في العمق

بقلم
محمد الحاج سالم
في السلطة الإيديولوجيّة للعلماء في الإسلام
 صحيح أنّنا نجد التجربة التاريخيّة للجماعة الأولى جزءاً من المرجعيّات الإيديولوجيّة لجماعات المسلمين عبر العصور، إن لم تكن في محلّ القلب منها، بما في ذلك إيديولوجيّات الحركات الإسلاميّة المعاصرة، بل ويمكن القول بشيء من الاطمئنان إنّها أضحت عنصراً أساسيّاً في أيّ إيديولوجيا تنتسب إلى الإسلام عموماً، ومن هنا ضرورة التوقّف عندها قليلاً حتّى تتمايز المسائل. 
لقد كان الصراع بين الجاهلية والإسلام «صراعاً بين حركتين اجتماعيّتين لأهداف سياسيّة» أي «صراعاً إيديولوجيّاً» بحسب تعريفنا الإجرائيّ للإيديولوجيا(1). من المؤكّد أنّ نظرتنا إلى «الإسلام الأوّل» هنا بوصفه إيديولوجيا هي نظرة وضعانيّة. وهي نظرة جزئيّة وقاصرة علميّاً بلا شكّ، لكنّنا نراها مفيدة للتّحليل إذ تجعل من «الإسلام الأوّل»، وليس من «الإسلام» كدين عالمي، حركة اجتماعيّة محدّدة في الزّمان والمكان (وسط الجزيرة العربيّة خلال فترة تنزّل الوحي) ومنغرسة بقوّة في الواقع «بهدف تغيير نمط عيش الإنسان العربيّ وعلاقاته باتّجاه إقامة (دار الإسلام) المنتظمة حول سلطة مركزيّة» على ما يقول أستاذنا الفيلسوف فتحي التّريكي(2).
أمّا الفائدة الثانية من هذه النظرة، فهي إمكانيّة فهم عمليّة التحوّل البنيويّ الشّامل التي شهدها المجتمع العربي «الجاهلي» ممثّلة في «الحركة المحمديّة» بتحويلها ذاك المجتمع من «مجتمع قبليّ مُشرك تعدّدي مفتّت» إلى «مجتمع دولانيّ مسلم واحد موحدّ»، إذ تُلقي أضواء جديدة على عمليّة فهمنا لتشكّل «الإسلام الأوّل» كحركة تاريخيّة تعتمد إيديولوجيا متجسّدة في حركة اجتماعيّة لتأدية جملة الوظائف التي تطلّبتها عمليّة البناء التّاريخي لـدولة الإسلام الأولى، وهو ما كان يحتمّ ظهور هذه الأخيرة من خلال مؤسّسات هي التي ستتكفّل بالوظائف اللاّزمة لإنجاز التغيّر المنشود (3). 
إنّ مثل هذا التّحليل الميكرو-إناسيّ قد يكون سبيلاً لإعادة فهم آليّات البناء الإيديولوجيّ للإسلام في مرحلة تأسسّه كدين، في تمفصلها مع حركة بنائه المؤسّساتيّ بوصفه دولة في مرحلة التكوّن أيضاً، فالأمران مترافقان ومتمفصلان ومندرجان في نفس مسار التحوّل التّاريخيّ. وهذا التّوصيف مخالف كلّ المخالفة لما يصف به البعض الإسلام بأنّه «دين ودولة» إذ يفترض هذا الطّرح الأخير انفصالاً بنيويّاً بين الأمرين، أي بين الدّين والدّولة، وهو الانفصال الذي نعتبره في أصل القول بوجوب «سياسة الدّولة بالدّين»، بينما يؤدّي طرحنا إلى اعتبار التّمفصل الحاصل في حالة الدّولة العربيّة الإسلاميّة الأولى بين الدّين والدّولة أحد متطلّبات التحوّل التّاريخيّ لـ«الأمّة العربيّة» حين أنشأت دولتها الأولى، لا طابعاً خاصّاً بها سيظلّ حاكماً مجمل سيرورتها على مدار التّاريخ. ونحن نقول بالصّفة الدّينيّة الدُّولاَنِيَّة لدولة النبيّ لأنّه لا يمكن الفصل بين الوجه السّياسيّ للنّبيّ ووجهه الدّينيّ، خاصّة وأنّ هذا الفصل هو ما سيكون في أصل الإشكال الهائل الذي ستواجهه الدّولة العربيّة الإسلاميّة