من وحي الواقع

بقلم
اسماعيل بوسروال
العبقرية التونسية : عندما تكهّن سي الهادي نويرة ببيع النواب في المجلس التأسيسي
 تونس - نوفمبر 2013
شهدت تونس في نوفمبر 2013 ضجّة إعلامية أثارها رئيس حزب الانفتاح والوفاء السّيد البحري الجلاصي عندما تحدّث في قناة الزيتونة عن تكوينه مجموعة نيابية في المجلس التأسيسي حيث اتفق مع عدد من النواب على تزويدهم بسيارات ومكاتب ومبالغ مالية بالملايين وذلك من أجل هدف سياسي ... كانت الصدمة كبيرة لدى الرأي العام الذي يرى أن «المجلس التاسيسي» مؤسسة لا كالمؤسسات لأنها أمّ للدولة الديمقراطية الحديثة وأعضاء التأسيسي لهم هالة إعلامية تجعلهم بناة تونس الجديدة ...
لكنني لم أتفاجأ بهذه الاحداث بالعودة الى التاريخ المعاصر لبلادنا وبالتمعّن في الواقع الاجتماعي.
تونس 1975
انتعشت البلاد التونسية سنة 1975 بعد استقرار الأوضاع حيث تم تثبيت الزعيم الحبيب بورقيبة رئيسا مدى الحياة وتمّ حسم خلافته في شخص الوزير الأوّل  سي الهادي نويرة الذي انطلق يتدرّب مبكّرا على الرئاسة من خلال إشرافه على المهرجانات الخطابيّة ... كنّا شبّانا نسخر من الأحداث ونعالجها بالنكت السّاخرة ... وكانت لنا مواعيد في الحي الرّيفي في منطقة الحنية ... ضواحي سيدي بوزيد ... كانت البرامج الاخبارية تمرّ بالتلفزيون ليلا ولم يكن بالإمكان انتظارها دائما، فكنّا نخصّص فترات قيلولة الظهيرة لمجلس شبابي مفتوح نمرح وننكّت ونسخر ونتحدث بلا رقيب ولا حسيب.  
اكتمل نصاب الجلسة ...فتجمع عدد من شباب الحي تحت شجرة التّين المترامية وهي تشبه عريشة ظليلة ...كنا مجموعة من الشباب المنتعشين بنجاح عدد منّا في الامتحانات وارتقاء عدد آخر في مدارج العرفان....وحان موعد الغداء فأرسلت العائلات ما طبخت وتكوّنت وليمة مفاجئة في طقس صاف ... فالتففنا حول المائدة. شرعنا في تناول ما لذّ وطاب من طبخ الأمهات الحرائر والأخوات الحاذقات ... كان البساط المصنوع من الصوف الملوّن الزّاهي يمتدّ طويلا لنتّخذه مجلسا وتنتصب عليه مأكولات معدّة بأياد رقيقة المشاعر قوية العزيمة  ...أكلات بسيطة تتمثل في السلاطة الخضراء الطبيعية التي جلبت موادها منذ حين من مزرعة البئر الجوفية المجاورة للحاج حمودة ...حيث العم ناصر والعم يوسف انشآ حزاما بديعا من النباتات العالية  ومن قصب الذرة ...وتضمن الغداء كسكسا بلحم «علوش»  ...ذلك الخروف الذي يولد تحت النّجوم ويتنقل بين الزّهور والسّنابل يرعى في البراري حيث الإكليل والزعتر فتكون نكهته كالأحلام اللذيذة ...وكذلك خبز الطابونة البدوية المطهو على مهل في أوان فخارية بأياد وأصابع ماهرة وذكية ...بالإضافة الى الحليب الرائب المضمّخ بعطرالجبال والغابات ..واللّبن المصفّى  ذي النكهة الشبيهة بعصير الليمون  ...كان عدد الشبّان يفوق العشرة منتشين بنجاحهم في مختلف الدرجات العلميّة في الإعدادي و الثانوي والعالي  ...وسعداء بتوظيف بعضهم في مهن ترضي طموحهم وفي ذات الحين مجزية للعائلات التي اعتمدت طيلة أجيال على الاستثمار في تربية الأغنام والأبقار والابل ...وتتطلّلع الآن أن يصبح الوظيف العمومي مصدرا جديدا من مصادر الرزق ويضمن العيش الكريم لمنتسبيه ...كانت الروح المنتشية والمرحة هي الطاغية ...
