياسيين والنقابيين والنشطاء في المجتمع المدني ولدى جموع الشعب نفســــه قــد أدّى إلى شيء من التعقّل المحتفّز. فقد اجتمع الفرقـــــاء في مصلحة الخوف من «الخســارة الجماعيــــة»، ففضلــــوا التهدئة المؤقتــــة في انتظار استئنافهــــا بتحالفات جديدة ووسائل جديدة في الصراع بعد الانتخابات المقبلة. على أن ما يهدد هذا الانتقـــال الديموقراطي لا يتمثّـــل في الثورة المضادّة في الداخل ومخاطر الانهيار الاقتصادي والاجتماعيّ فحسب، بل يتمثل أيضا في القوى الخارجية المختلفة الأهداف والتي تسعى إلى فرض الوصاية على التجربة التونسيـــــة أو الحدّ من انتشارها عربيا.
3
أي مستقبل ينتظر تونس؟ 
وكيف السبيل إلى تجنّب الفشل؟
أنظر إلى مستقبل البلاد بعين التفاؤل. فقد تمر البلاد بعد الانتخابات القادمة بفترة من تجدّد الاشتباك السياسي ويتكرّر التشكيك وينشب الاختلاف في تفسير ما يبدو الآن توافقيا من فصول الدستور. لكن السياسيين الجادين المسؤولين سيشعرون بمرور السنوات أن التحالف هو الاختيار الأمثل للعمل السياسي وخدمة الوطن. ولا شكّ أن جيلا جديدا من الشباب سيشارك في العمل السياسي بعد انقشاع غبار المعارك الدائرة حاليا، وسيكون أقل تعصبا وأكثر جرأة في التخلص من الإرث الإيديولوجي القديم. ولعل السبيل إلى نشأة هذا الجيل هو السعي في نطاق المدرسة والمعهد والجامعة إلى التربية الوطنية الديموقراطية التي تغرس في الشباب مبادئ العمل الوطني وتجنبه التعصب ورفض الآخر. إن ثمار الثورة لن تقطف على المدى المنظور... وإنما سيتمتّع بها الجيل القادم إن عرف كيفية إنضاجها.