في الصميم

بقلم
د. مصباح الشيباني
الأمة في حاجة إلى «رجال مبادئ» وليس إلى حوار «الطرش»
 تمرّ أمتنــا العربية والإسلاميـــة بمرحلة تاريخية صعبــة، حيث يحاصرها أعداؤها من جميع الاتجاهات والمواقع ، وأصبح لصراعها  مع الأعداء في الداخل والخارج أبعادا جديدة، ومضامين سياسية وأخلاقية مضافة إلى مضامين القضايا والمشاكل الأصلية من تخلف وتجزئة واستعمار..الخ. فتدنت معه المشاعر الإنسانية والقيم الوطنية إلى درجة أن تحول معها من كانوا عقلاء إلى مخبولين، ومن كانوا أمناء إلى لصوص وتجار في السياسة والدين. فباسم «الحرية» يتم تدمير كيان الأمة، وباسم «حقوق الإنسان» يتم تفكيك الدول وإبادة الشعوب، وباسم «الديمقراطية» يتم الاستنجاد بالمحتل. لقد كان السبب المباشر لهذه الثورة هو واقع الاستبداد والظَلم الذي هيمن على المشهد المجتمعي العربي. وكان الهدف الأول من الاحتجاجات هو بناء الديمقراطية والاعتراف بالمواطنة العربية وعودة سيادة الدولة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية..الخ. ومازالت أهدافها الكبرى هي استعادة روح الأمّة والدّفاع عن هويتها العربية والإسلامية وعن قيمها الثقافية والدّينية التي تعرّضت إلى التهديم المنظّم من قبل أعداء الأمة في الدّاخل والخارج معا.
هناك مشاكل وتحديات أخلاقية وثقافية وسياسية كبيرة لم نعشها في الماضي. والتحدي الجديد يتعلق أساسا بكيفية إنتاج مجتمعنا العربي نفسه بنفسه، وكيفية تغيير آليات الفعل السياسي في الدولة. فالمشهد السياسي التونسي والعربي عموما، يطرح علينا السّؤال المنهجي التالي: وفق أية معايير يجب أن نشكل تجربتنا السّياسية الجديدة؟ أي هل نحن نعيش مرحلة القطيعة مع ماضي استبدادي مازال قريبا منا أم أننا نعيد إنتاجه ولكن بلبوس ثوري ناعم؟
فمن خلال فهمنا للثقافة السّياسية الخاصة بمجتمع ما ومن خلال إرثه المعرفي والقيمي نستطيع أن نعرف كيف تتشكل السّياسات في هذا المجتمع وكيف تنتقل من جيل إلى آخر. وكل أزمة حادة تشمل الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي تبدو أولا وقبل كل شيء أزمة حوار بين السّياسيين وأزمة في تأسيس ثقافة الاختلاف والتعدّد والديمقراطية. إن الافتراء على هذه القيم والمبادئ الإنسانية النبيلة، واستشراء ازدواجية المعايير في التعامل معها من قبل الفاعلين السياسيين (حكومات ومعارضات) في الوطن العربي أدى إلى مزيد تعميق هذه المشاكل والابتعاد عن حل قضايانا الاستراتيجية، وبات الأمر سافرا ومبتذلا إلى درجة غير معقولة وغير مقبولة وتأكّد لنا اليوم أن محنة الأمّة في محنة بعض نخبها الفكرية وسياسييها أي في غياب «رجال المبادئ».