بُعَيْد وفاة مؤسّسها حين سيغدو لقب «خليفة رسول الله» مُكسباً صاحبه وجهاً دينيّاً إلى جانب وجهه السّياسيّ الزّمنيّ، وهو ما تمّ التفطّن إليه بسرعة مع اتّخاذ «صاحب الأمر» لقب «أمير المؤمنين» الذي يعني أنّ سلطته محض دنيويّة ولو أنّها مقيّدة بحدود الشّرع. إلاّ أنّ هذا الفصل، وبسبب التقيّد بحدود الشّرع بالذّات، لن يمنع مستقبلاً، لأسباب إيديولوجيّة تتعلّق أساساً بمصالح الطّبقة التّجاريّة الصّاعدة التي سيعبّر عنها الفقهاء، النّظر إلى «ولاية الأمر» أو الإمامة على أنّها «ولاية الدّين على شؤون الدّنيا»، وهي «موضوعة لخلافة النبوّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا» (4) وبالتّالي اعتبار «العلماء ورثة الأنبياء» من حيث إشرافهم العامّ على المؤسّسة التّشريعيّة وتحكّمهم فيها بواسطة المدوّنة الفقهيّة، ومن حيث إلزام السّلطة السّياسيّة باتّباع ما تسطّره تلك المدوّنة للحكم بعدم خروجها عن الدّين. 
إنّنا نلاحظ في مرحلة التّأسيس الإسلاميّ تطابقاً تامّاً بين «وحدة الأُمَّة» و«وحدة السّلطة» حين مثّل الدّين الجديد الرّابطة الاجتماعيّة الجديدة بين مكوّنات الجماعة الإسلاميّة الأولى. فقد اتّخذ الدّين وقتها شكل بوتقة التّنظيم المجتمعيّ لتلك «الجماعة/الأُمَّة» باستبعاده لكلّ انقسام اجتماعيّ فيها، وذلك رغم الاعتراف بالتعدّد الدّينيّ داخلها بدليل وجود يهود ونصارى مكّوناً أساسيّاً لها. إلاّ أنّنا نرى أنّ هذا الأمر ما كان له ليتمّ إلاّ بعد تحييد السّلطة النّبويّة رمزيّاً بوصفها النّاطقة باسم المتعالي، إذ اعتبر القرآن النبيّ طوال جميع مراحل الدّعوة سواء في مَكَّة أو في يَثْرِب مجرّد مبلغّ سلبيّ عن الله ولا دخل له بالتّالي في هداية البشر أو إكراههم وقسرهم على الانخراط في الدّين الجديد وبالتّالي في الجماعة الوليدة ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة، 256) ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾(الكافرون، 6) مادام الله هو المشرّع وما دام النبيّ مجرّد مبلّـــغ ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾(الغاشية، 22).
إلاّ أنّه لا مناص من اعتبار السّلطة النّبويّة، إذا ما نظرنا من مسافة نقديّة ومهما كانت زاوية النّظر، شكلاً سياسيّاً لتنظيم المجتمع عبر تقنين ممارساته وبناء مؤسّساته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة الخاصّة به من خلال تشريعات جديدة تتّفق مع الأهداف التي تتغيّاها الجماعة. وهذا ما جعل التّشريعات، وقد اتّخذت شكل التّحليل والتّحريم وبصفة عامّة شكل أحكام دينيّة، في نهاية المطاف ورغم ما اتّصفت به من طابع دينيّ، أحكاماً سياسيّة. ذلك أنّها كانت متّصلة بالعلاقات الاجتماعيّة بين المسلمين، لكن وبالخصوص لأنّها كانت المنظّمة للعلاقات الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة بين جماعة المسلمين وسائر الجماعات الأخرى المناوئة أو الحليفة، ممّا يكسب الجماعة الإسلاميّة في نفس الوقت تفرّدها واستثنائيّتها ووحدتها الدّاخليّة، وبالتّالي استقلاليّتها تجاه الخارج. 
