في العمق

بقلم
محمد الشّيخ
مناورة ام استيعاب للدرس؟

ليست المرة الاولى التي يخرج فيها الشيخ راشد الغنوشي بالموقف الحسم بعد شدّ عسير و مخاض يتّجه الى سدّ كل الافق نحو اللاعودة  ومهما بدا ذلك من ضرورة تفرضها الحسابات السياسية فإن النتيجة دائما واحدة هي استعادة المبادرة وخلط الأوراق حتى لترجع كل الاحزاب الى مكاتبها في اجتماعات عاجلة و طويلة تعلو فيها الاصوات وتشق الصفوف بحثا عن استثمار التفاعل مع الوضعية الجديدة التي أوجدها الشيخ أو البحث عن قراءة  أو « تخريجة» على معنى الحيل الفقهية، فيخرج جمهوره بأشكال شتّى من الفهم ويفهم منافسوه أن الزعيم تحمّل المسؤولية ويولّون وجوههم شطر حزبه حتى يفي بما حكم الزعيم ، وبين هذا وذاك يسيل الحبر ويستعرض الاعلام قدراته في التحليل  وتنبؤات ما انزل الله بها من سلطان 

و أذكر أني كتبت قبلا عن صفات الشيخ راشد في هذا المنحى بمناسبة قوله الفصل في الاكتفاء بالفصل الاول من دستور 1959 في علاقة مصادر الدستور المراد صياغته بالشريعة الاسلامية وهو لعمري السناريو نفسه . و به أيضا تمت معاجلة تداعيات مبادرة رئيس الحكومة السابق السيد حمادي الجبالي 

هكذا عرفت الشيخ راشد الغنوشي من كتاباته أو مواقفه في أحرج اللحظات منذ الثمانينات، حيث أذكر أنه من أبرز من توجّه الى المصالحة مع مفاهيم الحداثة في الوقت الذي لم يعد يجدي الفكر الاسلامي محاربته طواحين الهوى بادعاء رفض المنتوج القيمي الغربي مقابل استدعاء البديل من التراث في نقيض للمنظومة القيمية المعاصرة وهو منحى لا يزال يتمسك به بعض التيارات الموصوفة بالسلفية 

الجديد هذه المرة هو البيئة السياسية الداخلية والخارجية التي أحاطت بالراي  الحسم و دوافعه الممكنة، ما يجعلك تتفاعل مع السياسي بخصوصياته التونسية، ذكرتني ببعض المقولات من « نرجعو كيما كنا قبل الزيادات» أو حتى مقولة «فهمتكم»  مع فارق التوقيت (أي التفطّن الى استعمالها قبل فوات الاوان) .                                                    

لقد جاء الحسم في بيئة سياسية داخلية اتسمت بتكتل المعارضة بكل تناقضاتها غير المنطقية بالمرّة، لا يجمعها  إلاّ عداء حزب النهضة وإرادة الإطاحة به من سدة الحكم  وأن العارفين بالميدان والحضور الجماهيري يعرف أن هذا لا يكفي لتقويض هذا الحزب المنضبطة قواعده والذي ينطوي على نفسه كالقنفد لمواجهة الخطر، فلا يقدر عدوّه على ايجاد المدخل لتفكيكه، وإنما ما يدعو الى التنبّه لضرورة المراجعة هو تزايد وتواتر الاخطاء من قياديي ووزراء الحكم بشكل لم ينزل بردا ولا سلاما على معيشة المواطن  ولا المؤشرات الاقتصادية ولا الوضعية الامنية وحيث لم يجد نفعا التذرّع بمن يضع العصا بالعجلة أو أي من الحجج  وحيث لا يعذر الجاهل بجهله للقانون ...... قانون اللعبة ... ضرورة أن الالتزام هو التزام بنتيجة ولا ببذل الجهد .                                                       

ها هنا يصنع التاريخ  و يأخذ  وجهته ومنحاه ومن هنا قرأ الشيخ راشد المنحى الذي اخذه التاريخ في مصر والذي أصبح مفتوحا على المجهول وقالها صراحة « أين يذهب مليون ونصف ممن انتخبوا النهضة إن اطحت بها بغير الصندوق....؟؟؟؟؟» أي أن الرجل قرأ الحرب ورفضها وإن كان بعض أنصاره دائمي التعبير عن الاستعداد لها وأنه اتخذ القرار بالسعي الى الرجوع من الشارع الى أروقة المكاتب وصالونات الحوار .             