نعتقد أنّ  جميع الفاعلين السّياسييـــن والإعلامييــن والمثقفيـــن لم يتحمّلوا بعد مسؤولياتهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي التونسي وتخليصه من التشوّهات الأخلاقية والقيمية السّابقة والتي مازالت تطبع ممارساتهم ومواقفهم وخطاباتهم إلى اليــــوم. فهؤلاء الفاعلون يمثلون قنوات الثقافة السياسية في المجتمع. والمناخ السياسي الجديد «المتحرّر» الذي حرّكتــــه الثورة لم يخفف من حدّة الصراعات السياسية والأيديولوجية والنزاعات الاجتماعيــــة والعنف الإعلامــــي في مجتمعنـــا التونســـي بـــل عمقهـــا أكثر من جديد في مجتمعنـــا . وهذه الحالـــــة من «الفتنـــة السياسيــــة» ليست إلا إحدى تجليات ضعـــف الأسس التي قام عليها «مجتمع النخبة» وتأكد أنّ هذه النخبة هي سبب نكبة مجتمعنا العربي في مختلف الحقـــول السياسية والثقافية والإعلامية لأنها تفقد الحدّ الأدنى من المبدئيـــة في مقارباتها السياسية التي تدّعي أنها تناضل من أجلها. والمجتمـــع الذي يفتقد فيه قادته السياسيــــون القدرة على إعمال العقـــل وتطويـــر طرق التعامــــل في ما بينهم في إطار الوحدة والمشاركة السياسية والانخراط الفعلي وتحمّل المسؤولية في إدارة الشأن العام، سوف يبقى وضعه الاجتماعي العام ميزته القصور الذّاتي وغياب الوعي السّياسي والتفكّك المؤسّساتــــي للدّولـــة وللمجتمـــع وقد يعود في أية لحظة  إلى الحالة البربرية .
إنّ التعدّد والاختلاف  بين الناس ليس حقّا قانونيا فقط، بل هو سُنّة وثقافة تحتاج إلى دربة حتى تتحول إلى ممارسة يومية في المجتمع. وحتى تصبح نمطا من السّلـــــوك أو نموذجـــا يقتدي به جميع الأفـــراد وفي مختلف المواقــــع. وهذه الثقافـــة لا يمكن أن تتأسّـــــس إلا في مناخ سياسي وثقافي تعددي في طرق التفكير وفـــي الوعي.  أي أنّ ثقافة الاختلاف لا تمثل ظاهرة سياسية فقــــط، بل هي أيضا ظاهرة اجتماعيـــة وثقافيـــة ورمزية. أي أنّ مستـــــوى مشاركــــة المواطنين في الحراك السّياســــي مثلا، يتأثر بعــــدد من المتغيرات الاجتماعية والثقافية الخاصة بالمجتمع الذي ينتمـــون إليـــه. لذلك، فهي مرتبطة بنسق التنشئة الاجتماعية باعتبارها عملية يتدرب عليها الفرد طوال حياته وتمكنه من استبطان القيم والانخراط في العمل الجماعي لخدمة الشأن العام. وهذه التنشئة تنطلق من المحيط العائلي ثم التعليمي والمجتمعي. وبالتّالي، فالتنشئة السّياسية للفرد ليست عملية شكلية ومناسباتية، وإنّما هي عبارة عن قيم ومشاعر واتجاهات يستبطنها المواطن وتوجه سلوكه للمشاركة المسؤولة في إطار نظام ديمقراطي.
ومن اللاّفت في تونس مثلا، أنّ مختلف البرامج السّياسية والسّجالات الفكرية التي تدور في رحاب الوسائط الثقافية والإعلامية تكشف لنا كل يوم عن مستوى رهيب من التخلف من حيث اللّغة السوقية المستخدمة ورفض الاستماع إلى الآخر ومنعه من التعبير عن رأيه. إذ لا تساعد مختلف البرامج السّياسية في تكوين ثقافة سياسية متنورة بمقدار تساعد على تأجيج الصراعات وتعميق النّزاعات السياسية والأيديولوجية. ولا يحتاج أي متابع مشغول أو مراقب مهتم بقضايا الأمة إلى مقدمات من أي نوع حتى يقول أنّنا في حاجة إلى إنشاء خطاب ثقافي وسياسي مختلف حتى لا نتأخر أو نتوه في حركة التاريخ. وهذه الحالة من العطالة التي تخترق الواقع العربي هي تعبير عن أزمة بنيوية وحضارية شاملة وعميقة جدا لا يمكن أن تعالج في سنوات بل تحتاج إلى عقود من الزمن. فلم تكن منجزات ثلاث سنوات من «الحراك الثوري» سوى انتكاسة وردّة حقيقية لما حققته الأمة على مدى أكثر من أربعة عشرة قرنا، وبدلا من أن توجّه «النخبة» بوصلتها نحو تغيير وضع الجماهير العربية والإسلامية المنتفضة من المحيط إلى الخليج استخدمت من قبل أعداء الشعب لإعادة إنتاج مناخ عربي مضطرب ومنقسم داخليا، وضع عربي تابع للغرب الاستعماري وللصهيونية.
