مقلات في التنمية

بقلم
علي سعيد
نحو إرساء منظومة التّمويل الإسلامي الأصغر بتونس
 انطلقت التّجربة التّونسيّة في التّشجيع على بعث المشاريع الصّغرى والمتوسّطة عبر الاهتمام بقطاع الصّناعات التّقليديّة وبعديد القطاعات الأخرى، وتبيّن أنّ دور هذه المشاريع لا ينحصر في إحياء التّراث، وتأكيد الهويّة، ودعم السّياحة، وتوفير مواطن الشّغل فقط، بل امتدّت الإيجابيّات لتشمل عديد الوجهات، ومنها توجيه الأنشطة للمناطق التّنمويّة المستهدفة، والتّكامل مع المشاريع الكبيرة وترابط الأعمال التّجاريّة، وتكوين الكوادر الفنيّة والإداريّة، وجذب المدّخرات... هذا وتعتبر التّجربة التّونسيّة في مجال التّشجيع على بعث المشاريع الصّغرى والمتوسّطة، باعتراف دولي، تجربة متكاملة ومتناسقة فيما بينها، وقد حظيت هذه الإستراتيجيّة ببالغ الاهتمام وقد اقترن نجاح التّجربة بإستراتيجيّة حكيمة مبنيّة على التّكامل بين هياكل الإحاطة والإرشاد والتّوجيه وهياكل التّمويل والضّمان. ورغم نجاح هذه الهياكل في تحقيق عديد الأهداف المنشودة، فقد تبيّن أنّ التّجربة يعوقها عديد التحدّيات أثّرت سلبا على النّتائج المحقّقة والّتي عرفت بالتذبذب: 
ورغم أنّ الإطارات التّونسيّة استطاعت تقييم التّجربة، تقييما ناجعا واقتراح حلول عمليّة للرقيّ بهذا القطاع وتجاوز التحدّيات، إلاّ أنّ البعض من هذه المقترحات ظلّ حبرا على ورق أو تمّ إقراره في شكل قوانين وإجراءات ولكن لم تفعّل بعد خاصّة وأنّ التّجربة القائمة مبنيّة على آليّات الاقتصاد الوضعي والّذي يشهد بدوره عدّة تقلّبات وأزمات. 
أمام هذه النّقائص، وأمام وجوب الالتحاق بباقي التّجارب النّاجحة، وعقب التغيّرات السّياسيّة سنة 2011، تحصّل البنك التّونسي للتضامن على مبلغ بقيمة 480 ألف د.ت من قبل البنك الإسلامي للتنمية في إطار دعم برامج المعلومات وتطوير وتنويع المنتجات الماليّة الإسلاميّة المناسبة للتمويل الأصغر والتّدريب على استعمالها. كما حصلت تونس على قرض بقيمة 75 مليون د.ت، يوم الاثنين 27 فيفري 2012، من قبل البنك الإسلامي للتنمية على هامش أعمال «منتدى تونس الأوّل للاقتصاد الإسلامي»، لتمويل برنامج التّمويل الأصغر لدعم التّشغيل الذّاتي وتنمية الاستثمار لفائدة الشّباب. وبما أنّ منظومة «التّمويل الإسلامي الأصغر»، هي منظومة لا تقتصر على توفير التّمويل، بل تشمل خدمات تقديم الائتمان والادّخار والتّأمين والتّدريب والخدمات الاستثماريّة، فقد انطلقت الهياكل التّونسيّة في إرساء الأرضيّة المناسبة لإنجاح التّجربة. وفي الأثناء، كثرت الملتقيات والنّدوات الّتي تناولت بالدّرس مستقبل التّمويل الإسلامي الأصغر ومدى قدرة الهياكل التّونسيّة القائمة على تطبيق ضوابط التّمويل الإسلامي الأصغر ومعاييره. كما تناولت هذه الملتقيات التّحديات الّتي قد تعيق تطبيق هذه المنظومة والّتي تتمثّل أساسا في: الإرادة السّياسيّة، والتّشريع القانوني وفق الضّوابط الإسلاميّة، وآليّات تنمية مصادر التّمويل الإسلامي، وإعادة الهيكلة الإداريّة وتعزيز المنظومة الحاليّة بهياكل مختصّة في المراقبة والمتابعة قبل وبعد بعث المشروع، وآليّات تطبيق الصيغ الإسلاميّة في التّمويل بما يتماشى مع الواقع التّونسي...