كنا في حدود منتصف النهار ومازال بعض الوقت على الأنباء من الإذاعة الوطنية فبقينا ننتظر نشرة إخبار الظهيرة وما يتبعها من نقل فوري لمهرجان خطابي بإشراف السيد الهادي نويرة الوزير الأول والأمين العام للحزب الاشتراكي الدستوري ...
طاف بنا المشرف على المذياع بين إذاعات الشرق العربي حيث أمتعنا بأغان رائعة لعبد الحليم حافظ (على حسبي وداد) ونجاة الصغيرة ( القريب منك بعيد ) ونجاح سلام ( ياماما من باب الطيارة ) و صباح ( ع الضيعة ) كانت أغنيات شرقية ممتعة في مناخ منفتح على الآفاق الرحبة حيث تمتد المزارع والحقول إلى حيث يمتدّ النظر بلاحدود بين زرقة السماء وزرقة الأفق ...
لم نكن مهتمين بالمسائل السياسية اهتمام المحترفين ولكننا كنا نأمل تطور بلادنا نحو مسار ديمقراطي حقيقي فالشباب ميّال للقيم النبيلة النّقيّة وغير الملوّثة ...
كنا نودّ أن نستمع إلى سي الهادي بعد سلسلسلة من الاهتزازات المدوّية التي شابت السّاحة السّياسية التونسيّة ... فقد تنكّر الزّعيم بورقيبة للتعاضد وقال أن «بن صالح»غالطه ودلّس عليه معطيات وهمية أقنعه بها بعدما كان يقول أن بن صالح هو بورقيبة وبورقيبة هو بن صالح ... كما تنكّر الزّعيم بورقيبة الى صديقه الباهي الادغم ووصفه بأنّه «نفس مؤمنة» أي أنّه شخص قليل الحيلة ووصفه في خطاب علني أمام جميع التونسيين بانّه « رأس لحم» أي أنّه ليس ذكيّا وانطلت عليه مغالطات بن صالح ولم يتصدّ له ... كما أن الزّعيم بورقيبة تضايق من أحمد المستيري ولم يقبل به في طليعة انتخابات اللجنة المركزيّة للحزب الدّستوري قبل الهادي نويرة ... فقام الزعيم باخلاء الساحة من كل من يراه في حجم يمكن أن ينافسه هو أو ينافس خليفته المنتظر  وفي المقابل مهّد الطريق للسيد الهادي نويرة كوزير أوّل وكأمين عام للحزب الدستوري ليكون الرجل الثاني بدون منازع لخصاله كرجل اقتصاد وكرجل قانون ...
بعد أخبار الظهيرة والفقرات الملحقة بها جاء المهرجان الخطابي حيث اكتشفنا المميزات التواصلية للوزير الأول الذي كان دقيقا في التعبير عن القضايا وتحليلها باعتماد الواقعية فلم يكن لغويّا أديبا كبن صالح أو الادغم أو المستيري ... 
وفي الجزء الثاني من المهرجان الخطابي تولى الوزير الأول سي الهادي نويرة الرّد على أسئلة الحاضرين في نوع من «الاتصال المباشر» الذي يعتبره الزعيم بورقيبة جوهر أسلوبه في إقناع الشعب برؤيته السليمة ...
كانت الأسئلة دقيقة وكانت أجوبة الوزير الأول والأمين العام واضحة ... الى أن جاء سؤال توقّف عنده السيد الوزير الأول والأمين العام طويلا ... وبقي راسخا في أذهاننا في ذلك المساء وعبر السنين واستحضرناه اليوم في نوفمير 2013 في تونس . 
