تجلّيات

بقلم
الحبيب المعلول
أهميّة القراءة للنص الدّيني .
 الحمد لله الذي جعل الدعوة إلى الهدى والدلالة على الخير والنصيحة للمسلمين من أفضل القربات وأهم المهمات في الدين.وصلّى الله وسلّم على محمد الرسول الأمين، خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه المخلصين الصادقين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
أمّا بعد، فإنّ الـــذي يتلــو ما عرضته في مقالي السابق بالعدد الثاني والأربعين من مجلّة «الإصلاح» الغــرّاء والمتعلّق ببيان قوله تعالــى:( اقرأ باسم ربّك ) هو مقالـــي هذا حـــول «أهميـــة قراءة النصّ الدّيني». فما المقصــود من قراءة النص الدينـــي؟ وما أهمّية هذه القراءة؟
*جوابا عــن السّـــؤال الأول، فإنّ المقصــود بالنصّ الدّينــي هو القرآن والسنّة النبوية. نعني بالقران «كلام الله تعالى المعجز، المنزّل على النبي محمد صلـــى الله عليـــه وسلّم باللغة العربيـــة، المكتـــوب في المصاحـــف، المنقول بالتواتــر، المتعبّد بتلاوتــه». ونعني بالسنّة النبويــة: «ما أثـــر عن رســـول الله صلى الله عليه وسلــم من قـــول أو فعل أو تقرير»، فالسّنن القوليّة هي أحاديثه التي قالها صلى الله عليه وسلم في مختلف الأغراض والمناسبات. والسنن الفعلية هي أفعاله صلى الله عليه وسلم مثل أدائه الصلوات الخمس بهيئاتها وأركانها وأدائه مناسك الحج وغير ذلك  من الأفعال.أمّا السنــن التقريريــة فهي تشمل ما أقرّه الرسول صلى الله عليه وسلم، ممّا صدر عن بعض أصحابه من أقوال وأفعال بسكوته وعدم إنكاره أو بموافقته وإظهار استحسانه.    
هذه السنّة بأنواعها الثلاثة مجموعة في عدّة مصادر مثل الجامع الصحيح للبخاري (ت:256هجري) وصحيح مسلم (ت:261هجري)وموطأ مالك (ت:179هجري) وسنن الترمذي (ت:270هجري) وسنن أبي داود (ت:275هجري) وسنن ابن ماجة (ت:273هجري) وسند أحمد بن حنبل (ت:240هجري) وسنن البيهقي (ت:458)وغيرهم.
في كـــلّ كتـــاب من هذه الكتب يرد الأثـــر النبـــوي مشتمـــلا على جزئيــن، أوّلا السنـــد وهو مجموعة الرواة وثانيا المتن وهو نصّ الحديـــث المــروي عن رســـول الله صلى الله عليـــه وسلـــم. وإنّ الذي يتلو بيان المقصـــود بالنـــصّ الدينـــي، هـــو بيــان المقصــود من قراءته.
تطلق القراءة على عدّة معان مثل: النطق بالمكتوب أو المحفوظ على ظهر قلب. كذلك التّلاوة، التي هي نطق بالكلام على صفة مخصوصة. كما تعني إلقاء النظر على المكتوب ومطالعته. وهي أيضا تفيد معنى الوعي بالمقروء، لا مجرّد حفظه والنطق به أو تلاوته أو مطالعته.                                                                                            
*جوابا عن السّــؤال الثانـــي، لابد من تناول المسائل الثلاث الآتية، وهي بيان القيمة الدينية لقراءة القرآن وتلاوته والوعي به، ثمّ بيان أهمّية حفظ السنّة النبوية واستيعابها واعتمادها فـــي فهم الدّيـــن وتطبيق أحكامه، وبعد ذلك لابدّ من إبراز علاقة النّص الدّيني بالحضــارة الإسلاميـــة في بعديها المعنــــوي أي الثقافــي والمادي أي المدني.                                                 
في القرآن الكريم والسنة النبوية القوليّة عدّة نصوص فيهـا حثّ على مجرّد النطق بحروف القرآن وكلماته وآياته، ونصوص أخرى ترغّب في التّلاوة، وثالثة تؤكّد على أهمّية الفهم والتّدبّر. فمن النّصوص التي ترغّب على مجرد النطق بحروف القرآن وكلماته وآياته نذكـــر ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به، مع السفرة الكرام البررة. والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاقّ له أجـــران»(1). ففي هذا الأثر النبوي الشريــف يتّضح أنّ الأجــر والثواب لا يلحق فقط من هو ماهر بالقرآن أي يتقن تلاوته ويتدّبر لمعناه بل يلحق كذلك من يسعى إلى القراءة والتـــلاوة والفهـــم ولو أنّه لم يبلـــغ المستوى المطلوب طالمـــا هو يجتهد حسب قدراته لبلـــوغ ذلك. فلا ينبغي للمؤمن أن يهجر المصحــف الشريــف بدعـــوى أنّه لا يحسن قراءته أو فهمه لأنّه مطالــب شرعـــا بالتّعلّـــم والتـــدرّب على التـــلاوة. قال تعالى: «ورتّل القرآن ترتيلا» (2) ففي الآية أمر بالترتيل للقرآن، والأمر يفيد عادة الوجوب. فمن واجب المسلم أن يتعلمّ ويتدرب ليتألّق في القراءة.