هذا وتجدر الإشارة إلى أمرين أساسيّين ألا وهما أنّ الهياكل التّونسيّة القائمة حاليّا تضع شروط في عمليّة التّمويل تتماشى بشكل كبير مع ضوابط التّمويل الإسلامي وهو ما يجعل من تطبيق ضوابطه بالأمر الهيّن، وأنّ المجتمع التّونسي عرف بتراحمه وتآزره في عديد المناسبات ومن بين العادات الحميدة تقديم مساعدات عينيّة للفقراء والمحتاجين قصد تمكينهم من بعث مشاريع خاصّة بهم، بيد أنّ هذه المبادرات الحميدة وجب تقييدها بقوانين ومؤسّسات لضمان متابعة المبادر قبل وبعد بعث المشروع وهو ما يساهم في تذليل الصّعاب الّتي قد تعترضه ومساعدته على تحقيق النّجاح والدّيمومة. (لو نظرنا للموضوع من جهة الواقع نجد أنّ بعض التّونسيّين يقدّمون معدّات للفقراء «مثال آلة خياطة» دون التثبّت من قدرة المحتاج من حسن إدارة مشروعه ومن قدرته على النّجاح، يقتصر دور المانح على العطاء ليجد الممنوح له نفسه في عالم جديد عليه قد لا يستطيع التأقلم معه وبدل أن ينجح في حياته ويتمكّن من تأمين مورد رزق يجد نفسه عرضت للسجن أو للخطايا أو للمشاكل القانونيّة مع الإدارات القانونيّة ولذلك وجب تنظيم هذا العطاء) 
في هذا الإطار أصدرنا مؤخّرا كتابا تحت عنوان: «آليّات بعث المشاريع بتمويل إسلامي - دور الهياكل التّونسيّة في تطبيق المعايير الشرعيّة» (1)، ويهدف البحث إلى تقديم مقترحات عمليّة للتكييف بين الهياكل التّونسيّة القائمة وضوابط التّمويل الإسلامي لبعث المشاريع، وإلى التّعريف بأساسيّات التّمويل الإسلامي وتيسير التّعامل وفق آليّاته وصيغه انطلاقا من واقع التّجربة التّونسيّة: الإجراءات العمليّة والعقود القانونيّة، ومن بين الصيغ المقترحة: حساب القروض الحسنة، منتجات مؤسّسة الزّكاة، منتجات مؤسّسة الأوقاف، التّمويل عن طريق إحياء الأرض الموات، المشاركة، المضاربة، المغارسة، المزارعة، المساقاة، المرابحة، الإجارة، الاستصناع، السّلم، التورّق، البيع بالتّقسيط.
 لتحقيق هذه الأهداف، تطرّقنا إلى ستّة محاور أساسيّة:
(أ) المحور الأوّل: خصائص التّجربة التّونسيّة في بعث المشاريع الصّغرى والمتوسّطة، حيث تمّ التطرّق لواقع التّجربة، عبر تحديد الإيجابيّات والتحدّيات، قصد تمكين القارئ من إدراك الموجود والمنشود. كما تمّ التطرّق لأهمّ مزايا التّجربة الماليزيّة وتسليط الضّوء عن أهمّ الخطوات الضّروريّة لمزيد تطوير المنظومة الحاليّة. 
(ب) المحور الثّاني: أساسيّات التّمويل الإسلامي، حيث تمّ التّعريف بأساسيّات التّمويل الإسلامي عبر تعديد ضوابط بعث المشاريع الشرعيّة ومعاييرها، كما تمّ تقديم لمحة عن نشأة المصارف الإسلاميّة وفلسفة العمل داخلها
(ت) المحور الثّالث: التّمويل الإسلامي الأصغر، حيث تمّ التطرّق إلى مفهوم القرض الصّغير وإلى تجربة البروفسور محمّد يونس، كما تمّ التطرّق لضوابط التّمويل الإسلامي الأصغر ومعاييره 
(ث) المحور الرّابع: دور الهياكل التّونسيّة في تطبيق المعايير الشرعيّة قبل وبعد بعث المشاريع، حيث تمّ تحليل القدرة على التّكيف بين الهياكل التّونسيّة القائمة وضوابط التّمويل الإسلامي لبعث المشاريع الصّغرى والمتوسّطة وتقديم مقترحات عمليّة لتجاوز التحدّيات الّتي تقف أمام تطبيق شروط التّمويل الإسلامي.
(ج) المحور الخامس: آليات تفعيل مصادر التمويل الإسلامي وتنميتها. فرغم قلة مصادر التمويل الإسلامي بتونس، فقد تم التعريف بمختلف المصادر المتوفرة والمصادر الممكن تفعيلها من خلال إبراز دور كلّ من الدولة، والفرد، والبنوك التجارية، ومؤسسة الزكاة، ومؤسسة الأوقاف... في تعبئة المدخرات بما يساهم في ديمومة التجربة ونجاحها
(ح) المحور السّادس: آليّات التّمويل الإسلامي لبعث المشاريع «المراحل العمليّة والعقود القانونيّة» حيث تمّ التّعريف بالصّيغ الإسلاميّة وتقديم مقترحات لحسن تطبيقها، وتتمثّل في «الإجراءات العمليّة والعقود القانونيّة» انطلاقا من الواقع التّونسي واستئناسا بعديد التّجارب العربيّة وهي مقترحات يمكن استغلالها وتطبيقها سواء بالنّسبة إلى المؤسّسات الماليّة والتّجاريّة أو إلى تعامل أفراد المجتمع فيما بينهم أو جمعيات المجتمع المدني لتنظيم وتاطيرعادات التراحم والتآزر وتقديم مختلف المساعدات العيّنيّة لمن هو في حاجة إليها حتّى يستطيع بعث مشروع خاص يوفّر له لقمة العيش ويحقق له كرامته.
الهوامش
 (1) تمّ الاستعانة بالسيّدة سهام قوبعة «رئيسة فرع ببنك البركة» وبالسيّد خالد الفهري «رئيس فرع بالبنك التّونسي للتضامن» من أجل مراجعة محتوى البحث وتدقيق المعلومات الّتي وردت به ومدى القدرة على اعتمادها بتونس، كما تمّت الاستعانة بالأستاذ العجمي العشّي المحامي والأستاذ الحبيب الميساوي المحامي من أجل تأمين المراجعة القانونيّة للعقود المقترحة ومدى ملائمتها للعرف التّونسي.