كان السؤال الصادر عن أحد الشبّان الطّامحين الى الحصول على مواصفات «قادة الفكر والرأي» و«قادة المجتمع» .
سأل الشاب قائلا : «ما هي  أهم صفات المناضل الدستوري» ؟
كان واضحا أن السؤال يتعلق بتعرّف صفات المناضل داخل الحزب الدستوري ولكنه في جوهره يتعلق بالبحث عن «مواصفات المناضل السياسي» وبعبارات أخرى : كيف يمكن لشخص ما أن يكون سياسيا ؟ 
كنا نتوقع ان يسترسل سي الهادي نويرة في سرد ما درج عليه الزعيم بورقيبة من صفات الزعيم والقائد والمجاهد والسياسي الملهم حيث كان يقول ويكرّر ميزات مثل  «نكران الذات» و «حب التضحية» و«خدمة الشعب» والدّوام ينقب الرّخام «تقديم الأهم على المهم» و «تخديم المادة الشّخمة» و «التواضع» وحبّ الآخرين «من خلال مقولة أوغيست كونت ( عش للآخر vivre pour autrui )...الاّ أن سي الهادي ترك كل ذلك جانبا وقال : «من صفات المناضل السّياسي ثمة صفتان رئيسيتان لا يمكن الاستغناء عنهما وهي: 
أوّلا : أن يكون مَعْروفا .
ثانيا : أن يكون مُعترَفا به .
انفجرت الضحكات من كل الحناجر ... وسادت المكان موجة من الهرج حاولنا إثرها استعادة الهدوء حتى نتمكّن من فهم المقصود على الوجه الذي حدّده سي الهادي نويرة...
لم ننتبه جيّدا إلى التحليل الذي قدّمه الوزير الأول آنـــذاك فقد يكون فسّر  «أن يكـــون معروفــــا» أي أن يكون له شعبية في محيطه القريب وقد يكون فسّر «أن يكون معترفا به» أي أن تكون له مكانة وله تقدير من المحيطين به ... ولكنّنا سخرنا آنذاك ربّما للمفاهيم المستعملة وربّما أيضا لأنه كان مختلفا عن المدرسة البورقيبية في تناول الموضوع ...
لكنّنا في المقابل ظللنا أيّاما طويلة نحلّل مقولة سي الهادي نويرة حول مواصفات المناضل السياسي وما معنى «أن يكون معروفا» وما معنى « أن يكون معترفا به».
لقد فهمنا أن الرجل كان صائبا في ما يقول « أن يكون معروفا» أي أن يكون له عمق بشري متمثّل في عرش كبير يسنده أو مجموعة سكّانية ضخمة وطبّقنا ذلك في جهتنا حيث أن السياسييّن ينتمون إلى عائلات ثريّة وعروش قويّة رغم أن الزعيم بورقيبة يقول أنه قضى على العروشية ... نعم قضى على العروشية في العلاقات الاجتماعية كالزواج وغيره ولكنه لم يغيرها في التوازن السياسي ...
