قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
حال العيد

 قد لا يعرف كل العرب شاعر الضاد ابا الطيب المتني فمنهم غير المثقفين ومنهم من لا يحفل بالشعر وأهله ولكن أغلبهم يحفظون قوله الشهير «عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضي أم لأمر فيك تجديد» وهم يردّدون هذا البيت كلما كانت لهم مع العيد مفاجاْة.

والعيد من العود، كلما حلّت سنة حلّ معها. ونحن المسلمون لا نفتأ نحتفل بالعيدين الفطر والأضحي ما دمنا أحياء، سنّة سنّها رسولنا لا تنتهي ما دام علي الأرض مسلمون. يسبق العيد نسك من المناسك التي فرضها الله على عموم المسلمين ومن ثم فقد كان الفطر عيدا دالا على فرحة المسلم بإتمامه صوم رمضان وكان الأضحي عيدا دالا علي بلوغ الحجاج المبتغى بأداء أعظم المناسك في يوم عرفة، وتلك فلسفة الإسلام في جعل كل شيء في حياة المسلمين لا ينفصل عن رسالة الإنسان وغايته وهما عمارة الأرض في كنف التوحيد والعبودية لله الواحد. ليس ثمة من حرج علي المسلمين في العبادات كل يبلغ من القصد ما يستطيع وبما يستطيع من دون أن تكلّف النفس إلا وسعها وغاية العيدين إدخال الفرح والبهجة علي عموم الناس صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم. وما فرض الله عبادة ولا سنّ رسوله سنّة إلا حفّها بالتيسير ولكن الناس لم تعد رغم التيسير تستطيع أن توفّر متطلبات العيد بسبب الغلاء وقلّة ذات اليد، بل إن الغلاء قد منع هذه السّنة كثيرا من صغار الموظفين شراء الخروف، فكان ذلك شديدا على أنفسهم إذ حرموا أطفالهم من شيء كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر.
إننا نستطيع بالطبع أن نعدد أسباب الغلاء وأن نفيض في شرح وجهتي نظر الحكومة والمعارضة ولكن ليس هذا غايتنا وإنما الغاية أن نستبين الطريق إلى جعل العيد عيدا يعود على الناس بأفضل حال كل عام وقد كنّا بينا من قبل في مقال سابق أن تيسير الدّين لم يعد وحده يكفي ليبلغ كل النّاس مأربهم وأننا مدعوون للتفكير في أساليب أخرى تجعل النّسك مستطاعا لكل المواطنين فلا يكون الدّين للقادر ماديّا دون غيره من الفقراء ولست أقصد هنا الصدقات ولا الإعفاء.فإذا كانت الصدقة هي مساعدة الغني للفقير بقدر رغبته، فإن هذه الصدقات إذا تركت عفوا كما تركت في بواكير اللإسلام لن يكون بوسعها تحقيق الغاية منها ومن ثم فقد بات من الضروري البحث عن طرق جديدة لتنظيم هذه الصدقات من جهة جمعها ومن جهة صرفها ولذلك فمن الواجب في رأيي أن نحسن جمعها بواسطة هيآت مصادق عليها معروفة عند الناس لا تثقل على المانحين وتحسن طرق الجمع مستعملة في ذلك كل الوسائط الممكنة حتى يتسنى لنا توفير المال الذي نستطيع به مساعدة الناس بقدر حاجاتهم فلا يتخلّف متخلّف عن أداء ما يقتضيه الدين بسبب قلة ذات يده فنخفظ حينئذ رابطة الدّين ونجعل من الإنتماء لعموم المسلمين إنتماء دائما لا يتأثر بعاديات الدّهر، يغيب فيه أي تمييز مهما كان صغيرا فلا شيء يثقل على النفس في الأفراح قدر ما يثقله عليها الإحساس بالدونية، وغاية الدين حفظ كرامة الفرد .
يطنب الفقهاء في تبيان كون الدين أعفى غير القادر مما لا يتيسر له القيام به ولكننا سنظلّ رغم ذلك نلحّ على أن الإعفاء ليس حلّا ولا هو إعفاء لنا بل هو آخر الطب إذ بوسعنا إن أردنا واجتهدنا أن لا نخرج طائفة الفقراء من أفراحنا وأن نعفيهم كما هو الواجب من ذلّ السؤال وقهر الضعف والحاجة.  فلم يعد هنالك مجال للتمييز بين الناس والدين لم يطلب منا تجميد أفهامنا عند المقولات الأولى وقد بلغ مجتمعنا مبلغا من النمو وثراء الكثيرين بما لم يعد يتلاءم معه الإكتفاء بالقوالب القديمة ونحن في عصر تسمع فيه شكوى الشاكي قاصيا كان أو دانيا وما أكثر من قالوا في سنتنا هذه «ليتك يا عيد لم تعد» فذهبوا بذلك أبلغ مما ذهب إليه أبو الطيب. عدنا لتحليل فكرة سابقة ولم يكن ذلك من قبيل التكرار وإنما رغبة في إيفاء الفكرة ما تستحق يقينا منا بأن إنشغال الوطن كله بما يسمى بالحوار الوطني قد غطى على كل إنشغال ويا ليتنا نبلغ من هذا الحوار ما نريد ولكني أظن غير آثم أنّما هو حق أريد به باطل، فلا الوسطاء أهل للوساطة ما دام الرباعي جبهاويا غير المحايد هو من يتوسط ولا المجتمعون يرغبون حقا في الحوار ونحن نراهم يزيدون الى ما سلف من الشروط شرطا كلما صفعتهم حركة النهضة ومن معها بإعلان المروءة من أجل إنجاح الحوار. ثم إن ما سمّي بخارطة الطريق غير قابل للتطبيق أصلا، فمن أين لهم أن يأتوا بشخصية وطنية محايدة والكل يعرف كل شيء عن الآخر. وماذا بإمكان الحوار فعله مع جهة لا همّ لها إلا إخراج النهضة ومعها الإسلام السياسي ورموزه من الحكم ومن الحياة السياسية كلها.
قد يعود علينا العيد القادم وقد إنحلت عقد المعارضة في تونس وأصبح بإمكانها أن تحتكم إلى الديموقراطية خيارا واحدا لتغيير الحاكم وتنصيبه ويكون بوسعها الإدراك قبل خراب البيت أن الإسلاميين جزء كبير من الشعب لا يمكن إستئصاله أو إخراجه من الحياة السياسية من دون أن ينهار البلد. وربما عاد العيد علينا وقد انصرفنا الى معاركنا الحقيقية وعلى رأسها التنمية الدائمة التي تحقق الرفاهية للجميع وحينذاك سنقول للعيد «عيد بأحسن حال عدت يا عيد»