في العمق

بقلم
حسن الطرابلسي
لغز الزمن وإشكاليات الإنسان المعاصر
 في الحقيقة يصعب الحديث عن الزّمن، ليس لأنّه يحدّد اتجاه الكون منذ الإنفجار الكوني الكبير فقط وإنّما أيضا لأنّه يرسم حياة الإنسان. فهو يحدّد ما مضى ويجعلنــا نعيش الحاضر ونستشرف من خلاله ملامح المستقبــــل الذي نجهلـــــه، إضافــة إلى أن الزّمن يسيـــــر ولا نستطيـــع أن نوقفه، فما كان بالأمس طفلا غدى اليوم شابّا ليصير غدا شيــــخا. وما كان في الماضي مجهولا ومستحيلا هو اليوم معلوم وممكن وسيكون غدا قديما وباليا. كما أنّه يصعب الحديث عن الزّمن لأنّنا لا نستطيع إلاّ تصوره، فالضّوء مثلا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة، والصّوت يمكن سماعه بالأذن ولكنّ الحواس لا تستطيع أن تساعدنا على فهم الزّمن.
فما هو الزمن؟ ومن أين أتى ؟ وهل يمكن السّيطرة عليه وتوجيهه واستثماره؟
أسئلة في ظاهرها بسيطة وسهلة إلا أنّها في باطنها معقّدة وصعبة! وهي أسئلـــة حديثة ومعاصـــرة ولكنّهـــــا في نفس الوقت قديمــــة قدم الإنسان؟ عميقة عمق الفلسفة والتّفكير، متجذّرة تجذّر الإنســـان في هذا الكون.
نحن إذن أمام لغز يصعب فكّ رموزه!
منذ القديم حاول الإنســــان فهم الزّمـــن والسيطرة عليه واستثماره في حياتــــه وفي تعامله مع غيره ومع الكـــون، فقام بتحديد موعد الزّراعة والحصـــــاد، ثم بدأت المحاولات النظريّة لتحديد مفهــــوم هذه الظّاهرة مع الإغريــــق القدمــــاء، حيث اعتبر «هيرقليطـــس» بأنّ الزّمن يسيل وقدّم لأول مرّة تشبيهـــا للزّمن بالنّهر السّائــــل الذي لا يمكن أن نستحمّ فيه مرّتيـــن، واعتبر أنّ السّمة الأساسية للعالــــم هي التغيّر المستمر، والتّتابع المتواصل للكون والفساد. وبعده بقليل وفي شمال اليونـــان القديم ظهر «ديمقريطـــس» وعرّف الزّمــــن بأنّه تتابع جزيئات صغيـــرة في شكل غير متناه، الواحدة إثر الأخرى ودفعنا بذلك إلى مفهوم غامض لا نستطــــع تفهّـــم بعض ملامحــــه إلاّ إذا «قارنّـــاه» بالفيزياء الحديثة التي تحدّثــــت عن الزّمن الـــذري. فهل كان «ديمقريطــــس»، الفيلســــوف الغامـــض، أكثر عباقرة اليونان قربا إلى تصوّرنا الحاضر للزمن كما يتسائل بعض الباحثين المعاصرين؟
إلا أن محاولــــة فكّ لغز الزّمن تعــــود بنا مع «بارمينيــــدس» إلى المربّــــع الأول، مربّـــع التغيـــر، الذي أثاره «هرقليطــــس». فلقد رفض «بارمنيدس» هذه النظرية وأنكر سيلان الزمـــن واعتبـــر أنّه ثابت لا يتحرك وقدّم تلميــــذه «زينون الأيلـــــي» أمثلة لإثبـــات هذه النظرية أبرزها مثال حركة السّهـــــم، حيث اعتبر أن السّهـــــم لكي يصل إلى هدفه، لا بدّ أن يقطـــــع نصف المسافة ولكي يقطـــع هذا النصف لا بدّ له أيضا من قطع نصفها وهكــــذا دواليك ليتبيّـــــن أن هذه المسافات يمكن تقسيمها بشكل لا متناه يجعل عمليّا حركة السهم منعدمة.
وهنا لا بد أن أنبّه القارئ العزيز أن لا يعتمد على نظرية «زينون» ويكون هو الهدف الذي يوجه إليه السّهم حتّى لا يفاجئ مفاجاة غير سارة.
