في العمق

بقلم
د.محرز الدريسي
الإرهاب الأعمى والمشروع الغائب

 ضرب الإرهاب من جديد في كل من قبلاط وسيدي علي بن عون بعد أن خرب وأسال الدماء الزكية والطاهرة في الروحية وسيدي علي بن خليفة،  والسؤال المحير الذي يطرحه كل تونسي غيور هل يمكن أن يكون القتل الأعمى مشروعا؟ هل يمكن أن تكون الاغتيالات برنامجا؟ ما الذي  يريده هؤلاء ؟ ما هو برنامج  الإرهاب؟ ما مشروعهم؟

إذا كان المشروع فكرة تمتد في المستقبل مشحونة بالأمل وممتلئة باحتياجات الغدّ، فإن الإرهاب يتغذى من كل الصور السوداء وينزع نحو التهديم والتحطيم. إذا كان المشروع بناء وإنشاء فان الإرهاب فناء وإفناء، هل للإرهاب مشروع؟ لا يمكن أن يكون للدّمار إلا برنامج تخريب وخراب.
إذا لم يكن للإرهاب مشروعا فإن لديه برنامجا وخطة ترمي إلى: 
بث روح الخوف والريبة
زعزعة صورة رجل الأمن والعسكري
جر البلاد إلى مستنقع العنف السياسي والإرهاب والتفجيرات
هذه الأهداف توفر أجواء لانغراس كل نزوع يبحث عن الحدّ الأدنى الأمني والسلم الصفري حتى ولو انتكس المجتمع إلى عصور قروسطية. إنه ينتعش في مناخ الرعب والذعر ويقتات من الجريمة بأنواعها ويتنفس من حشرجات الموت الزؤوم.
يتخذ الإرهاب أكسية متعددة وأقنعة مختلفة، فلقد اتخذ غلاف الماوية والماركسية المتطرفة مع «الألوية الحمراء» الايطالية و «الجيش الأحمر» الياباني  و «بادر مينهوف» الألمانية و «العمل المباشر» الفرنسية. تقلص أو ربما اندثر هذا الإرهاب الناشئ في أحضان الفكرة الماركسية والنزوعات القومية، مع نمو الفكر الديمقراطي وارتفاع نسبة الوعي المدني وأثر العمل الجمعياتي ومؤشرات التنمية المستدامة ونسب التنمية البشرية الجيدة. 
تغيّرت المثل من فرض الآراء بقوة الخراطيش ومنطق القوة لتسمح بنمو  منطق التدافع المدني والسياسي، وان الفاعلية الأفقية أبقى وأدوم من الفاعلية البؤرية التي لا تخلف إلا الجروح الغائرة والمآسي. 
لكن هذه الدائرة  الصمّاء جعلت الإرهاب يجتر من نفس المنطق القسري والقصوي ولا يرى إلى حد الاقتناع المحيّر أن الدماء تبني وأن الموت يُنعش وأن الخراب مُولد، لكن اكتسى حلّة جديدة في المضمون وفي الشّكل. من حيث المضمون التصق الإرهاب بالتديّن في ثنائية غريبة وعجيبة، فالتديّن رمز السماحة والتسامح والسلوك اللطيف وروح التشاور وحرية المعتقد والخدمة الاجتماعية والدفاع عن الصالح العام. 
تحوّل التديّن إلى عمامة تطلق النار وإلى لحية غادرة ومموهة والى متدين مجرم.
لو قمنا بتقريب «الزوم» وشرحنا الإرهاب، سنلاحظ بحثا عن طريق خاطئة وطرق لأبواب مزيفة، إنها إرهاصات ذهنية معكوسة  تنطلق من توصيف غالط للحظة وتشخيص مقلوب للواقع وإدراك مفوت للتاريخ ، شخصية هشة غارقة في مستنقعات الماضي المظلم متناسية كل المساحات المضيئة في تراثنا النيّر، ترضع من ثدي الماضي حقدا وصور سوداوية ومواقف متأزمة عوض أن تستفيد من موروث محفز ومنفتح.