لقد غدا النبيّ، تحت غطاء التّبليغ عن المتعالي على مستوى الخطاب الدّينيّ، أي تبليغ القرآن، نائباً عن الله على المستوى الاجتماعيّ، وأضحى الرّضا بأحكامه في المنازعات بين الأفراد والجماعات من شروط الإيمان بالدّين ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَا﴾(النّساء، 65) وأضحى الدّين حاضّاً على اتّباع ما يسنّه من تشريعات وإن كان ذلك باسم الله ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(الحشر، 7). وقد سمحت هذه الاستراتيجيّة بأن يغدو النبيّ صاحب سلطة أو بالأحرى «صاحب السّلطة»، وذلك منذ ارتضت الجماعة الجديدة (الأُمَّة) أن تكون أقواله وأفعاله مبادئ فعل وقواعد سلوك اجتماعيّة لا بدّ على المؤمنين اتّباعها، أي مصدر النظام الاجتماعي. 
ونحن نفهم، من خلال ما ورد في النصّ القرآنيّ على الأقلّ، أنّ النبيّ لم يفصل بين ما هو دينيّ وما هو سياسيّ، إلاّ أنّه لم يماه بينهما بل كان سبيله التّمييز بين الشّأنين بمعنى حضور الدّين في السّياسة، باعتبارها مبادئ موجّهة، مع الاعتراف باستقلاليّة الممارسة السّياسيّة عن كلّ سلطة باسم الدّين حتّى وإن كانت سلطة دينيّة في جوهرها، إذ لا وجود تاريخيّاً لمؤسّسة دينيّة في الإسلام.
وبتعبير آخر، فإنّ النبيّ كان «إماماً للأمّة»، بما يتضمّنه هذان اللّفظان من معاني التّأسيس لواقع اجتماعيّ اقتصاديّ جديد والقيادة الرّوحيّة للجماعة المنتظمة في ذلك الواقع. فقد كان من مهامّه إرساء المبادئ الأخلاقيّة العامّة المنتظمة لعمليّة التّأسيس تلك إلى جانب إقامة سلطة تشريعيّة/تنفيذيّة كانت هي الوحيدة القادرة على ضمان بلوغ الهدف الأسمى من الرّسالة المحمّديّة، ألا وهو «تحققّ الوحي في التّاريخ» بعبارة المؤرّخ الكبير هشام جعيط، أو بالتّعبير القرآنيّ حتّى تكون الأُمَّة الإسلاميّة ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(آل عمران، 110). ولئن كانت هذه الثّنائيّة المميّزة للسّلطة النّبويّة هي ما مكّن من تأسيس دولة كانت بحقّ قائمة على سلطة عليا هي سلطة النبيّ، فإنّها كانت سلطة مدنيّة منذ أن أعلن قيام الدّولة ذاتها من خلال «وثيقة المدينة». فقد وضعت تلك الوثيقة/الدّستور أسساً جديدة للاجتماع السّياسيّ على أساس «تعدّديّ» يعتمد حرّية العقيدة والعبادة بما يجعل المقيمين في دولة المدينة «مواطنين» فيها (بالتّعبير الحديث، تجاوزاً) مهما اختلفت ديانتهم (أمّة بتعبير الصّحيفة)، لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات ما للمسلمين وما عليهم. وقد كانت الوثيقة تصرّفاً دنيويّاً من النبيّ بوصفه رئيساً للدّولة، إلاّ أنّها تضمّنت في توجّهاتها العامّة جملة المبادئ الإسلاميّة العليا التي يجب على الجميع اتّباعها تحقيقاً للمصلحة العامّة، أي مصلحة المجتمع المنضوي تحت لواء الدّولة بكلّ فئاته الدّينيّة.
