تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
غليون
انشر استعمال النرجيلة بالمقاهي والفضاءات العمومية بشكل أصبح يثير قلقا لدى غير المدخنين وكنت واحدا منهم. كنت أتجنبها ما بوسعي إلا أنها أصبحت تطاردني أينما جلست لاحتساء فهوة صباحية كانت أو مسائية مما دعاني إلى أن أبحث عن أصلها وعن أسباب تفشي هذه الظاهرة. وقادني البحث الذي أجريته إلى تبيان علاقة مثيرة بين ما يحدث في سوريا وغليون أنستني النرجيلة ومشاكلها ووقفت عند معرفتي بانتمائها لعائلة الغلايين.
معلوم أن الغليون أداة للتدخين استعملته العديد من الشعوب في أشكال وأحجام مختلفة. وقد دخَّن الناس التبغ بالغليون منذ عهود قديمة، وكان الهنود يُدخنون التبغ أثناء احتفالاتهم الدينية. وإن اختلفت الغلايين في الشكل ومواد تصنيعها فلا تختلف في أنها تستخدم في تصفية وترشيح الدخان من المواد الضارة بنسب مختلفة وتؤمن كلها تواصل اشتعال التبغ داخل الوعاء أو الموقد وتعمل الساق على تبريد الدخان قبل وصوله إلى فم المدخن.
واكتشف الأميركيون الغليون مع الهنود المحليين أما الأوروبيون فقد تعرفوا عليه مع وصول المهاجرين من إفريقيا وآسيا، فطوروا الغلايين باعتبار تطور المواد المستعملة و نقشوا الكثير من الرسوم اليدوية على أوعيتها وسيقانها. أما الفرنسيون فقد زادوا اهتماما بالغليون فكونوا له نواد ومعارض ووثقوا تاريخ الغلايين بفرنسا وخارجها. وآخر غليون أنتجته لم تُسمه كمعظم الغلايين التي تحمل عادة  أسماء نوعيات الخامة المستعملة في الوعاء. فالغليون الأخير من أصل سوري من مدينة حمص بالتحديد احتفظ بما لقب به. 
لا يهم اسم هذا الغليون ولا يهم الشكل الذي أخذه ولا ما تزين به من نقوش عالية الجودة والإتقان وما تميز به من نبل وتشريف. المهم أنه صنع بفرنسا بلاد الأنوار غليونا للتدخين، وعاءه في سوريا تضطرم ناره لتحرق خيرة ما أنتج من تبغ يدخنه صاحب الغليون عبر الساق الطويلة فيمتص عصارة دخان بارد مكيف ينتعش بنشوة أفيونه كما ينتشي جلساءه بنكهة ما احترق بخورا في تنور عازل للحرارة. فلا يصيب الماسك للغليون من النار الموقدة إلا النشوة برائحة الشواء، فيملأ رئتيه ويزيد بدخان التبغ ولا يدرك التواء أوراقه التي يلسعها اللهيب المستعر ليستل منها الحياة ويرديها رمادا. ولا يصله من ذلك الحريق إلا ما يدفئ يديه من برد الشتاء القارس.    
لقد انبهر غليون بنمط الحياة بباريس فأصبح يشارك في مسابقات التدخين التي تنظم دوريا ويفوز فيها المدخن الذي يبقِي غليونه مشتعلا أطول مدة. وقد برهن غليون هذا الزمان على قدرته الفائقة في التحكم في عملية الاضطرام واستدامتها تأمينا لنشوة المدخن الذي تعلم ممارسة التدخين والتعامل مع الغلايين وعرف كيف يستمتع وينتعش ويتكيف بعصارة تبغ منقى وأصيل.  السؤال كم من التبغ يجب دسه في المحرقة لإرضاء نشوة المدخن؟ 
والجواب الذي أجده عزاءا لي كجزء من مكونات التبغ أن الغليون حتى وإن كان من أحسن المواد صنعا وأنبلها، فهو بعد تدخينه فترة من الزمن يفقد بريقه ويتحول إلى لون القطران الذي سرى في عروقه ثم تفشى في كامل جسمه حتى تعمقت فيه الأخاديد  آثارا لا تمحى للمحرقة. فيُترك حينها ذاك الغليون جانبا ويُحفظ برهان عصر استخدامه لجلب المتعة والانشراح لمدخنه ولخدش ذاكرة كل من فتح سجلات الماضي وإن بعد.
اليوم أصبحت أكثر تسامح مع النرجيلة طالما بقيت أصيلة طاهرة ونقية من كل شائبة.