أرغب فعلا أن استحضر في ذهني صورة شخص إرهابي، فتخونني ذاكرتي فألجأ إلى الخيال لتصميم صورة نمطية للإرهابي، لشابّ في مقتبل العمر، يفترض أنه يؤمن بتغيير المجتمع وأن لديه خطاطات حلم وبقايا مشروع مستقبلي بناء، فلا نجد إلا أعراضا مرضية زائغة بل مخربة، وأيادي  ثعبانية مهدمة.
أن نحلم في العشرين بالحرية والمساواة والعدالة واللاطبقية والاشتراكية المطلقة حق لشاب العشرين، ولكن هل للإرهابي حلم؟ أشك في ذلك أي قيمة يطمح إلى تحقيقها، لا أعتقد أن لديه قيما بالمعنى الإنساني، هل لديه نمط مجتمعي وشكلانية في العلاقات الاجتماعية وفي السلوك والتصرف؟ يمكن ذلك، ولكنها لا ترتقي إلى مستوى الحلم القيمي والمشروع الإنساني الدافع للحياة. 
الإرهابي ينسج أوهاما عنكبوتية مغلفة بالبداية المطلقة القضاء على الجميع ليبعث الجميع، تخريب الحاصل لإعادة الحاصل من جديد تدمير المكاسب لزرع العدم. الإرهابي عدمي بالمعنى الساذج للكلمة وغبي في مجمل معانيها. أعيد طرح السؤال، سؤال التونسيين ما الذي يريده الإرهاب بلوغه؟
الخراب والعدم والنهاية، يبرز الماضي مثل الغول الباحث عن التهام حاضرنا وتحريف رؤيتنا لطريق سلامتنا وصواب مسارنا ومصيرنا.
هذه الصورة ليست مجرد صورة عابرة لوسائل الإعلام ومن غرسة خطيرة في التمثلات الاجتماعية، بل هي رسائل نخرت التديّن في جوهره وقد تنساب لتفيض بأشكال متدرجة نحو فكرة الدّين ذاتها. إذا كان للإرهاب أسبابه وشروط بروزه من جهل وفقر وأحلام منحرفة وطموحات عرجاء وتهيج إيديولوجي بلا تأطير وبلا غايات  إنشائية.
إن إستراتيجية مقاومة الإرهاب تنطلق من مداخل عديدة متشابكة ومتكاملة، فمثلما أن الإرهاب تركيبة معقدة  فإن مناهضته وإزالته تركيبة معقدة. تنطلق من أن مع القوة والمعالجة الحازمة والصارمة  تظل عقيمة ومغلقة ما لم تمكن الشبيبة من مشاريع ذاتية حقيقية تسهم في تنمية تقدير الذات وتعزيز تألق شخصيتهم، حيث يلتقي هناك بالتحديد ثلاثي التربوي والثقافي والرياضي في إطار حاضنة تثمن العمل الجماعي والفعل الجمعياتي والخدمة الاجتماعية. 
نحن نرغب في بناء طرق تمشينا ونهوضنا الحضاري والمساهمة في المنظومة الإنسانية، وأن يرتقي مجتمعنا ويحصن شبابنا مناعته من اختراقات الأوهام. لدينا مشروع أحلام، نرغب كتونسيين بتحقيقها من أجل تحريك قوى مجتمعنا نحو البذل والجهد، وأن تتشكّل سلطة سياسية همّها النماء والتقدم والعدل. وأن نخرج مع سلطة ديمقراطية في مسيرة الإنشاء والإعمار بحثا عن مواطنة فاعلة ورفاهة للجميع. إنّ تنقية الفضاء العام من التشنّجات والتوتّرات والاتجاه  نحو المستقبل ونحو بلورة مشروع وطني يوحد الجميع، ويتعالى عن التجاذبات ويتجاوز صغائر النزاعات للقضاء على الإرهاب الشيطاني، واستعمال المعاول لإزالة الفقر وإطاحة الهيمنة وإلغاء الظلم وتهديم أركان التخلف.
عندها يكون القضاء على الإرهاب شاملا وتاما وليس مجرد مطاردات بوليسية !!