ومع «أفلاطون» الذي انطلق من التراث الفلسفــــي الذي ورثه من البابليين والمصريين القدامى ومن الفلاسفة ما قبل «سقراط»، فإننا نجد تحديدا للزّمن يبدوا أكثر قربا، ممن سبقه، من التحديد العلمي لمفهوم الزمن حيث اعتبر أفلاطون في «طيمـــاوس» (Tim. 39c) أنّ الزّمان له بداية ونهاية، وأنّ هذه البداية كانت مع خلق العالم، أي عندما تمّ صنعه بمعرفة الصّانع. فالزّمن هو الصّورة المتحرّكة للأبديّة التي ليس فيها، حسب «أفلاطون»، تمييز بين ماض وحاضر ومستقبل.
وبهذا انتقل «أفلاطون» من نظرة الزّمان الطبيعية التي رأيناها عند كل من «هرقليطس» و «بارمينيدس» إلى نظرة فيزيقيّة تربط بين الإنسان والزمان والمكان.
وأما تلميذه «أرسطو» فإنّه قام بدراسة تحليليّة لنظريات الزّمان التي سبقته وخلص فـــي المقالة الرابعة من كتاب «السماع الطبيعي» (Phys. IV, 10-14) إلى تعريف الزّمــــن بأنــــه عدد الحركة باعتبار السّابق واللاّحق وشدّد على أنّ الزمن لا يوجد بدون الحركة فهو وثيق الصّلـــة بهـــا ولكـــن هذا لا يعني أنّـــه مساو لها واعتبــــر أن الزّمــــن كمّ متصـــل كمــــا ربط في مستـــوى ثان بين الزّمن وبين النفس .
وقد كتب للتعريف الأرسطي أن يسود تاريخ الفلسفة لفترة طويلة لأنّه استطاع أن يحدّد لنا صفتان أساسيتان للزّمن وهما الزّمن الفيزيائي والزّمن النفسي أو «التراجيدي» بتعبير «جولدشميت» في كتابه «الزمن الفيزيائي والزمن التراجيدي عند أرسطو» ولذلك لم تتعدّ المحاولات التي أتت بعده أن تكون تفسيرا للمفهوم الأرسطي وإن اختلفت معه في تفصيلات معيّنة كما كان الحال مع «الإسكندر» و«سنبلكيوس» و«ثامسطيوس» وغيرهم. 
و«اطمأن الجميع» إلى التّعريف الأرسطي حتى جاء القدّيس «أوغسطين» (354ـ430 م) وأعاد طرح سؤال الزّمن من جديد. فأوغسطين يعتبر في الفصل الحادي عشر من كتابه «الإعترافات» بأن الزّمن «واضح بقدر ما لم أُسأل عنه أمّا إذا سُئِلتُ عنه وطُلب مني تعريفه، فإني أعجز عن ذلك» ومع ذلك فإنّه قدّم تفسيرا مهمّا للزّمن، جعل «هوسرل» يدعو كل باحث في موضوع الزّمن أن يطّلع على نظريته.
يوحّد «أوغسطين» في نظريته بين الماضي والحاضر والمستقبل ويربط الزّمن مع التجربة الإنسانيّة، أو بلغة أخرى مع النّفس. فلا يوجد عنده إلا الحاضر بشكل مستقلّ عن النّفس، أما الماضي والمستقبل فإنّهما تصوّران مرتبطان بالنّفس. فالماضي يمثّل الذّاكرة والمستقبل هو انتظار للمجهول. وهكذا عاد المفهوم إلى الإلغاز من جديد.!
ومن أجل حلّ لغز الزّمن ننتقل تارخيّا وجغرافيّا من آسيا الصّغرى إلى اليونان لنصل إلى جزيرة العرب وبلاد الرّافدين علّنا نظفر بحلّ يُشبع نهمنا العلمي، إلا أننا نصطدم من جديد بصعوبة الإجابة عن هذا السؤال.