وربما ومن بين الاخطاء هو تركيز حزب النهضة على مواجهة الخصم أكثر من الالتفات الى الدعم الفعّال الذي كان يمكن أن يؤتيه طوابير الاحتياط من المتعاطفين منذ أيام الجمر والمنتشرين بشتى المواقع بالدولة والادارة أو حتى غير المعادين لها  والذين كان يمكن أن يقلبوا كل المعادلة ويمنعوا عديد السلبيات للبلد والحكم عوض السقوط في المحسوبية الحزبية وأحيانا العائلية التي زادت من اهتراء صورة الحزب ولو لم يصر سياسيي الأحزاب الحاكمة على شرف احتلال المواقع و غنيمة السلطة                               

أضف الى ذلك عدد من الأحزاب والشخصيات السياسية التي أفنت عمرها في طلب ودّ النهضة وتجد نفسها دائما في التسلل بعد سيرها في مواقف رديكالية على يمين النهضة للفت نظرها دون جدوى فيما لم تكن النهضة قادرة على الفرز من بينها من هو القادر على الدعم فتستعين به من الانتهازي الباحث عن التموقع أو السمسرة لمجرد استعماله الخطاب الديني للتعبير عن لونه أو بالاعلان على البيعة اللامشروطة .

يبقى أننا يمكن أن نعلن عن توقّع  الفصل الثاني من تداعيات موقف الشيخ راشد الغنوشي من منطلق متابعتنا له حيث أنه عادة ما تحدث مثل هذه المواقف بعض الاضطراب على بعض الكوادر والقواعد وحتى مؤسسات الحزب  وهذا الاضطراب يستدعي تدخلا في وقت مدروس لاجتماع عام بالقواعد يخطب فيه الشيخ ويقنع، باستعارة بعض المواقف من السيرة والقران من جهة، ومن الجهة الاخرى ترك هامش كبير من المناورة تتضح أكثر مع الوقت مما يترك له مجالا لاستكشاف التوازنات أثناء الحوارات السياسية ليتحكم في الحد الذي يمكن أن يصل إليه شد  أو جذب شعرة معاوية .

على أن الجانب الآخر من البيئة السياسية لهذا الموقف لا يقل أهمية ، وهي البيئة السياسية الخارجية حيث التوازنات الاقليمية من جهة بوجود أجوار تحكم علاقتهم بالبلاد وبالحزب تناقضات غير محمودة أو مضمونة النتائج ولا هي ضمنت مواقف الغرب المبهمة مهما ادعت من المواقف الايجابية حيث أن رسالة  المساندة للحكم غير واضحة وغير صريحة الى الآن، فالقول بدعم المسار الديمقراطي يفهم منه مساندته للتشارك في الحكم وليس الاستئثار به وهذا ما فهمه أخيرا الشيخ راشد الغنوشي دونا عن وزرائه الذين تحجب عنهم أحيانا جاذبية السلطة وضوح الرؤيا .

إن التفاعلات التي تجيب عن حوار الشيخ راشد بقناة نسمة وإن تنوعت حسب المصالح والقراءات، فإنها حتما ستكون فاعلة للمرحلة المقبلة وستكون الرسائل التي حملها هذا الحوار رسائل مشفرة مطمئنة للقوى الخارجية التي تعودت على الفعل على الساحة السياسية التونسية و اختبارا جديدا لمدى قدرة الفاعلين السياسيين على تحقيق ما رسموا من أهداف والمقدرة على أخذها من حزب النهضة وأن النهضة تعرف جيدا تعوّد بعض السياسيين على المقايضة وأن المعارضة لم تكتشف بعد قواعد التقايض مع النهضة التي تختلف مع مقايضة بن علي وبين هذا وذاك فإن الواقع والحقيقة أبسط من ذلك بكثير وتعثر عليه بيسر في ثنايا السوق وقفة المواطن وطموح الشباب وافاقه وانتظارات الجهات في مقابل السّبات الذي طال بعض الوزراء ولا قدرة لهم إلا تسريع السقوط نحو الهاوية