وتوصّلنا إلى تحديد وتفسير«أن يكون معترفا به» أي أن يكون ثريّا له عقارات وأرصدة وإمكانيات مادّية يوظفها عند الاقتضــاء لخدمة حزب أو حكومة ووجدنا في المحيط القريب والبعيد أمثلـــة بليغة لمناضلين سياسيين من « المعترف بهم» حيث تتوفّــر لديهم المنازل الأنيقة والقصور الفخمـــة في الجهــــة وفي المدن الكبرى  وحقول الزيتون المتراميـــة والسيـــــارات العائلية والجرّارات الفلاحيّة ومستودعات الحبـــوب والأسهـــم في الشركات الكبــــــرى. ليس مهما أن تكون لهم درجات علميّة عالية، فذلك يمكن أن يحسّـــن من «الاعتراف بهم» لكن زملاءهم الذين يفوقونهم ثقافة وعلما ليسوا مناضلين سياسيين لأنهم لا يتوفر فيه شرط «الثراء المادي» واستحضرنا أمثلة تؤكّد صواب رأي سي الهادي حيث أن زيارات الوزراء إلى الجهة كانت في كثير من الأحيان يتحمل نفقاتها «المناضلون السياسيون المعترف بهم» حيث يوفّرون كل ما يخص إكرام الضّيف ومرافقيه من توفير الأكلات الشهيّة والهدايا وإعداد الفضاءات المناسبــــة ... لقد ترسّخ لديّ ولدى أبناء ذلك الجيل أن «المجال السياســــي» يتطلب شرطين: العمق البشـــري (يكون الشخـــص معروفا) والثراء المادي (يكون الشخص معترفا به) ... أمّا المستوى العلمي والقيمة الأخلاقية الثقافية فهما يساعدان على الوصول إلى وظيفة أو خطّة إداريّة، فيمكن أن يكون الشّخص معلما أو أستاذا أو جامعيّا أو مهندسا أو طبيبا ولكنه لا يمكن أن يكون سياسيّا إذا لم يكن له ثقل بشري يسنده إلى جانب وضع مادي يسمح له بالإنفاق من دخله الخاص كلما تطلبت الأوضاع ذلك ... لقد تأكّدنا عبر العقود الطويلة منذ ذلك الحين أنه يمكن للمثقف والمتعلم أن يكون إداريّا ويمكن له أن يكون نقابيّا أو حقوقيا أو ناشطا في المجتمع المدني ولكن لكي يكون سياسيا عليه أن ينظر إلى ما حدّده سي الهادي نويرة من شرطيْن مهمّيْن  ( معروفا ومعترفا به ).
ثورة الحرية والكرامة والتحليل العبقري للمرحوم الهادي نويرة
بعد ثورة الحرية والكرامة، تصوّرنا إطارا جديدا العمل السياسي تجسّد في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي 23 أكتوبر 2011 ... وهي انتخابات حدثت لأول مرة بدون أشراف رؤساء الشعب الدستورية على مكاتب الاقتراع... وهي انتخابات جرت لأول مرة دون أن يحدث فيها تأثير على إرادة المواطن في اختيار حرّ لمن يريد أن ينتخبه... وهي انتخابات أعطت نتائج لأوّل مرّة لمنتخبين ليسوا (مناضلين سياسيين) أي ليسوا (معروفين وليسوا معترف بهم )، إذ نجح في الوصول إلى المجلس التأسيسي  سائق النقل الريفي والعاطل عن العمل والموظف العادي، فهل تغيّرت الأوضاع والعقلية في تونس أم هي باقية كما رسمها سي الهادي نويرة؟ .
لاحظت كما لاحظ غيري تحفّز الأقلام الصحفية للحديث عن أجور النواب والملايين التي يقبضونها وتحدّث نائب في المجلس عن مبالغ خيالية يتقاضاها نواب المهجر. في مؤسسة إعلامية يتحدثون بالتفصيل عن كمية الكيروزان التي تستهلكها الطائرة الرئاسية ... وهي سلوكات ومواقف لا تتفهّم حاجة « المناضل السياسي» إلى ما يكفي من المال والسيارة والفندق والسفر لأنها جزء من «المجال السياسي وأدواته الضرورية». ومن هنا تفطّن رجال الأعمال التونسيون إلى الفرصة المواتية لاستعادة دورهم في الفضاءات السياسية فانشؤوا أحزابا وكتلا نيابية واشتروا نوابا من خلال توفير السيارات والمكاتب والأموال وأصبحت في المجلس التأسيسي أحزاب لم تشارك في الانتخابات ولم تنجح في الوصول اليه وهي حزب نداء تونس (الباجي قائد السبسي) وحزب الانفتاح والوفاء( البحري الجلاصي) وحركة الجمهوريــة ( العربي نصرة)... وبالتالي تأكدت العبقرية التونسية التي تجسّدت هذه المرة في حِكَمٍ قالها المرحوم الهادي نويرة وهي أن «النضال السياسي» يتطلب إسناد الكثير من الناس وإسناد الكثير من المال .