فرغم أن القرآن الكريم تحدّث كثيرا عن الزّمن إلّا أن مفردة الزّمن نفسها لم ترد أصلا في كتاب الله وإنّما نجـــد ألفاظا وعبـــارات تدلّ على الزّمن ومرادفة له مثل كلمة عصر ودهر وحين أو مفردات زمنيّة مثل اللّيل والنّهار والسّاعة والفجر والصّبح والضّحى ألخ ... وإيراد مثل هذه المفردات وتكرارها يمنحنا الفرصـــة لمعرفة أهمّية الزّمن وقيمته العالية في حياة المسلم، ثم إنّ الله وقّت فروض وواجبات المسلم، فوقّت الصّلاة والزّكاة والحج، والصّوم، والطّلاق، والعدّة، والنفقة، والدّين، إلخ... لنرى أن هذا التوقيت الزّمني يتجـــاوز الجانب الدّيني ليمسّ جميع مجالات الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّـــة للمسلم. والزّمن طبقا لهذا التصور ليس آنات منفصلة لا زمن بينها كما ذهب إلى ذلك «ماسنيون» و«جارديــــه» وإنّما هو متّصل ومترابــــط. إضافة إلى أن الله تعالى أقسم بالزّمن «وأن كل ما اقسم الله عليه بالزمن كان هامّا في أعلى درجات الأهمية» كما يقول أبو غدّة. وأعتبر المفسّرون أن القسم بالزّمان كما ورد في صورة العصر مثلا، هو قسم بأشرف النصفين من ملك الله وملكوته الذي ينقسم إلى الزّمان والمكان كما يقول الفخر الرازي في «مفاتيح الغيــــب». ومن ناحية أخـــرى يرى الإمام الحسن البصـــري بأن الإنسان لا يعدوا أن يكون أيّاما متتابعة وما مضى منه لن يعود، فهو يقــــول «يا ابن آدم إنما انت أيام وليال، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك» وهو موقف يوافقه فيه ابن عطاء الله السكندري (658هـ/1260م ـ 709هـ/1309م) في حكمه عندما يقول «ما من نفس تبديه إلا وله (أي لله) قدر فيك يمضيه» ويشرح بن عبّاد الرندي هذه الحكمة بقوله «الأنفاس أزمنة دقيقة تتعاقــــب على العبد ما دام حيّا، فكل نفس يبدو منه ظرف لقدر من أقدار الحق تعالى ينفذ فيه». ومن ثمّة فعلى الإنسان طاعــــة ربّــــه والخضـــوع له واستثمار الزّمن في مستويات أربــــــع: مع الله طاعة وعبوديّــــة، ومع نفسه تزكية وجهادا، ومع غيره نصيحـــــة وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكــــر، ومع بيئتــــه ومحيطــــه حفظا لهمــــا ورعاية من كل خراب وفساد وتلوث.
ولو تجاوزنا جهود المفسّرين والصوفيين الذين ربطوا بين الحياة الرّوحية والدينيّة والاجتماعيّة للمسلم لنطل على الجهد النظري للمتكلّمين والفلاسفة المسلمين، لوجدنا أن الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم قد بذلوا ما في وسعهم لمساعدتنا على فكّ لغز الزّمن.
فالكندي في رسالته «في الفلسفة الأولى» يعرّف الزّمان بأنه زمان جرم الكلّ، أعني مدّته لأن الزّمان إنما هو عدد الحركة، أعني أنهما مدّة تعدّها الحركة « ثم يقول في موضع أخر من الرسالة لبيان ارتباط الزّمان بالحركة « إنه لا زمان إلاّ بحركة، وأن مدة الجرم اللازمة للجرم تعدّها حركة الجرم». وكما نرى فإن هذا التعريف يسير في الخط الأرسطي العام.
وعند الفارابي يرتبط الزّمان «ارتباطا وثيقا بالفضاء وهكذا يكون الزّمان في نظره مركّبا تركيبا لا نهائيّا من الآنات الصغيرة التي يفصل بينها نوع من الفراغ الزمني» وهو في هذا التعريف يأخذ من أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. ولعلّ هذا يعود إلى الخطا الذي وقع فيه عندما نسب كتاب «أثولوجيا أرسطو» للمعلّم الأول في حين أنه ثبت بعد ذلك أنه إحدى تاسوعات «أفلوطين»، وهو ما جعله يتبنى نظريّة الجمع بين «افلاطون» و«أرسطو» ورأى أنهما غير مختلفين على حدّ زعمه. وأدّى ذلك إلى أن مفهوم الزّمن عند المعلّم الثاني ينطوي على عناصر أفلاطونيّة وأرسطيّة وأفلوطينيّة.
