في العمق

بقلم
د.لطفي زكري
التعليـــم والتشغيــــل

       لا يختلف جل الملاحظين للشأن التربوي حول الاعتراف بتدني المستوى العلمي وضعف التكوين المعرفي والتربوي وهشاشته في مختلف مراحل الدراسة بالمؤسسات التربوية والتعليمية العمومية والخاصة بالرغم من ارتفاع نسب النجاح بها وارتفاع معدلات الناجحين التي بلغت في السنوات الأخيرة مستويات قياسية لم تشهدها من قبل (معدل 20/20 في الباكالوريا). ولعل ما يعمق الشعور بالإشكال والمفارقة في هذا المجال الحيوي هو ما تبذله الأطراف الفاعلة في الحياة التربوية والتعليمية من جهود مقابل تزايد مظاهر العزوف عن المؤسسة التربوية من قبل كل روّادها والعاملين فيها وهو ما تعبر عنه قوة الرغبة في مغادرتها مقارنة بالرغبة في ارتيادها أو المكوث فيها. فكل من المعلم والمتعلم لم يعد يجد في هذا الفضاء تلك الجاذبية التي كان يشعر بها في العقود الأولى التي تلت استقلال البلاد. فأين يكمن الدّاء يا ترى؟ هل يتعلق الأمر بانحراف أصاب مؤسساتنا أم بتغير مسّ طبيعة روّادها؟ وهل تغيّرت صورة التلميذ وعقليته وحسب أم تغيرت أيضا صورة المدرّس وعقليته أيضا؟ فهل يعقل أن يتدنى مستوى المتعلم في الوقت الذي يحافظ فيه المدرّس على رفعة مستواه أو يزيد عليه بمتابعة الدورات التكوينية المتعاقبة والمكثفة أحيانا؟ وهل تحولت مشاريع الإصلاح التربوي في بلادنا إلى مشاريع إفساد للعقول وهدم للذوات؟