وتعتبر القراءة الجيّـــدة للقـــرآن من أسبـــاب تقوية عقيدة المسلــم، وتثبيت إيمانـــه، قال تعالـــى: «الذين آتيناهـــم الكتـــاب يتلونه حقّ تلاوته أولئـــك يؤمنـــون به» (3) .وفي آيات أخـــرى ينكشــف وجود علاقة وثيقــة بين الوعـــي في الاستماع لقراءة للقـــرآن، وزيادة الإيمان. والعكس بالعكس عند عدم الوعي، قال تعالــى في شـــأن الواعين: «وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا» (4) وقال في شأن المعرضين الغافلين المعطّلين لعقولهم عن الفهم والإدراك: «وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكـــم زادته هذه إيمانـــا. فأمّا الذين آمنـــوا فزادتهم إيمانــا وهم يستبشـــرون. وأمّـــا الذين في قلوبهـــم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون. أولا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مـــرّة أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذّكّرون. وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثمّ انصرفوا. صرف الله قلوبهم بأنّهـــم قـــوم لا يفقهـــون» (5) فممّــا أفادتـــه هذه الآيات أنّ الإيمان قرين الفهم والتدبّر والوعي والإدراك أماّ الكفر والضّلال فهو قرين عدم الفهم وعدم التّدبّر وعدم الإدراك وعدم الوعي.
لم يقتصــر حثّ الإســلام على فهـــم القـــرآن فقط بل أكّد أيضا على فهم السنّة النبويــة، وذلك لفهم الدّيـــن وحسن تطبيق أحكامـــه. من ذلك نذكر قـــول الله تعالـــى: «لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهــم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» (6) ففــي هذه الآية ذكر الله الكتـــاب وهو القـــرآن، وذكر الحكمـــة وهي سنّة الرّسول صلى الله عليه وسلم. وذلك أنّها مقرونة مع كتــــاب الله، وأنّ الله فرض طاعته وطاعـــة رسوله وحتّم على النــاس إتباع أمره، فلا يمكن أن يراد بالحكمـــة في الآيـــة المتقدمـــة إلا السنّـــة ولا يمكن أن يراد بها غير ذلك لأنّ الله جــلّ جلالــه عطف الحكمـــة على القـــرآن، والأصـــل في العطف المغايرة، وليس هناك شيء له التحليل والتحريم غير الرسول صلى الله عليه وسلم، فسنّته هي المتعيّنة أصلا من أدلّة الأحكام على القرآن، فلذلك جعلها عامّة أهل الأصول، الأصل الثاني في أدلّة الأحكام.
وممّا ورد في تأكيد أهمّية حفظها واستيعابها والوعي بها ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنــــه عـــن الرســـول صلى الله عليه وسلم أنه قــــال: «نظّـــر الله امرءا سمــع مقالتـــي فوعاهـــا وحفظهـــا ثمّ أدّاها كما سمعهــــا» (7) ففي هذا الحديث حثّ على الاستماع لسنّة النبي صلى الله عليـــه وسلــم وعلى تبليغهـــا بكلّ أمانة ونزاهة، والحرص أيضا على فهمها على الوجـــه الصحيح بإدراك القصــد من كل أثر وارد عن النبي صلى الله عليه وسلـــم. وللسنّة النبويّــة دور مهمّ في فهــم الدّين وتطبيقـــه، من ذلك أنّها تقرّر وتؤكّد الأحكـــام الــواردة في القرآن، وبهذا يكون الحكــم الشّرعــي له مصدران وعليه دليلان: دليل مثبت من آي القرآن ودليل مؤيّد من سنّة خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام.