وأمّـــا «ابن سينـــا» فإنّ الزّمـــان مرتبــــط لديـــــه بالحركــــة، فهو ولإن قال بأنّ الزّمان ليس الحركة لأنه قد تكون حركة أسرع وحركة أبطأ ولكن لا يكون زمان أسرع من زمان... وقد تكون حركتان ولا يكون زمانان، ويعرّف الزّمــــان بأنّه عدد الحركـــة إذا انفصلت إلى متقدم ومتأخّر، لا بالزّمان بل بالمسافة، كما أنّه يعتبر الزّمـــــان كمّا متّصــــلا. ويولي الشّيــــخ الرّئيس للآن أهمّية كبــــرى وهي عنده الحــــدّ المشترك بين الماضي والمستقبـــــل. ومن خلال هذا العرض المقتضب لنظرية الزّمان السينوية نلاحظ حضورا أرسطيّا بارزا.
وهكذا فإن جهود الفلاسفة الإسلامييّن وإن أضافت للزّمن أبعادا جديدة بعضها ديني أو صوفي أو كلامي، إلاّ أنّها ظلّت في مجملها مشائيّة. وكان من نتائج ذلك أن وجد الفلاسفة الإسلاميّون صعوبة في مسألة الخلق من العدم وهل أنّ الزّمن أزليّ أم حادث وما يرافق ذلك من مسائل دينيّة وفلسفيّة جعلهم يلجؤون إلى التّاويل فتضمّنت نظرياتهم كثيرا من الخلط والإضطراب مما جعل الفلسفة تتعثّر في تحديد علاقتها مع المقدّس ووصلت إلى التّصادم مع الوعي الإسلامي العام.
وبلغ هذا الإضطراب والخلط واستباعاته الدينيّة والحضاريّة قمّته في القرن الخامس الهجري حين ظهر الإمام «الغزالي» وقاد عملية نقديّة شملت تاريخ الفلسفة بدأ فيها بعرض موضوعي لمقاصد الفلاسفة ثم أبرز بعد ذلك تهافتهم في عدد من المسائل كان من أهمها البحث في الزّمن. وقد عرض «الغزالي» نتائج بحوثه خاصة في «تهافت الفلاسفة» وفي «الإقتصاد في الإعتقاد» وفي «الإحياء» وفي «المنقذ من الضلال».
انطلق «الغزالــــي» في نقــــده من معارضة نظريـــة «ارسطو» القائلة بأزلية الزّمن والعالم ليثبث أنّ الزّمان والعالم حادثين وأنّه قبل الزّمان لم يكن زمان، وأنّه كان الله ولا زمان ثم كان الله ومعه الزّمان. وحمل على الفلاسفة وكفّرهم في ثلاثة مسائل وهي قولهم بقدم العالم، وقولهم أن علم الله تعالى لا يحيط بالجزئيات، وإنكارهم بعث الأجساد وحشرها.
سيطر النقد الجذري الذي قاده «الغزالي» على الفكر الإسلامي ولم يتبع بجهود تتمّه وتثريه بل على العكس فإن الفلسفة جمدت وتعطّلت رغم محاولة «ابن رشد» بعد حوالي نصف قرن من «الغزالي» إحياء السؤال الفلسفي في الحضارة الإسلامية.
مع «ابن رشد» نكون قد قطعنا مسافة مهمّة سلكنا فيها الطريق السريع بحيث أنّنا اختصرنا معالجات الزّمن في الثّقافة الإسلاميّة في هذا العدد القليل من الشخصيات المعروضة لنصل إلى الأندلس حيث شهدت الفلسفة الإسلامية أوجها وقوّتها مع «ابن طقيل» و«ابن رشد». وقد انصب جهد «ابن رشد» على نقد «الغزالي» والدفاع عن «أرسطو».
لم يقبل «ابن رشــــد» هجوم «الغزالـــــي» على «ارسطــــو» الذي كان يعتبره خلاصـــة التفكير الإنسانــــي في نقائه وأنّه أعلـــــى ما يمكن أن يصله الإنسان في تأمّله النظري ومن ثمّة فإنّه تصدى للغزالي ليبرز تهافت تهافته وليدافع عن أستـــاذه ويحاول تنقيتـــــه، قدر الإمكـــان، ممــــا شابــــه من خلط تسبّب فيه الفلاسفة الإسلاميّون قبله.