     تفخر الدولة التونسية منذ عقود بحجم الميزانية التي ترصدها سنويا لهذا القطاع الحيوي وغير المنتج في أدبيات الاقتصاديين الكلاسيكيين على الأقل. وإذا كانت مرحلة ما بعد الاستقلال تعطي لهذا الخيار الاستراتيجي كل المشروعية فإننا اليوم بعد نصف قرن وأمام طوابير المعطلين من حاملي الشهادات العليا نجد أنفسنا مجبرين على مساءلة هذا الخيار ومشروعيّة الاستمرار في الحفاظ عليه في واقع شهد تغيرات عميقة. وهل كان يكفي القيام ببعض الإصلاحات التربوية على مستوى البرامج والمناهج حتى تزول مظاهر الأزمة التي تعاني منها المؤسسات التربوية والعلمية في بلادنا؟ وهل في مستطاعنا اليوم أن نطرح الأسئلة التي لم يجرِؤ أحد على طرحها من قبلنا؟ الأسئلة التي تباغت كل المتاجرين والمستفيدين من الإبقاء على الوضع الراهن في قطاع التربية والتعليم دون تغيير جذري يزيل المساحيق التي تخفي الوجه الحقيقي للعملية التربوية والتعليمية. 
      هذه الأسئلة لا تلغي في الواقع حقيقة العلاقة الحميمية بين التونسي والمؤسسة التربوية والتعليمية، ذلك أن الأسرة التونسية مازالت تعدّل ساعتها على الزمن المدرسي في كل وجوه نشاطها اليومي وتنظّم نفقاتها بحسب تطوّر المستوى الدراسي لأبنائها وبناتها. ولعل أجمل ما في هذا الانشغال هو السّلوك الاحتفالي الذي تحظى به العودة المدرسية واختتام السنة الدراسية. لكن يبقى الاحتفال بالتّخرج ممزوجا بكثير من مشاعر القلق والخوف من وحش البطالة وانسداد آفاق التشغيل. تلك هي في الواقع ضريبة ربط التعليم بالتشغيل الذي رافق مولد دولة الاستقلال الباحثة عن إطارات عليا محلية تعوض الإطارات الأجنبية. أما اليوم وبعد تحقق الاكتفاء الذاتي وحصول فائض زائد عن الحاجة من أصحاب الشهادات العليا غدا عسيرا على العقل التونسي أن يفك الارتباط الذي عقدته دولة الاستقلال بين التعليم والتشغيل وحكمته به طيلة خمسة عقود. لذلك يبدو أن المرض الحقيقي الذي تعاني منه المؤسسة التربوية والتعليمية هو بالتحديد استحالتها إلى مؤسسة لتخريج أجيال من المعطلين عن العمل. وهو أيضا ما قد يفسّر التساهل في معدلات النجاح إلى حد اقتربنا معه إلى وضع يتساوى فيه عدد المرسمين مع عدد الناجحين بما يفقد الاختبارات والمناظرات الوطنية كل قيمة ومعنى في حياة المتعلم.
    يبدو إذن أن المشكل الذي يحتاج إلى الحل للخروج بمؤسساتنا التربوية والتعليمية من وضعها المأزوم هو مشكل العلاقة بين التعليم والتشغيل أو بين العلم والعمل عامة. لقد فشلت إلى حد الآن مشاريع الإصلاح التي أرادت توجيه الممارسة التعليمية وجهة تستجيب لمتطلبات التشغيل وتلبي انتظارات أرباب العمل وطالبيه في ذات الوقت. وقد يعود ذلك إلى الصورة السلبية التي يحملها التونسي عن التعليم المهني أو الشعب القصيرة التي لا يوجه إليها إلا ضعاف التلاميذ وهو وضع يقاومه التونسي بشدة حتى وإن اقتضى الأمر التنازل عن بعض الضروريات اليومية أو التداين لتسديد فاتورة الدروس الخصوصية التي يرى فيها البلسم الشافي لضعف المستوى والمفتاح السحري للنجاح والتفوق والامتياز، وهي الشعارات التي تغذيها وسائل الإعلام بما تبثه من ومضات دعائية وإشهارية مستفزة أو بما تعرضه على المشاهد من منوعات ومسلسلات لا حظ فيها لمتوسطي الذكاء. وإذا كانت المشاريع الإصلاحية لم تقدم لهذا المشكل الحل الذي يناسبه وبقيت تراوح مكانها مرددة شعارات تجاوزها الزمن فإن السلوك اليومي للتونسي يكشف عن بدايات لتلمس الحل على نحو عفوي وغير مؤسس علميا يعبر عنه البعض بانتشال الأبناء والبنات من الضياع بين أروقة المؤسسات التربوية والتعليمية وحمايتهم من إهدار أجمل سنين العمر في ممارسة لا طائل منها سوى كم من الشهادات المضروبة (امتياز، شكر، شرف، استحسان،...).
     لقد فصل الإغريق منذ القدم المعرفة عن كل الغايات وجعلوا منها غاية في حد ذاتها (المعرفة من أجل المعرفة) ثم جاء المسلمون فرفعوها إلى مرتبة العبادة (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) وأخيرا حول الغرب وجهتها نحو التحكم والسيطرة (نحن نعرف لنتنبأ ونتنبأ لنسيطر). فأين نحن من هذه الاتجاهات الثلاث؟ في الواقع لا أرى لنا موقعا بين هذه الخيارات الاستراتيجية، ذلك أن أفق النظر والتخطيط لدينا لا يتجاوز الحد المباشر والجزئي من المشكلات التي تواجهها الدولة وأعني أن المعرفي في بلادنا يعدل دوما وفقا للغايات الدنيا والقصيرة المدى. ألم يجعل بورقيبة من نشر المعرفة وإجبارية التعليم ومجانيته حلا لمشكل الإلحاق الحضاري بالغرب؟ ألم ينسج بن علي على منواله حين بشرنا بمدرسة الغد ومجتمع المعرفة حلّا لمقاومة التطرف الديني وتجفيف منابعه؟ ربما نجح الاثنان في تحقيق بعض الغايات التي رسماها لنفسيهما لكن لا أحد منهما نزل المعرفة ضمن خيار استرتيجي شامل وبعيد المدى لذلك لم تلبث المعرفة أن تحولت إلى مشكل يستدعي الحل.
     إن استمرارنا اليوم في التفكير في إصلاح تربوي في حدود البرامج والمناهج يمثل امتدادا للنهج الذي سار فيه بن علي ومن قبله بورقيبة وعينا ذلك أم لم نع. فالذعر والخوف اليوم هو من وقوع المؤسسة التربوية فريسة للتجاذبات الإيديولوجية بين اليمين واليسار بما يحول بينها وبين ما تنتظره من ثورة حقيقية تزيل عنها المساحيق التي وضعها على محياها «المصلحون» خلال نصف قرن أو يزيد. إن الإصلاح الحقيقي ينطلق بالضرورة من الإجابة عن السؤال الذي طرحه العقل التلمذي والطالبي منذ ثلاثة عقود ولم يجد له إجابة إلى حد الآن، وهو السؤال «لماذا ندرس؟» الذي يجد تبرير طرحه في الشعار المتداول بين التلاميذ والطلبة «تقرا ما تقراش المستقبل ما ثماش». إن الإجابة عن هذا السؤال هي المفتاح الحقيقي لكل مظاهر التأزم التي يعاني منها كل المتدخلين في العملية التربوية والتعليمية على نحو مباشر أو غير مباشر. ونعني بها على وجه التحديد قضايا العنف والفشل والغش والمخدرات والجنس... ومشتقاتها. وهي القضايا التي تعبر عن عمق الأزمة وتعدد أبعادها ومجاوزتها لأسوار المؤسسات التربوية.
      لا مراء في أن المهمة صعبة ويزيدها الوضع الانتقالي عسرا بسبب سيادة خطاب الاتهام والتجريم وانحسار الخطاب التوافقي أو تأخر اللجوء إليه في إدارة الحوار حول الخيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لكن قدرنا هو أن نمضي في الاضطلاع بهذا الانتظار التاريخي حتى نسهم في الحدّ من مشاعر اليأس والإحباط وننشر مشاعر الأمل والتفاؤل بالمستقبل بعيدا عن مزاعم امتلاك الحلول الجاهزة أو الوعي المكتمل بملابسات الواقع وما يستدعيه من إجراءات عملية.