ومـــن هـــذه الأحكام نذكر وجــوب الصــلاة والزكـــاة وصوم رمضـــان وحــج بيت الله الحــرام وكذلك حرمـــة الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقتل النفس بغير حق وغير ذلك من الواجبات والمحرمات أو المندوبات والمكروهات التي دلّت عليها آيات القرآن وأيّدتها سنن الرّسول صلى الله عليه وسلم، ويقام الدليل عليها منهما.
ومن وظيفة السنّــة النبوية تفصيل وتفسير ما جاء في القرآن مجملا أو تقييد ما جاء مطلقــا أو تخصيص ما جـــاء فيه عامّا. فيكون هذا التفصيل والتفسير والتقييد والتخصيص الذي وردت به السنّة النبوية تبيينا للمراد من الذي جاء في القرآن لأنّ الله تعالى منح نبيّه حقّ التبيين لنصوص القرآن بصريح قوله تعالى: «وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم» (8) فالذكر في الآية هو القرآن وقد أعطى الله نبيّه صلى الله عليه وسلّم حقّ شرحه وبيانه من ذلك  أنّ القرآن ما فصّل عدد ركعات الصلاة ولا مقادير الزكـــاة ولا مناسك الحجّ بل قدّم الأمر عامّا بأداء هذه العبادات لكنّ السنّة النبوية هي التي بيّنت هذا الإجمال.وفي القرآن أحلّ الله البيع والسنّة هي التي بيّنت صحيح البيع من فاسده وقس على ذلك عديد الأمثلة.
ومن وظيفة السنّة أيضا أن تكون مثبتة ومنشئة لحكم سكت عنه القرآن، فيكون هذا الحكم ثابتا بالسنّة ولا يدلّ عليه نصّ القرآن، ومن هذا القبيل: تحريم أكل كلّ ذي ناب من السّباع وكلّ ذي مخلب من الطيور. وإنّه بسبب هذا الدّور المهم لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم قد قيل بخصوصها لولا السنّة ما فهم القرآن. وإنّ الذي يتلو ما تقدّم في الإجابة عن السؤال الثاني هو بيان علاقة النّص الدّيني بالحضارة الإسلامية 
وصف بعض الباحثين الحضارة الإسلامية بأنّها حضارة النّص الديني وحجّتهم أنّ أسس هذه الحضارة من عمارة وفنون وعلوم وثقافة، ونمط عيش قد قام على أساس لا يمكن تجاهل مركز النّص فيه. فالنّص الدّيني قد شكّل معالم الحضارة الإسلامية على مدى عقود وأجيال، وهو الذي أعطى لهذه الحضارة شخصيتها المميّزة.والصّواب في القول أنّ الذي أنشأ الحضارة وأقام الثّقافة والمدنية في ربوعنا هو جدل الإنسان المسلم مع الواقع من جهة وحواره مع النّص الدّيني الذي  آمن بكونه مرشدا له في شتّى جوانب حياته من جهة أخرى لأنّ النصّ أيّا كان لا ينشئ حضارة ولا يقيم علوما وثقافة بمفرده أي دون أن يتفاعل معه العقل البشري، ومن هنا تتجلّى أهمّية قراءة النّص الدّيني. فقراءة النّص الديني ليست فقط ضرورة دينيّة بل ضرورة حضاريّة أيضا. فإذا كان للمحاورة مع النّص الدّيني هذه القيمة والأهمّية، فإنّ السؤال الذي يثار في هذا السياق: ما هي القواعد التي ينبغي مراعاتها عند هذه المحاورة أو القراءة للنصّ الديني ليتحقّق للمسلمين وللعالم الغرض المنشود منه؟
الإجابـــة عـــن هــذا السؤال سيكــون إنشاء الله موضوع مقال في عدد مقبل 
الهوامش
(1) أخرجه البخاري ومسلم 
(2) الآية 4 سورة المزّمل 
(3) الآية 121 سورة البقرة 
(4) الآية 2 سورة الأنفال
(5) الآيات 124و125و126و127 سورة التوبة
(6) الآية 164 سورة آل عمران 
(7) أخرجه الترمذي وابن ماجة
(8) الآية 44 سورة النحل
(9) الآية 121 سورة البقرة 
(10) الآية 121 سورة البقرة 
(11) الآية 121 سورة البقرة 
(12) الآية 121 سورة البقرة