ويعتبر «ابن رشـــد»، مثل استــــاذه «أرسطــــو»، بأنّ الزّمـــــن هو «عدد الحركة بالمتقدّم والمتأخّر الذي فيها» والزّمـــان عنده كمّ متصل ولا يفهـــم إلا مع الحركة وأنّه لا يمكن «تصــــور زمـــــان إذا لم نتصوّر حركة» فشعورنا بالحركة دليل على وجـــــود الزّمــــان ومروره، مثل أصحاب الكهف الذين ناموا ولم يحسّوا بمــــرور الزّمــــن. ويعتبر «حسام الدين الألوســــي» أن «ابن رشد» يلتقـــــي في هذا المستوى مع «ابن سينا» وإن اختلف معه ومع الفلاسفة الإسلاميين في مستويات أخرى كعدم قبوله بنظرية الفيض. ولكنّه يختـــلف عن المعلّم الأوّل في بعض النقاط، فهو لا يبدأ في بحثه بذكر نفاة الزّمان لأن وجوده عنده أمر بديهي كما خالف أستاذه في عدم الإشارة إلى أن حدّ الزّمان يظهر فيه فعل النّفس من جهة وموجود خارج النّفس من جهة أخرى ، وأنّ التقدّم والتأخّر في الحركة ليس فعل النّفس ، لنتخلّص بذلك من النظرة الذاتيّة للزّمن. (فكرة الزمان عند إخوان الصفاء، ص 168)
ولكنه دافع عن «أرسطو» وردّ الإلتباس الحاصل في نظريّة قدم العالم إلى خلاف لفظي، لغويّ وشنّ في تهافت التهافت هجوما على «الغزالي» واعتمد التأويل اللّغوي كلّما تبيّن له أن هناك غموضا في المفهوم الأرسطي.
ويمكن تثمين الجهد الرشدي في أنّه خلّص «أرسطو» من الشوائب التي لحقت به وشرح فكره بشكل منهجي ودقيق.
كان يمكن للفكر الإسلامي أن يواصل الجهد الرشدي ويطوّره ليتجاوز بعض مواطن الضعف فيه، إلاّ أن هذا الفكر، في معظمه، تقوقع على الغزالي وانتصر له وسقط في التكرار والتقليد الذي كان الغزالي نفسه حربا عنيفة عليه. ففي القرن الخامس عشر الميلادي مثلا أي بعد عدة قرون من الغزالي وابن رشد على السواء نجد أن الأمام شمس الدين، شيخ السلطان محمد الفاتح، يعيد طرح مواضيع «التهافتين» منتصرا ومتحيزا للغزالي.
وفي المقابل فإن كتب الفلاسفة والعلماء المسلمين انتشرت في أوروبا اللاّتينية وكان لابن رشد تأثيره الكبير حتى أصبح يسمّى الشارح الأكبر لأرسطو. ففي القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين لا يخلو كتاب من كتب فلاسفة القرون الوسطى من الإستشهاد بابن رشد أو الرّد عليه.
وقد قادت الهيمنة الرشدية على الفكر الوسيط إلى جدال حادّ بين لاهوتي تلك الحقبة خاصة بين ما أطلق عليهم بالرشديين اللاتين أمثال «سيجر دي برابانت» وغيره وبين ممثلي الكنيسة الكاثوليكية كالقديس «ألبرت الكبير» والقديس «توماس الأكويني».
ورغم تحريم الكنيسة دراسة كتب أرسطو سنة 1215 م في باريس وفي سنة 1245م في تولوز فإنّ ذلك لم يمنع شروح «ابن رشد» من الإنتشار والتوسع وتبعا لذلك انتشار الفكر الأرسطي القائل بأزلية الزّمان والكون.
