في النقد الأدبي

بقلم
رشيد وديجى
التلقـي الأجناسـي

 تسعى نظرية الأجناس النقية إلى المحافظة على المتلقي من حيث هو مستهلك سلبي تعمل على توجيهه كما تشاء، لأنها لا تهدف إلى تطوير حاسّة التّلقّي وتغييرها وتدريبها لتتقبل أي تغير جزئي أو كلي، فلذلك لا ينسجم، بطبيعة الحال، مع مقولات الثبات والوضوح والنقاء والمعقولية التي تتأسّس عليها تلك النظرية.

 فالأجناس الأدبية عند الكلاسيكيين مؤسسة ذات سمات ومعايير وقواعد محدّدة لا يسمح بامتزاج بعضها ببعض «وقواعدها شبه أوامر فنية يلقيها الناقدون ويتبعها الشعراء والكتّاب المنتجون»(1).
 وإذا كان التلقّي الأجناسي يتحكّم بشكل كبير في أفق توقّع القارئ، وفي تلقّي العمـــل الأدبــــي أيضـــــا (2)، فإن الانتماء أو الانتســــاب إلى جنس معيـــــن يؤكـــــد «أن العمــــل الأدبي في لحظــــة صدوره لا يكون ذا جدّة مطلقــــة تظهــــر فجأة في فضاء يباب، فبواسطة مجموعــــة مــــن القرائن والإشارات، المعلنـــة أو المضمــــرة، ومن الإحالات الضمنية والخاصيّــــات التي أصبحت مألوفة، يكون جمهوره مهيأ سلفا لتلقيه على نحو معين»(3) مثلا نجد العنوان كإشارة أولى يبثّهـــا المؤلف إلى المتلقـــي «فهو المفتــــاح الذهبي إلى شفرة التشكيل»(4).
ولا شك أن النظر إلى المتلقّي بما هو مستقبل للإرساليّة مرتبط باعتقاد راسخ لدى النّقاد القدامى والمحدثين، على السواء، بمفهوم المقصديّة، ويؤكد حميد لحميدانـــي ذلك بقولــه «احتلّت المقصديّة دائما جانبا مهمّا في نظريـــّة الأدب، ونظر إليها باعتبارها أمرا مخطّطا له في ذهن الكاتب... ويفترض القول بالمقصديّة أن ننظر للأدب كلغة تواصليّة... ومن الطبيعي أن يترتب عن هذا التصور النظر إلى القارئ باعتباره مجرّد مستقبل يقع عليـــه الضغـــط... لجعله يستقبل مضمون الرّسالة أحسن استقبال، أي أن يفهم مضمون الخطــــاب، ويقبل به لا يمكن أن نتحدث أمام الحضور الشّكلي للمقصديّة إلا عما هو مستوعب ومدرك سلفا من قبل المبدع فضلا عن وجود نيّة التبليغ»(5). 
إذن الأدب –حسب هذا التصور- ليس سوى «حامل لمقصدية المبدع وموصلها على القارئ»(6). فبمجرد ما يتبين للقارئ الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا النصّ أو ذاك حتى تنفتح في ذهنه دائرة التّقاليد الأدبيّة لهذا الجنس «ولذلك تكون صورة المتلقي في أقصى درجات السلبيّة لأنه مستقبل المقصديّة وواقع تحت تأثير الرسالة الإبلاغيّة، وليس أمامه إلا أن يفتح ذهنه ليفهم ويستوعب، ويحرك إحساسه ليتمتّع وينبهر»(7).
من هذا المنطلـــق «يظل العقد المبرم بين الكاتـــب والقــــارئ مقدّسا عندها، ولا يجـــــوز الطعـــــن فيه»(8)، وهذا تصور يؤدّي إلى سلبية القارئ وإلى امتثاله لأعراف الأجنـــاس الأدبية بينمـــا الفاعــــل الأساســــي في تحديد أجناســــي النصوص ليس عنصرا واحدا متمثلا في مقصديّة المؤلف. هناك أيضا مقصدية الجمهور المتلقّي. 
وإذا كان الجنس الأدبي موجها من موجهات القراءة أي أنه يمنح للقارئ مفتاحا لقراءة النص بهدي أعراف الجنس الذي ينطوي تحته في التصوّر القديــــم المؤمن بالنّقاء النوعي والمقصديّـــة، فإن تداخل الأجناس الأدبية وهدم الحدود الفاصلة ببينهـــا يستلزم بالضرورة تخطي الموجه الجنسي للنص، وتكريـــس أعراف جديدة في قراءة النصوص. فنحن نعتقد، في الغالـــب، أن الأجناس تزوّدنا بوسيلة للتّصنيـــف، وهو ما يشكل خطأ رئيسيّا، فالقارئ يمتلك استراتيجيّة للقراءة قد تتطابــــق أو تتعارض مع استراتيجية المؤلف، والتحققات النصيّة الحداثية التي يحصل فيها الكثير من الانتهاكات للقواعد الجوهرية تحتاج إلى نظرة جديدة وتحليل جديد وقارئ فعّال، لا يؤمن بمفهوم الجنس الأدبي المصنّف من جهة وذلك بفعل المقتضيات الداخليّة للكتاب نفسه، ولا يتجاهل من جهة أخرى التداخل بين الأجناس الأدبيّة والتّناص، ولعلّ أهم الصّدمات التي وجهها القارئ هو أن نصوصا من جنس خاصّ تتأبّى على التصنيف ضمن خانات أجناسيّة معيّنة، ناسفـــة فرديّة نقاء الجنــــس، حيث يختلط فيها الســّـرد الروائي بالشّعر والنفس الملحمي، والمشهدية المسرحيّة، والسيرة الذاتيّة، ... والتوثيــق التاريخــــي، كل هذا يتطلب قارئا خبيرا مزودا بنظريات جديدة يتجاوز الموروث الثقافي المتمثل في نقاء الأجناس أو في وضع الحدود الفاصلة بين الأجناس، ولا يمكننا، حاليا، الحديث عن صفاء الجنس لأن هذه المفاهيم قد اندثرت واضمحلت بفعل امتزاج وتداخل الأجناس الأدبية من جهة، وتجاوز مفهوم التصنيف الأجناسي من جهة ثانية، إذ ليس هناك نثر مطلق ونبيل خالص النثرية، ولا شعر سام صاف.
الهوامش
(1) محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، ط 5، ص 140.
(2) 
Gérard Genette, Palimpsestes, Seuil, 1987, P 11.
(3) جمالية التلقي، من أجل تأويل جديد للنص الأدبي، هانس روبيرت ياوس، تر. رشيد بنحدو، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2003، ط 1، ص 65.
(4) فوزي عيسى، النص الشعري وآليات القراءة، منشأة المعارف بالإسكندرية، د.ت، د.ط، ص 16.
(5) حميد لحميدانـــي، الواقعـــي والخيالي في الشعر العربي القديم، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، المغــــرب، ط 1، 1997، ص 3.
(6) حميد لحميداني، مرجع سابق، ص 4.
(7)  نفسه، ص 4.
(8) رشيد يحياوي، مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية، إفريقيا الشرق، ط 2، 1994، ص 21.