الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 48
 «ثلاثة أسئلة إلى النخبة» ذلك هو عنوان هذا العدد الخاص جدّا من مجلّة الإصلاح . هو ليس عددا يتضمن كما تعودنا أركانا قارّة ومقالات مختلفة المواضيع يكتبها محرّرو المجلّة ولكنّه عدد فتحنا صفحاته للنخبة التونسية من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية لتقدّم قراءاتها للحدث الجلل الذي هزّ تونس خلال الفترة الممتدة بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011 ونقدها لآدائها خلال السنوات الثلاث التي مرّت منذ هروب رأس النظام السابق الطاغية بن علي ومدى نجاحها في فهم مستحقات المرحلة ورؤيتها لآفاق الوضع التونسي ومستقبل التغيير الذي حصل فيه.
أن تجمع مواقف وآراء عدد من الشخصيات السياسية والفكرية والثقافية التي شاركت في صنع ما حدث خلال السنوات الثلاث الفارطة في وثيقة واحدة هو مساهمة من مجلّة «الإصلاح» في إنارة القراء لفهم ما حصل وما قد يحصل بما أن هذه النخبة هي التي بيدها مقاليد الأمور في البلاد سواء كانت في الحكم أو في المعارضة وسواء كانت في الميدان السياسي أو الثقافي أو الفكري. الفكرة كانت في البداية جميلة وتوحي بمتعة لمن سينفذها لكنّ تحقيقها كان صعبا للغاية ولعلّنا لم ننجح فيه بالشكل المتوقع والمطلوب. فقد قمنا بالاتصال بأغلب الأطياف السياسية والفكرية في البلاد عبر الوسائل المتاحة ( البريد الالكتروني وشبكة التواصل الإجتماعي والهاتف والاتصال المباشر وغير المباشر...) لضمان أكبر قدر من التنوع في هذه الوثيقة لكننا اكتشفنا أن التعامل مع النخبة ليس بالأمر الهيّن لأسباب عديدة لا يسمح المجال هنا لذكرها وبالتالي فإن التنوع الذي طمحنا إليه لم يتحقق بالقدر المطلوب نظرا لأن عددا كبيرا ممن اتصلنا بهم لم يلبّ الدعوة بالرغم من وعوده المتكررة.
أجمع أغلب المشاركين بأن وصف ما حدث خلال الفترة الممتدة بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011 بالانتفاضة هو تنقيص من قيمة الحدث وتبخيس لما تحقق على يد الشعب التونسي. في البداية كان « فعل تراجيدي معزول تحوّل سريعا إلى هَبّة محدودة» فثورة حقيقية وزلزال شعبي عفوي فاجأ الجميع لكنّه لم يكن وليد اللحظة فهو نتاج تراكم نضال شعب ظلّ لعدّة عقود محكوما بمنطق «الدولة السلطانية الوسيطة رغم كلّ الديكور الحديث الذي رافق نشأة الدولة الوطنية» على تعبير الدكتور الطاهر بن يحي. شعب عانى من مختلف أنواع «الحقرة» والتهميش والتنكيل والقهر وسلب للحريات فكانت هبّته تحقيقا لرغبة شعبيّة في الانتقال إلى وضعية جديدة، يكون فيها السيّد من خلال نظام سياسي «يقوم على أرضية دستورية وقانونية وشعبية ومؤسساتية دائمة». 
ولئن كانت الثورة التونسية حسب المؤرخ علي الزيدي، لا تتوفر فيها مقوّمات  الثورة المتعارف عليها عالميّا (المشروع والقيادة ووضوح المسار)، وهي « ثورة بلا رأس وبالتالي افتقرت إلى الوعي الثوري وإلى القيادة الثورية الموحدة» كما وصفها الدكتور الشيباني، فإنها «ثورة من بنات زمنها، وهي ثورة القرن الحادي والعشرين التي لا تقوم بالضرورة على سفك الدماء وسحل في الشوارع، بل على مسار طويل مضنٍ من إعادة التثقيف سعيا إلى بلوغ مرحلة استقرار ديموقراطيّ.» على حدّ تعبير الدكتور الجميل.
انتهى الحراك التونسي بطرد الطاغية وحاشيته ثم بفرض ارادة شعبية في القطع مع النظام القديم عبر انتخاب مجلس تأسيسي لكتابة دستور جديد للبلاد ليتغير الواقع السياسي التونسي بشكل كبير حيث تسلّم سجناء الأمس والمهجرين والمطاردين من النخبة مقاليد الأمور بعد انتخابات حرّة ونزيهة بشهادة الجميع . لكنّ الأزمات المتتالية التي عاشتها البلاد والصراعات التي بلغت حدّ الاغتيال السياسي أثبتت أن النخبة التونسية لم تحسن التعامل مع الواقع الجديد نتيجة لعدّة أسباب من بينها عنصر المفاجأة حيث أنها لم تكن مهيأة لتحمّل مسؤولية القيادة وليس لديها برامج ومخططات لتلبية مطالب الشعب وتحقيق أهداف الثورة. كما أن النخبة التونسية ليست متجانسة بل هي أصناف متعددة لكل منها وجهة نظر ومصالح وغايات، ثمّة من صنّفها إلى نخبة معطّلة وآخرى مكبّلة وثالثة متربصة وثمّت من صنفها إلى واحدة ديمقراطية حداثية وثانية ايديولوجية وثالثة نشأت وترعرعت في «أكاديميّة» الحزب الحاكم. يقول أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية بلغيث عون : «النخبة خليط إيديولوجي ومصلحي لا يمكن أن تتجانس له أهداف ولا رؤى ولا أن يكفّ عن اعتبار حربه الحقيقية حربا على خصمه الإيديولوجي والمصلحي قبل الحرب على التخلف والفقر...» فهل يعني هذا أن أزمتنا في نخبتنا ؟ وهل أن هذه النخب بجميع أطيافها لن تقدر على تجاوز خلافاتها من أجل مصلحة الوطن وبناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة؟ 
«لن نكسب شيئا من تبادل التهم وتحميل المسؤولية لجهة واحدة في تعثّر مسار الديمقراطية وتحقيق أهداف الثورة. فالمسؤولية تظل جماعية وإن اختلفت الدرجات والمقادير. للحاكمين الجدد مسؤولية وللمعارضة ولمن هم خارج هذا التصنيف من سياسيين ونشطاء في المجتمع المدني، وللقوى المضادّة للثورة في الداخل والخارج تأثيرها. ولعامة قوى الشعب مسؤولية أيضا» كما قال الأستاذ محمد القوماني . على النخبة إذا أن لا تضيع هذه الفرصة التاريخية التي منحها إيّاها الشعب وتردّ الجميل بأفضل منه . فقد منحها الحرّية بعد أن سلبتها منها أنظمة الإستبداد لعقود عديدة ومنحها الحكم والسلطة بعد أن كانت مطاردة أو سجينة. فهل ستنجح في تجاوز صراعاتها الايديولوجيّة وتترك جانبا خطاباتها الثورجيّة وتتجه إلى العمل والبحث عن حلول جذرية لما تعانيه تونس من مشاكل وتخلّف وأزمات؟
نتمنى أن ينال محتوى هذا العدد رضاء القراء آملين أن يتحقق الوفاق الحقيقي بين مختلف مكونات نخبنا وتتجاوز الحسابات الضيقة التي ابتليت بها واضعة مصلحة البلاد والعباد قبل المصالح الإيديولوجية والحزبية الضيقة التي تهدم ولا تبني وتفرّق ولا توحّد .