وكتبـــت مؤلفات كثيــــرة للرّد على هذا الفكـــر أبرزها كتابات «توماس الأكوينــــي» ككتابـــه «الرّد على الملحديــــن» الموجّـــه أساســـا إلى الـــرّد على الرشدية اللاتينيــــة وممثلهــــا النظــــري «ابن رشد». كما أصدر أسقف باريس «أتيان تومبييه» سنة 1270م تحريمـــا شمـــل ثلاث عشرة قضية منها قضيتان هما الخامسة والسّادسة تختصان بقدم العالم والإنسان. ثم أتبعه بتحريم جديد سنة 1277م وشمل هذه المرة 219 قضية مشائية بعضها كانت رشدية بحتة لعلّ ابرزها كانت القضيّة رقم 200 التي تهمّ قدم الزّمان والعالـــــم، ولم يتوقف هذا السّجال الذي كان موضوع الزّمان أحد قضاياه المركزيّة رغم سيطرة الكنيســــة وموت عدد من العلمـــــاء في ظروف غامضة وسيادة النظرية الكاثوليكية في تصورها التوماوي والأوغسطيني .
ولكن تطور الفيزياء الحديثة خاصة مع «نيوتن» قادنا إلى قضايا جديـــدة جعلت دور الكنيسة ينحسر تدريجيا. فالزّمن عند «نيوتن» مطلق ولا يتأثّر بالظّواهر الخارجية وبالتالي فإن له وجودا مستقـــلاّ عن المكان والمادّة. وسادت هذه النظريّـــة وفتحت مجالات رحبة أمــــام كشف العالــــم والسّيطـــرة عليه وتحقّق الحلم الديكارتــــي الذي بشّر بأن يصبح الإنسان سيّدا ومالكا للطّبيعة كما تمّ إدماج الإنسان في نظام الطبيعــــة مع «داروين». إلاّ أن نظريـــة «نيوتن» لم تجب هي الأخرى على كل الأسئلة وتجلّى قصورها في فشل تجربة «ميكلسون ومورلي» سنـــة 1887م  لحساب سرعة انتقال الضوء عبر الأثير.
وكان لفشــــل هذه النظريــة تاثير كبير على شابّ لم يتجاوز السّادسة والعشرين من عمـــره. فأعلـــن أن قوانين الطبيعة تظلّ هي هي لا تتغير في كل نسق فيزيائي متحرّك، أو في حالة ما إذا انتقلنا من نسق متحرك إلى نسق متحرك آخر، وكان هذا الشاب يسمى «أينشتاين».
رفض «أينشتاين» التسليم الأعمى بالقول بأن الزّمن أمر مطلق ومستقل عن حالة الحركة والسّكون التي يكون فيها نسق الإسناد. واعتبر أن الزّمان كمّ متغير وهو مرتبط بموقع المتابع. والحركة والجاذبية يمكن لهما ان يمدّدا الزمن أو يختصراه. وفي سنة 1908 أعلن الرياضـــي «منكوفسكـي»، أستاذ أينشتاين، في مؤتمر علمـي في مدينــة كولونيا الألمانيــــة أنه لا يمكـــن فصل الزّمان والمكــان عن بعضهما. ومنذ تلك اللّحظة أصبح العلماء يعتبــــرون أن الزّمـان هو البعد الرابع الذي تتحرك فيه الأشياء والكائنات، ويمكن التعبير عليه بالبعد الزمكاني.
وبالتوازي مع هذا الحراك العلمي الهائل لم يتوقف الفلاسفة عن البحث في مفهوم الزّمان. فأكد «كانط» على أن الزّمان هو صورة قبلية شرطيّة ضرورية لأية تجربة، وهذه الصورة يرسمها لنا الذهن وتخضع لها سائر التصورات، وللزّمن عند «كانط» دور ترتيبي فهو يرتّب مواد التجربة الحسّية وبذلك يجعل الإحساس ممكنا.
 أما «نيتشة» فإنه يجد فكرة الزّمان في نظريته للعود الأبدي للمثيل، فالزّمان من هذا المنطلق هو دورات متماثلة ولا نهائية يكرّر بعضها بعضا، وتظلّ هذه الدّورات تتكرّر إلى الأبد خلال الزّمن اللامتناهي. وطبقا لهذا التأويل فإنّ الآن تتكرّر مرّات لا نهاية لها متماهية مع ذاتها ويكون الوجود بذلك صيرورة دائرية يلتقي فيها «هيرقليطس» و«بارمنيدس» ويسيران جنبا إلى جنب في لحظة تتكرّر فتغدوا أبديّة إنها صيرورة في أبديّة وأبديّة في صيرورة كما يشرحها «بوباسي» صاحب كتاب «العدمية والأخلاق عند نيتشة».  
