وجهة نظر

بقلم
حسن الجمني
الشركات التعليمية حل لتمهين التعليم وتطوير المحيط الاقتصادي للمؤسسات التربوية

 لا يختلف إثنان من خبراء التربية والمهتمّين بالشأن التربوي بتونس على الرأي القائل بغياب الاحتراف في المؤسّسات التعليمية. ويعزون إليه تدنّي مستويات التلاميذ المعرفية، وضعف تحصيلهم، وعجزهم بعد التخرّج عن مواجهة الحياة.

ويكتفي جلّ القائمين على الشأن التربوي بحلول جزئية سريعة عند التفكير في الإصلاح فيتجهون نحو مداخل لتعديل مقاربات التعليم أو مراجعة البرامج الرسمية أو غير ذلك من الجوانب التي لا تكفي معالجتها لينهض التعليم فهي تخفّف الألم دون أن تقضي على الدّاء. 
لذلك أعتقد أنّه آن الأوان لحسم مراجعة المنظومة التربوية مراجعة شاملة تعني الهيكلة ونوعية إطار التعليم والأهداف والمقاربات البيداغوجية. ولا يمكن أن يتحقّق كلّ ذلك دون أن يقدّم الإطار التربوي ، مهما اختلفت مواقعه ، أفضل ما لديه لتطوير العملية التعليمية والتربوية، ويعمل على تحقيق أعلى درجات التميّز في جودة المخرجات التربوية، وهو ما نعنيه بالاحتراف، وهو المتغيّر المنشود الغائب عن المعادلة التربوية التونسية.
فقد أثبتت دراسات عديدة  أن 50 % من الموظفين في البلاد العربية لا يبذلون في عملهم جهدًا أكبر مما هو ضروري من أجل الاحتفاظ بوظائفهم، وأن 84 % من الموظفين قالوا إن بإمكانهم أن يؤدّوا بشكل أفضل ، إذا هم أرادوا ذلك( د. محمد السمان 2011 ).
وبيّنـــت دراســـة قمــت بهـــا سنــــــة 2008 أنّ 28 % فقـــط من بين إطار الإشراف البيداغوجي يحقّقون الاحتراف في مهنتهم بالبلاد التونسية.
ويعزو جلّ المربين من مدرسين وإطار إشراف غياب الاحتراف إلى نقص المحفّزات وظروف العمل الصعبة والاخلال الإداري في بعض الحالات ممّا يهزّ هوية المدرّس ويضعف ميله إلى أن يقدّم أفضل ما عنده في تخصصه.
ويدفعني كلّ ما تقدّم إلى أن أقترح نظام الشركات التعليمية كحلّ للقضايا الاجتماعية والاقتصادية للتعليم. فهو حلّ يرمي إلى  تطوير التربية المدرسية في بلادنا وإلى أن يصبح مجتمعنا في مصاف المجتمعات الراقية والمتعاونة والمتميّزة في منظومتها التربوية والمبدعة في مجال التكنولوجيات الحديثة بشكل عام ، ويهدف إلى بناء المدرّس المحترف والمدير المحترف والمشرف البيداغوجي المحترف. 
كما يهدف هذا المشروع المقترح إلى إعطاء المؤسّسة التعليمية المزيد من الاستقلالية في التصرّف المالي وتخفيف العبء التنفيذي على وزارة التربية وتحسين التصرّف في الزمن المدرسي.
     ما هي الشركات التعليمية؟
هي شركات مساهمة متميّزة تتولّى مسؤولية تنفيذ البرامج التعليمية التي تضعها وزارة التربيــــة من خلال إنشاء مؤسّسات تعليمية حيث يكون المساهمون من المدرّسين ، ويحبّذ أن يكونوا من المنطقة التي توجد فيها المؤسّســــة، وتقوم الوزارة بمنح مباني المــــدارس لهذه الشركات دون مقابــــل، وتدفع الوزارة، إلى الشركة أيضـــا، مقابل مصاريف كلّ متعلّـــم بدلا عن الولي وفق دراسات اقتصادية تربوية تنجز في الغـــرض على مستـــوى وطني أو جهوي لتحديد مبالغ النفقات على مستوى المتعلّم الواحد. فتتصرّف الشركة في الموارد المالية لصالح المتعلّمين المسجّلين في المؤسّسة وفق حاجات التنفيذ ويتقاسم المدرّســـون المساهمـــون الأرباح حسب جهد كلّ منهم، وموقعه ومسؤوليتــــه. وتتحمّل الشركــــة أعباء توفير التجهيزات والصيانة.
فهي شركات تتحمّل العبء التنفيذي للعملية التعليمية بدلا عن الوزارة لكنّها تطبّق برامج الوزارة وخططتها وتعمل على تحقيق أهدافها. فهي تلتزم بتحقيق نتائج عالية الجودة في امتحانات يقع تنظيمها على المستوى الوطني في محطات تعليمية عديدة ( نهاية الابتدائي/الإعدادي/الثانوي).