إنّنا نرى وبكلّ وضوح أنّ النبيّ لم يؤسّس «سلطة سياسيّة/نبويّة» هي ما سيبرّر لاحقاً ما يشطّ البعض في مماهاته بما عرفه الغرب الأوروبيّ من حكم باسم «الحقّ الإلهيّ»، وهذا لا ينفي بأيّ حال أنّ النبيّ كان بحقّ مؤسّس دولة وأنّه كان صاحب سلطة. وإذا ما كان مصطلح السلطة في اللغة اللاتينيّة (Auctoritas) مشتقّ من الجذر الهند-أوروبّي (Aug) الذي يعني «قوّة ذات طبيعة وكفاءة فريدتين، وهي خاصيّة تمتاز بها الآلهة» (5)، فإنّ هذا نفس ما يؤكّده القرآن حين يُشير إلى أنّ السلطة (السلطان، القوّة، الأمر، الحُكم، المُلك، القهر) هي صفة إلهيّة بصفة حصريّة، لكن يمكن لله تفويضها لمن يريد من البشر. وبفضل تلك السلطة الكاريزميّة، بحسب الاصطلاح الفيبري، أمكن للنبيّ إقامة نظام اجتماعي جديد وإرساء أسس إمبراطوريّة وبناء حضارة. لكن وفاة النبيّ بوصفه الضامن المختار للسّلطة الإلهيّة، طرحت مشكلة تطبيع (routinisation) الكاريزما التي كانت له، وبالتّالي برزت مشكلة: من المخوّل وراثة صلاحيّاته ؟
في البداية، ورث الخلفاء صلاحيّات النبيّ، لكن توسّع الامبراطوريّة الجديدة والافتقار إلى هيئة يُناط بها تنظيم شؤون العباد وحاجة الفاتحين إلى التمايز الهووي أدّت كلّها إلى إنشاء أطر تنظيميّة وتشريعيّة وثقافيّة ثابتة لتدعيم بنية الدّولة، ومن هنا ولادة مؤسّسة العلماء التي استولت تدريجيّاً بعيْد الفتنة الكبرى على قسم كبير من سلطة الخلفاء الدينيّة التي أصيبت بالوهن نتيجة الصراعات السياسيّة الدينيّة صلب الأمّة(6). فما هي طبيعة هذه السلطة العُلمائيّة ؟
لقد سبق لماكس فيبر أن صنّف السلطة إلى ثلاثة أنماط: السلطة التقليديّة القائمة على «التقاليد المقدّسة بفعل شرعيّتها العتيدة وعادة احترامها المتأصّلة في الإنسان» (7) (وهذا النمط المثالي يجد تعبيرته القصوى في تراثنا في صورة أهل الحديث ومؤسّسة الأشراف وشيوخ الطرق الصوفيّة)، والسلطة الكاريزميّة القائمة على «صفات استثنائيّة وخارقة لشخص (كاريزما) تضمن ثقة أتباعه وطاعتهم المطلقة» (8)(وهذا النمط المثالي يجد تعبيرته القصوى في تراثنا في صورة المهدي والمجاهد والمجدّد والمجتهد، بعضها أو كلّها بنسب متفاوتة)، والسلطة القانونيّة العقلانيّة «التي تفرض نفسها بموجب الشرعيّة وبموجب الاعتقاد في صلاحيّة وضع قانوني وفي كفاءة مستندة إلى قواعد عقلانيّة» (9) (وهذا النمط المثالي يجد تعبيرته القصوى في تراثنا في صورة وكلاء المؤسّسات الدينيّة: القضاة والمفتون والمحتسبون والقائمون على الأوقاف، الخ).
إنّنا هنا إزاء ثلاثة أنماط مثاليّة للسّلطة التي يمكن أن يمارسها العلماء، إلاّ أنّ ماكس فيبر يميّز في الواقع بين أربعة أنماط مثاليّة من الفعل الاجتماعي: فعل عقلاني في غايته يتحّدد بحسب توقّع سلوك الآخرين، وفعل تقليدي يحدّده تقليد راسخ، وفعل عاطفي تحدّده الانفعالات، وفعل عقلاني في قيمته يتحدّد وفق الإيمان بقيمته الأخلاقيّة أو الجماليّة أو الدينيّة، الخ... 