وإذا تحولنا إلى «برغسون» فإنّنا نرى أنّه وجد مفهوم الزّمن في الدّيمومة التي لا يمكن تقسيمها ولا قياسها ولا عدّها. فالدّيمومة عنده هي زمان حيويّ عضويّ ضدّ الآليّة، وغير قابل للإنقسام، وأن عناصر الزّمان  (الماضي والحاضر والمستقبل) ليست أجزاء منقسمة أو آنات منفصلة، بل هي كل متكامل يتدفّق الواحد منها في قلب الآخر. وهذا الزّمان يصفه «برجسون» في كتابه «التطوّر الخلاّق» بأنّه ضدّ الآلية الميكانيكية لأنّه يتمتّع بالتّجديد والتّطور الخلاق. لذلك فإنّه فرّق بين الزّمن المجرّد الذي يمكن قياسه عن طريق السّاعة وبين الزّمن الحقيقي، الخلاّق والمبدع الذي نجده في الدّيمومة.
كل هذه البحوث لم ترض «هايدجر» واعتبر أنها لا ترتقي إلى حل لغز الزّمن، فأعلن في الفقرة الثمانين من كتابه الشهير «الوجود والزمن» Sein und Zeit أن كل ما كتب عن الزّمن منذ «أرسطو» إلى «برغسون» لا يتعدى أن يكون «نظريات عمومية» وقال بأن تفكيرنا وعملنا يتّجه دائما نحو المستقبل فمن خلال تخطيطنا والأهداف التي نرسمها تكسب أعمالنا معناها. ولكن فوق هذا وكله فإن ذاتنا تتجه نحو الموت، فكل واحد منا يمكن أن لا يكون موجودا في الساعة القادمة. فالزّمان عنده إذن يتمطّى بين الحياة والموت ويشرح «بول ريكور» هذا المفهوم بقوله إن الزّمن عند «هايدجر» مرتبط بمفهوم القلق الذي يربط الذات بوجودها الحاضر وبحضورها. فالإحساس بالموت المرتقب ينشئ داخلنا خوفا عميقا لا نستطيع أن نتجاوزه إلاّ عندما نعي أن ذاتنا نهائيّة ونقبل ذلك، عندها فقط نحسّ بوجودنا في معناه الحقيقي، أي نحسّ بأننا في المكان ونخرج بذلك من الزّمن السائر إلى الحياة العاديّة.
وفي الختام وبعد عرض هذا العدد المهم من نظريات الزّمن وجدت نفسي أتسائل هل كشفت لغز الزمن؟
 وحصل لدي اعتقاد بأني من خلال البناء المنهجي للموضوع قد تناولت معظم الأراء بالعرض والبسط والنقد ولكن بقي لدي إحساس بأن الكشف عن لغز الزّمن لم ينته وإنما بدأ الآن، ففكّ طلاسم هذا اللّغز يحتاج إلى جهود متظافرة تجمع بين الفلاسفة والفيزيائيين والرياضيين والمتخصصين في الأديان من فقهاء وأصوليين.
ثانيا من خلال هذه الرّحلة مع الزّمن والتي سلكنا فيها طرقا متشعّبة كانت أحيانا معبّدة وسريعة وأحيانا أخرى وعرة المسلك مليئة بالأشواك والمنعطفات والمنحدرات، نستطيع أن نخلص إلى القول بأن جزءا من هذه الصعوبات يعود إلى موضوع الزمن نفسه. فالزّمن هو أقرب المواضيع إلى الإنسان وهو بذلك يحمل بين طياته نفس الصعوبات والغموض الذي يحمله الإنسان إضافة إلى أن الإنسان هو الوحيد بين الكائنات الحية الذي يعي الزّمن، كما يفول دلتاي، ولذلك فهو الوحيد ذو تاريخ من بينها، أو هو كما يقول السخاوي في «الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ» بأن الإنسان هو التاريخ نفسه وهو ما وافقه عليه بعد قرون «هايدجار» في كتابه الوجود والزمن عندما اعتبر أن الإنسان هو الزمن.