الشركات التعليمية تسهم في ترشيد استغلال الموارد المالية لوزارة التربية
إنّ من طبيعة البشر أن يكونوا أحرص على ما يمتلكون وأكثر اهتماما بمصدر ما يرتزقون منه. فالمدرّس ضمن منظومة العمل بنظام الشركات التعليمية شريك وليس موظفا لدى الوزارة. أي أنّه لا يتقاضى مرتّبا من خزينة الدولة مباشرة عبر الوزارة، بل يتقاضى دخله من إدارة الشركة التعليمية التي هو أحد منخرطيها فهو يملك جزءا من الشركة ويتوقف دخله على نجاح الشركة في مهامها، أي أنّ المدرس سيصبح مسؤولا عن تطوّر دخله من خلال مسؤوليته في نجاح العمل التربوي  بالمؤسّسة عموما.
وبحكم شراكته فإنّ المدرّس سيعمل على وقف إهدار المال بمواقف راشدة ضمن مجلس المؤسّسة وسيساهم في وضع خطط لترشيد التصرّف في الموارد التي تأتيه من خزينة الدولة. فالربح سيعود عليه. وإن تقشّف فسيكون تقشفه معتدلا غير مخل بسير المؤسّسة لأنّ كلّ تقشف زائد  سيؤدّي إلى خلل في ظروف تعلّم التلاميذ ( أو الطلبة ) وبالتّالي فشلهم في محطّات التقييم المتعدّدة، وهو ما سينفر المواطنين من تلك الشركة فينقلون أبناءهم إلى غيرها.
فعند العمل بالشركات التعليمية سيجتهد كلّ أطراف الأسرة التربوية،  ويتعمّق الحوار بين العقول التربوية داخل المؤسّسة  بشكل فعّال ، فيعملون على تجويد استغلال التكنولوجيات الحديثة  وخبراتهم والزمن المدرسي ، ويتحرّك التعاون الحقيقي بين الأطراف  لتحقيق الجودة  مع حسن التصرّف في الموارد المالية والبشرية والوقت.
أليس في الشركات التّعليمية حلّ لتمهين التّعليم ؟
إذا كان تمهين التعليم يعني أن نجعل منه نشاطا يلزم متعاطيه الاحتراف والممارسة المسؤولة على مستوى العمليات في بعده الفردي وجودة الإنتاج في المخرجات في بعده الغيري الاجتماعي بتقديم خدمة جليلة للمجتمع، فإنّ الشركات التعليمية قد تكون حلاّ لتحقيق الاحتراف في مهنة التعليم ، ليس بالمعنى التقليدي للاحتراف الذي يقف عند اتخاذه كوسيلة للتكسّب بل يتعدّاه إلى المفهوم الحداثي الذي يعطيه دلالة الإجادة والإتقان في تعاطي حرفة أو مهنة.
فقد انتقل الاحتراف في عصرنا من مفهوم اشتغال حرفة بهدف التكسّب إلى دالة على جودة الأداء وعقلانية مسار العمل أي التأمّل في الممارسات وترتيبها وتنظيمها وضبط مقاصدها، وهو دالّة التوقع وحسن التقدير وحسن التقدير والاستعداد. ويأتي بذلك الاحتراف في سياق حداثي يثق من قدرة العقل على سيادة المعيش ويجعل من البحث عن الجدوى والمردود الأفضل هاجسا اقتصاديا واجتماعيا يوجّه عمليات التعليم وتقييم النتائج والمؤسّسات المنتجة ويحدّد مصيرها ومسارها واستمرارها وتطوّرها.
ونعتقد أنّ العمل بنظام الشركات التعليمية سيجعل المدرّسين الذين يؤسّسون تلك الشركات يشعرون بالمسؤولية الشخصية على نجاح المؤسّسة وسوف تدفعهم مسؤوليتهم إلى السعي وراء المزيد من التكوين البيداغوجي والتقني والتأهيل العلمي لأنفسهم. وبذلك نطمح فعلا إلى بناء مدرسين محترفين مبدعين يهتمّون فعلا بالنشء وتربيته بدلاء عن الذين يحضرون بفصول الدراسة ويعتبرون أنفسهم بذلك قد أدّوا الواجبات التي عليهم.
فمشروع الشركات التعليمية يجعل المدرّس شريكا ومحاسبا في نفس الوقت من طرف شركائه، ومتعاونا (أو متنافسا ) مع غيره، ومسؤولا عن المستويات المعرفية للتلاميذ.
 العمل بنظام الشركات التعليمية مدخل لإلزام المؤسسات التربوية بمعايير الجودة:
يمكن أن نعرّف الجودة في التعليم بالعمل على تحقيق أهداف النظام التربوي، وأهداف المجتمع عموما، وتلبية احتياجات سوق الشغل من حيث المواصفات، والخصائص التي يجب توفّرها في المنتج التعليمي بما في ذلك مدخلاته، وعملياته. 
