تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
رسالة أولى لابن بالمهجر

 القلعة الكبرى في 09 سبتمبر 2013

الحمد لله والعزة له وحده لا شريك له.
ولدنا، كبدنا يمشي على أرض بعيدة يفصلنا عنه بحر شاسع غالبه العقل المجتهد  والخيال الذي لا يعرف حدودا فجعل ولدنا بالقرب منا هنا نراه ويرانا نسمعه ويسمعنا. الحمد لله الذي مكن للإنسان من العلم ما صلح ومن العزم ما صنع والذي بفضل ربه ساس ما سخّر الله من خلقه وألان الصلب وميعه وصلّب السوائل وغالب من الصعاب ما كبر حجمه أو صغر.
ولدي، ما دفعني غيابك الذي هان للكتابة ولكن عملا بما أخذنا عن آباءنا واستئناسا بآثارهم ومآثرهم التي نستنير بها، من هؤلاء  من كتبوا لفلذات أكباد مهاجرة يحفزونهم ويشدون من عزمهم في غربتهم البعيدة. أنا (فلان) أكتب لابني في غربة لا كالغربة فهو قريب وإن بعد. أكتب لك ابني بأسلوب تقليدي يثبّت تواصلا لا يمكن لما توفر اليوم من وسائط أن يبلغه. أكتب لك ابني بالخط على أسطر علمتك قراءة ما بينها فلا تغفل، واحرص على القراءة وإعادة القراءة فإنك ما لم تدركه الساعة لا مناص فهمه ساعة أخرى. أكتب لك ابني بقلم لا كالقلم وبحبر لا كالحبر  ولكن ما يخط على صفحة بيضاء مثل أول صفحة يقرأ كما قرأت كل الصحف. 
ها قد هاجرت بعيدا وما كان هجرك إلا لعلم تتزود به و لفقه تتزين به واحتكاكا بشعب متمرس تقرأ أفكاره وتدرس آثاره فلا تبدل خطوك بخطوهم ولا تحقرن النفس منك فهي رفيعة. فخذ منهم ما زانهم  واترك ما شانهم واحفظ عنهم ما ظهر من العلم وما خفي. ولا تنسى أن تقرئهم السلام وأن تحسن إليهم وأن تتسم بما يفتخر به أهلك ولا تبدي منك ما تكره أصلا. فاحرص على أن يروك كما أنت، كما علمتك تكون لا كما يريدون أن تكون. وارفع الرأس ولا تتكبر واخفض الجناح ولا تستسلم. واذكر ربك وتذكر دينك فتكبر في أعينهم ولا يروك منبتا. 
بني، لا أنسى فضل والدتي بلّل الله تربتها، ولا أنسى قولها قبل مماتها وبعد أن حاصرتها أمراض السكري وضغط الدم «وليدي كِحْلات حرمت» أي لمّا توفّر الخير وأصبح مستساغا وحلوا حرمه المرض. حاولت مرارا تذكر والدتي في سريرها، فلم أعثر على مثل هذه الصورة في ذهني. كيف أذكر ما لم أره بعيني؟ كانت المسكينة رحمها الله تنام دوما بعدي وتستيقظ بكثير قبلي. لا أذكر والدتي في سريرها إلا مكفنة. رحم الله والدتي وكل النساء اللاتي نسجن من نور عيونهن طول النهار وثلثي الليل برانيس وفرش وأنواع كلها من صوف. عمل مضني انشغلن به لتوفير مصاريف الولد الذي سافر لتونس للدراسة،  ولتجهيز عروس بجهاز تأمينا للأيام الصعبة. أمهاتنا لم يتعلمن ولم يبحثن عن شغل خارج جدران البيت وجعلن السقيفة مصنعا للصوف يعمل ليلا نهارا. لم تسجل والدتي في قائمة العاطلين عن العمل لأنها كانت جدّ منشغلة بعمل ابتكرته وأسّسته. فوضعت الدينار في كف وليدها دون الجهر به. ففوجئ رب العائلة بولده زاهدا عن ما يشغله من طلبات يعلم الله كيف حرم نفسه -استعدادا لتلبيتها- لا من ملذات الحياة بل من قوته الأدنى الذي يشدّ به الرمق. ومازال الوالد ينتظر السؤال حتى ييأس فيبادر بدسّ ما ادخر  في جيب ابنه في ضيق مستصغرا ما قدم والثاني محرجا مستكثرا ومستنكرا ما تقبل.
وهكذا يجهز لدينا كل طفل وبنت بجهاز العود إلى المدرسة ما يملا المحفظة من كتب وكراريس وأدوات وما يلبس وينتعل استعدادا لمواجهة سنة طويلة بفصولها الأربعة، ولا يزيد الطفلَ إلا إيمانا بأهمية وضرورة العلم الذي يدفعونه إليه وتشبثا بمقعد الدرس للنجاح والتميز.
ولدي الحبيب. والدتك تقول لك أكثر مما أقول، فمنه ما تجده بين السطور ومنه ما يصلك عبر دليل القلب حسّا لا يلتقطه من الناس إلا الولد الذي وافق نبض قلبه طيف حنان أمه. حمّلتني شوقها أنقله إليك كتابة فهل أوفق؟ سأختزل كل مشاعرهــا نحوك بين القوسيــــن التاليين ( ) وإني متأكد أنك ستجد بينهما ضالتك.
ومن والديك السلام.