وهذا بالضبط منبع الصعوبة والتعقيد، إذ رغم الكشوفات العلمية الكبيرة التي من خلالها عرفنا الكثير عن الإنسان إلا أننا لا نستطيع الجزم بأننا قد أحطنا بموضوع الإنسان من كل النواحي لأنّنا ما زلنا نجهل أشياء كثيرة عنه.
وهكذا فإن طموحنا بحلّ لغز الزّمن يبقى صعب المنال أو لنقل بشيئ من التفائل يبقى مفتوحا على المستقبل أي على الزّمن نفسه ويصبح فك لغز الزمن مشروعا مستقبليّا له أهمية قصوى خاصة في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة التي تمر بها الأمة منذ اندلاع الربيع العربي. هذا الربيع الذي فتح بوّابة جديدة علّها تساعدنا على فهم أفضل للزّمن وتمكّننا من طرح سؤال الزمن من جديد في بيئة أفضل وبتفائل أكبر مصدره أن جيل الشباب الذي يقود هذا الزّمن العربي الجديد قد أعاد الأمل في انبعاث زمن جديد يخرجنا فيه من دائرة المفعول به إلى دائرة المشارك.
ولكننا لا نريد ان ننساق كثيرا وراء هذه الملاحظات التي تخرجنا ـ منهجيا ـ عن موضوعنا الأساسي المتعلق بفك لغز الزمان؟
المصادر الأساسيّة
العربيـة:
(1) الغزالي، حجة الإسلام إبي حامد: تهافت الفلاسفة، قدم له وعلق عليه وشرحه الدكتور علي أبو ملحم، الطبعة الأولى، دار ومكتبة الهلال، بيروت 1994
(2) الغزالي، حجة الإسلام إبي حامد: مقاصد الفلاسفة في المنطق والحكمة الإلهية والحكمة الطبيعية، المطبعة المحمودية التجارية بالأزهر، الطبعة الثانية 1936
(3) ابن رشد، أبو الوليد محمد: تهافت التهافت، تقديم وضبط وتعليق د. محمد العريبي، دار الفكر اللبناني، الطبعة الأولى ، بيروت 1993
(4) ابن رشد، أبو الوليد محمد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال، دراسة وتحقيق د. محمد عمارة، دار المعارف، الطبعة الثانية
الأجنبية:
(1) Aristote: La Physique (Phy. IV, 10-14), trad. Par P. Pellegrin, Paris, 2000
 
(2) Platon, Timée, 37 d, trad. L. Brisson, GF-Flammarion, 1992
(3) Flasch, K.: Was ist Zeit? Augustinus von Hippo: Das XI. Buch der Confessiones; historisch-philosophische Studie ; Text, Übersetzung, Kommentar; Klostermann, Frankfurt am Main 1993
(4) Heidergger, M; Sein und Zeit, Achtzehnte Auflage, Max Niemayer Verlag, 2001
(5) Kant, Immanuel; Kritik der reinen Vernunft, Felix Meiner Verlag, Mamburg 1998
المراجع التكميلية:
العربيـة:
(1) أبو غدة، عبد الفتاح: قيمة الزمن عند العلماء، الطبعة الثامنة بيروت 1998
(2) الرازي، الإمام فخر الدين :تفسير الفخر الرازي، قدم له فضيلة الشيخ خليل محي الدين الميس، الجزء الحادي والثلاثون، دار الفكر 1995
(3) أبازيد، د. صابر: فكرة الزمان عند إخوان الصفاء، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، القاهرة 1999
(4) الجندي، د. محمد علي: إشكالية الزمان في فلسفة الكندي، رؤية معاصرة، مكتبة الزهراء، الطبعة الأولى 1991
(5) قسوم، د. عبد الرزاق: مفهوم الزمان في فلسفة بن رشد، الجزائر 1986
(6) بن عبد العالي، عبد السلام / يفوت، سالم: درس الإبستمولوجيا، المغرب، 1985
الأجنبية:
(1) Flasch, K: Einführung in die Philosophie des Mittelalters, Wiss. Buchges., Darmstadt 1987
(2) Massignion,L., le temps dans la pensée islamique, Zurich, Rhein-Verlag, 1952
(3) Goldschmidt, V., Temps physique et temps tragique chez Aristote, Paris, 1982