لقد كانت التجربة السياسية خلال الثلاث سنوات الماضية صدمة أليمة للمواطن العربي، وقللت من رغبته في متابعة المسائل السياسية أو المشاركة في الحياة السياسية، سواء كان علنا أو ضمنا. فالخطاب السياسي المتداول منذ الأيام الأولى من قيام الحراك الثوري بدا وكأنه يتجه نحو إغراق المجتمع في «ثقافة الإقصاء» من جديد. ومعرفة أزمة هذا الخطاب في بعده الأنثربولوجي يؤدي بنا إلى  فهم أفضل للسياسيين ونخبنا الفكرية. وطريقة معالجة الفاعلين السياسيين للمسائل وكيفية إدارة حواراتهم وتفاعلاتهم السياسية تعبر كلها عن وجود أزمة في ثقافتنا السياسية وأزمة في «أسلوب حياتنا» نتيجة غلبة ذهنية الإقصاء وهيمنة «حوار الطرش» على المشهد السّياسي التونسي والعربي عموما.
    لم تكن أهداف الصراعات السياسية بين ما تسمى بـالمعارضة والحكومات الانتقالية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، من أجل إعلاء شأن دين أو إستقلال وطن، أو من أجل دفع المظالم عن الناس وتفكيك منظومة الاستبداد، أو من أجل نصرة قضايا العرب والمسلمين، وإنما كانت جميعها ذات مقاصد وغايات التناحر والتقاتل طمعا في المال والملك، فسقط جميعهم في ثقافة التخريب والفتنة السياسية. وقد بلغت رداءة المشهد السياسي في هذه الأقطار إلى حد دعوة بعضهم إلى التحالف مع الأعداء التاريخيين للأمة من أجل الاستفراد بـ «غنيمة الثورة» وأصبحت الفتنة بالمفرق والموت بالجملة، فحسبنا الله ونعم الوكيل فيهم جميعا؟
نعتقد أنّ قراءة «التجربة الثورية» العربية الرّاهنة بشكل علمي وموضوعي يمثّل الخطوة الأولى لمعرفة كيفية التعامل مع تحدياتها الداخلية وأخطارها الخارجية معا. ويتوقف نجاح هذا المشروع على مدى تجذير الوعي الثوري وطنيا وقوميا، وإدراك الشعب العربي طبيعة أعدائه الحقيقيين ومواقعهم المختلفة، وفكّ الارتباط بالغرب الاستعماري حتى يعطي للجديد الثوري إمكانية النجاح، لأنّ الثورات لا تصنع ويستحيل أن تنجح بأسلوب الاحتماء بالآخر الإستعماري الذي لا يريد إلا حماية مصالحه فقط. 
فغالبا ما نقرأ بعض الكتابات والقراءات التي تهمل جانبا مهما من طبيعة الحراك «الثوري» الدّائر اليوم في الوطن العربي وعلاقته بالصراعات الإقليمية والدولية عموما. إنّ هدف هذه الثورات ليس الإطاحة بالحكام العرب الطغاة والمستبدين فقط، مثلما يحاول البعض من العرب والغربيين إيهامنا به، ولن يكون ذلك منتهى المعركة طالما بقيت الأسباب الحقيقية للاستبداد والتخلف والفقر والأمية قائمة.  كما أنَ الدراسة الموضوعية والعلمية الاستشرافية تقتضي أن ننظر إلي هذه الثورات باعتبارها حركات وانتفاضات جماهيرية ديناميكية ـ سلبا وإيجاباـ حتى لا نضعها في إطار مغلق وجامد قد يفقدها علاقاتها التاريخية وتفاعلاتها الداخلية والخارجية. فالمناخ العربي والدّولي الرّاهن لا يساعد على نجاح هذه الثورة بقدر ما يساعد على وأدها وإفشالها.