ففي المجال التربوي يقصد بالجودة أداء العمل بطريقة صحيحة وفق مجموعة من المعايير، والمواصفات التربوية اللازمة لرفع مستوى جودة وحدة المنتج التعليمي بأقل جهد، وتكلفة.
ما هي معايير الجودة التعليمية؟
يمكن أن نختصر تلك المعايير في خمس مجموعات:
* معايير تتصل بهيئة التدريس ( خاصة منها العدد والكفاءة)
* معاير ذات صلة بالمتعلّمين ( نذكر منها الكثافة والتكلفة والخدمات المطلوبة والاستعداد والدافعية)
*  معايير ذات صلة بالمناهج (توافقها مع حاجات المجتمع )
* معايير تتصل بالموارد ( من ذلك ملاءمة البناية لطبيعة المهنة وتوفر التجهيزات ومرونة التصرف).
* معايير تتصل بالإدارة (مدى حرصها على الجودة وهيكلتها وتكوين الإداريين).
ذلك أنّه للجودة ثقافة إدارية خاصة فهي تقتضي تغيير نمط الثقافة التنظيمية الإدارية في المؤسسة التعليمية وهذا يعني تغيير القيم والسلوك السائد بما يساعد على تحقيق الجودة الشاملة منها تغيير النمط الإداري إلى الإدارة التشاركية.
فالعمل بنظام الشركات التعليمية يمكّن وزارة التربية من إلزام تلك الشركات بالمعايير والشروط العلمية والبيداغوجية المتفق عليها دوليا. ويتحقّق ذلك بوضع بنود ضمن كراس شروط تكوين الشركة ومواصفات إنتاجها، وبتكوين هيئات توجيه وهيئات رقابة مستقلّة الأولى تهتمّ بتأطير عمل أعضاء الشركة والثانية تراقب مدى احترامهم لمعايير الجودة.
وتأسيس شركة تعليمية يجعلها تجتهد لتكون متميّزة عن مثيلاتها وتحسّن من أدائها وتطوّر وسائلها لترضي أولياء التلاميذ وهيئات المتابعة والرقابة وتفوز بالجوائز والتشجيع المثمّنة لدرجة الجودة. فتعقد تلك الشركات الندوات والملتقيات والاجتماعات والمداولات وتشرف على بحوث لمعرفة أفضل المقاربات والطرق لتطوير الأساليب التعليمية ومقاييس الجودة.
هل الشركات التعليمية مؤسّسات خاصّة قد تمسّ مجانية التعليم؟
مجانية التعليم وعمومه وإجباريته من مكاسب الشعب التونسي خلال الفترة التي عقبت الاستقلال سنة 1956 ، وهي مكاسب لا يمكن التخلّي عنها بل يجب دعمها. والشركات التعليمية تقبل الأطفال والشبان مثلها مثل بقية المؤسسات العمومية، إلاّ أنّ المدرّس فيها ليس موظفا يتقاضى مرتبا ثابتا بل هو مساهم بجهده ويخضع دخله إلى قاعدة السّوق ، أي حسب الإنتاجية والعرض . فالمدرس يتقاضى مرتبا مع جزء من الربح بعد تقييم سنوي لأداء الشركات ونتائجها ينجز في نهاية كلّ سنة  يشمل كلّ الجوانب المهنية والاقتصادية. فالوزارة التي تموّل الشركة من جهة البناءات وتكاليف التدريس تتولّى متابعة الواقع التنفيذي للمشروع عن طريق هيئات إرشاد وهيئات مراقبة مستقلة ومتنقلة تتحقّق من التزام المؤسّسات بالمعايير والشروط العلمية واللوجستية وتقيس مدى نجاحها في تحقيق نتائج وفق  شروط منصوص عليها ضمن عقود التأسيس. فرغم طبيعة التسيير الذاتي للشركة من طرف المساهمين فإنّها ليست مؤسّسة خاصة من النمط المنتشر حاليا في مدننا. 
وقد استخدم مثل هذا النظام في بلدان عديدة ، نذكر منها كندا والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة وأفضى إلى نتائج مشجعة.
وإنّي إذ أعرض  على القارئ الكريم هذا المقترح العملي أنتظر ممّن يشاركني فيه الرأي العمل على نشر الفكرة لعلّها تنبت نباتا حسنا تنتفع به الأجيال المقبلة، كما أطلب من الجميع التعاون معي لتطوير الفكرة حتّى تلاقي المزيد من القبول وحتّى نتمكّن من بلوغ أهداف الثورة التونسية التي صرنا في أمسّ الحاجة إليها.
المراجع:
* الجمني، حسن (2008) . الهوية المهنية لإطار الإشراف البيداغوجي بالمدارس الابتدائية التونسية، مطبعة الحبيب .تونس
* السمان، محمد (2011). الاحتراف التربوي. المجلة الإلكترونية  المعرفة http://www.almarefh.net/show_content_sub.php?CUV=385&Model=M&SubModel=131&ID=1119&ShowAll=On