ولاستكمال الخطاطة الفيبريّة والمواءمة بين الأنماط المثاليّة الثلاثة للسّلطة وبين الأنماط المثاليّة الأربعة للفعل الاجتماعي، يقترح ديفيد ويلّر (David Willer) تسمية النمط المثالي للسّلطة الناجمة عن الفعل العقلاني القائم على القيم باسم «السّلطة الإيديولوجيّة» لأنّها «تمثّل الإيمان بالقيمة المطلقة لبنية معقلنة من القيم» (10). وبعبارة أخرى، فإنّ هذا النمط من السلطة يعتمد القدرة الرمزيّة المتاحة لفاعل اجتماعي على إنتاج معتقدات مستوحاة من مرجع أوّلي (وحي، مذهب، الخ) وتأويلها بما يحقّق هدفاً مزدوجاً: تخليد الإيديولوجيا التي يبشّر بها قائد كاريزمي من جهة، وتمكين تلك الإيديولوجيا من التكيّف مع متغيّرات الواقع من جهة ثانية، وهذا ما يضمن لها «تحقيق توازن بين الضرورات الأخلاقيّة والدينيّة من جهة، والمتطلّبات السياسيّة والتاريخيّة من جهة أخرى» (11).
وهكذا يمكن القول بأنّ مشروعيّة سلطة العلماء وقوّتها تقوم على ما يتمتّع به العلماء من سلطة إيديولوجيّة، وأنّ سلطتهم التقليديّة، والقانونيّة العقليّة، والكاريزميّة، تعتمد أساساً على «استخدام جيّد للإيديولوجيا» (12) المستمدّة من تأويلهم النصوص المقدّسة بما يسمح لهم بإنشاء نظام من المعتقدات والتمثيلات المتجانسة المتعلّقة في آنٍ بالغيب، وبالتّنظيم الاجتماعي والسياسي للمجتمع؛ وهذا ما يحوّل الدين إلى إيديولوجيا، وبالتّالي يسهّل استخدام هذا الرأسمال الرمزي وتوظيفه في فرض العقيدة الصحيحة (Orthdoxie) والسلوك القويم (Orthopraxie). 
ومن البدهي أن يكون فرض هذين الأصلين مشروطاً بتوفّر مناخ من الأمن، أي وجود نظام سياسي شرعيّ يقبل بصفقة توافقيّة معلنة أو ضمنيّة تضمن مصلحة الطرفين المتربّعين على قمّة الهرم الاجتماعي، وتحظى بإجماع النّاس (13) . وبهذا تمكّنت السلطة السياسيّة في مراحل مختلفة من تاريخنا العربي الإسلامي من الحصول على الدّعم الإيديولوجي للعلماء من خلال تقنين مبدأ الطّاعة، وتنظيم الضرائب، وتحريض (أو تهدئة) الجموع من خلال الخطب أو الكتابات، الخ، وتمكّن العلماء بالمقابل، إضافة إلى احتكارهم وظائف العبادات والتّعليم والقضاء، من النّفاذ إلى مختلف الوظائف العليا في الدّولة (وزراء، سفراء، مستشارون، كتبة، الخ...) (14).
إلاّ أنّ سلطة العلماء، وعلى غرار كلّ سلطة تتولّى تنظيم المعنى، لا تخلو من نزاعات حول تأويل النصوص ومن تضارب في المصالح، وهذا ما ولّد عبر العصور صراعات إيديولوجيّة، وبالتّالي تعدّد سبل النجاة وتعدّد طرائق المجتمع في بلوغها، بحيث كانت «النتيجة الطبيعيّة لهذه الخلافات هي ظهور طوائف فرعيّة (مدارس فقهيّة وكلاميّة، طرق صوفيّة، حركات سياسيّة دينيّة، أحزاب، الخ) تعيد تقريباً إنتاج نفس النمط مع إضافة الانتساب إلى مؤسّس يكون أحد رموز التفسير الأرتذوكسي للنّصوص ولاستمراريّة العصر الذهبي للإسلام» (15). 
ومع ذلك، فإنه لا ينبغي أن تختلط علينا الأمور. فالهدف الأسمى للعلماء كان دائماً تحقيق مصالح هي في المقام الأوّل ذات طابع ديني، ألا وهي هداية البشر لخير الدنيا والآخرة. وما مشاركتهم في السّلطة السياسيّة أو العمل على تبرير هيمنتها أو التحريض على الخروج عليها، إلاّ بهدف المحافظة على النّظام أو تغييره، أي المحافظة على الشرط اللازم لفرض العقيدة الصّحيحة والسلوك القويم أو المساعدة على خلق شروطه الموضوعيّة، وهذا باختصار شديد ديدن كل إيديولوجيا إسلاميّة عبر التاريخ، بما فيها تلك المنتظمة للحركات الإسلاميّة المعاصرة التي تمتح من ذات المعين (الدين) وتسلك طرائق مختلفة في التعبير عن رؤيتها في تصريف الشأن العامّ (إيديولوجيّات) باختلاف أحوال المجتمعات والظروف السياسيّة. ومن هنا وجوب اعتبار هذا العامل المهمّ في أيّ بحث يروم دراسة مسألة تحويل الدين إلى إيديولوجيا أي توظيف المقدّس من أجل هدف سياسي على غرار ما حاولنا الإلمام ببعض ملامحه في هذا البحث المتواضع.
الهوامش
(1) الحاج سالم (محمّد)، من الميسِر الجاهلي إلى الزكاة الإسلاميّة: قراءة إناسيّة لنشأة الدولة الإسلاميّة، دار المدى الإسلامي، بيروت، 2014، ص 613 وما بعدها.
(2) Triki (Fethi), L’esprit historien dans la civilisation arabe et islamique, Faculté des Sciences Humaines et Sociales de Tunis & Maison Tunisienne de l’Edition, Tunis, 1991, p. 93.  
(3) الحاج سالم، من الميسِر الجاهلي إلى الزكاة الإسلاميّة...، م.م.س، ص 52 وما بعدها.
(4) الماوردي (أبو الحسن)، كتاب الأحكام السلطانيّة، دون ذكر دار النشر، القاهرة، 1909، ص 3.
أمّا ابن خلدون فيقول:  «وإذ قد بيَّنا حقيقة هذا المنصب وأنّه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين، وسياسة الدنيا به تسمَّى خلافة وإمامة، والقائم به خليفة وإماماً».
انظر: ابن خلدون (وليّ الدين، عبد الرحمن بن محمّد)، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق: خليل شحادة، ط 2، دار الفكر، بيروت، 1988، ج 1، ص 239.
ويذهب إمام الحرَمَين الجويني إلى أنّ  «الإمامة رياسة تامّة، وزعامة تتعلّق بالخاصّة والعامّة في مهمّات الدين والدنيا». 
انظر: الجويني (أبو المعالي، ركن الدين، عبد الملك بن عبد الله)، غياث الأمم في التياث الظُّلَم، تحقيق: مصطفى حلمي، ط 1، دار الدعوة، الإسكندرية، 1980، ص 15.
(5) Émile Benveniste, Vocabulaire des institutions indo-européennes, t. II : Pouvoir, droit, religion, Minuit, Paris, 1969, p. 149.
(6) Goldziher (Ignace), « Du sens propre ‘d’ombre de Dieu et de khalife de Dieu’ pour désigner les chefs dans l’Islam », in : Sur l’Islam. Origines de la théologie musulmane, Paris, 2003, p. 279-287.
(7) Weber (Max), Le Savant et le politique, p. 126.
(8) نفس المصدر السابق، ص 126.
(9) نفس المصدر السابق، ص 127.
(10) Willer (David), « Max Weber’s Missing Authority Type », Sociological Inquity, Vol. 37, 1967, p. 235.
(11) Lynn Satow (Roberta), « Value-Rational Authority and Professional Organizations: Weber Missing Type », Administrative Science Quarterly, Vol. 20, 1975, p. 526-531.
(12) مُلين (محمّد نبيل)، علماء الإسلام: تاريخ وبنية المؤسّسة الدينيّة في السعوديّة بين القرنين 18 و21، ترجمة: محمّد الحاج سالم وعادل بن عبد الله، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت، 2011، ص 21.
(13) Ben Achour (Yadh), Aux Fondements de l’orthodoxie sunnite, Collection «Proche orient», P.U.F, Paris, 2008, pp. 2-9.
(14) مُلين، علماء الإسلام...، م.م.س، ص 28.
(15) Ben Achour , Aux Fondements de l’orthodoxie sunnite, Op. cit., p. 22.