نقاط على الحروف

بقلم
شكري عسلوج
والتاريخ يعيد نفسه ...

 تُدمى الأفئدة وتفيض المُهج في كل مرّة تُزهق فيها الأرواح وتُسفك الدماء وتُثخن الجراح على ثرى هذا الوطن العزيز. وقد كانت التطورات الأخيرة التي حصدت أرواح المدنيين والعسكريين على حد سواء ويتّمت أطفالهم ورمّلت نساءهم، وزلزلت ضمائر كل من يغار على هذا الوطن، منعطفا خطيرا يوحي بعظائم الأمور في قادم الأيام.

 نعم، لم يُقدَّر للشعب التونسي أن يفرح بثورته التي بدأت بوادرها بعبق الياسمين قبل أن تختنق في نتن الزبالة المتكدسة في كل مكان، ولم تستطع حكومة بطمها وطميمها ارتضاها الشعب، ولم يكتنف وزراؤها عن ترك مكاتبهم للإشراف الميداني على حملات النظافة في أن تُغير من هذا شيئا. نعم كان مكتوب عليهم الفشل وبأي ثمن حتى في تأمين النظافة العامة، لكي يعي الشعب الذي ثار وأختار، بأنه سيندم لخياراته ويدفع الثمن من أمنه وقوت يومه ويعضّ على أنامله ندما وكمدا وحسرة لأنه تجاسر يوما، وأراد لنفسه مكانا تحت الشمس المشرقة بين الأمم الحرة.
وأمام الشحن الإعلامي المتواصل، والتهم الجزافية المتبادلة، والتهديد والوعيد بتواصل الجنائز الوطنية وبالمزيد من القتل والتنكيل والتمثيل وحتى بالسيارات المُفخخة، إذا لم ينصاع الجميع ويبادروا بالتنفيذ الفوري للأملاءات ولخطّة الطريق المرسومة، وأمام تحريك الشارع واستقطابه بين مؤيد ورافض للشرعية في محاولة مستميتة لجرجرة المشهد الوطني إلى الحالة المصرية، يزداد توتر المواطن العادي، وتتبدد شيئا فشيئا آماله في أن يرى القطوف الدانية تتحقق في ظل ثورته بعد كل هذه العذابات والتضحيات، وتتشعب الأمور أمامه وتزداد غموضا خاصة على وقع التصريحات المُشَفَّرة لأطراف الصراع على السلطة والتي لا تشفي بأي حال غليل التونسيين، الذين يريدون معرفة حقيقة ما يجري في هذه الربوع ومن هو المسؤول عن كل هذه الجرائم ولماذا لا يُساءل ولا يُحاكم.
وفي ضلّ احتدام الصراع واختلاط الأوراق والتشكيك والتجريم والتخوين والتكفير المتبادل وحتى الثلب والسبّ والشتيمة والتي لم تُستثني منه حتى قامات وهامات وطنية ورجالات الدولة ورموزها، كان لابد من تجنّب عرض الرأي والتحليل الشخصي مهما كانت حياديته وموضوعيته، والاستعاضة عن ذلك بما ثبت ورسخ في التاريخ والذي لم يعد بإمكان أحد القفز عليه أو توظيفه أو تفنيده ومن ثَمّ ترك كل ذي بنان ليستنتج بحرية ما يشاء وليُسقط ذلك على الأحداث الراهنة كما يرتئيه وكما يعِنّ له. 
في 27 أفريل 1961 أدلى الرئيس جون كينيدي بخطاب أمام الرابطة الأمريكية لناشري الصحف. والذي دخل التاريخ فيما بعد تحت مُسمَّى خطاب المؤامرة والذي اقتطفت لكم منه الجزء التالي: « السرية، هي كلمة بغيضة في مجتمع حرّ ومنفتح بطبيعته، وبالنظر لهوية شعبنا وتاريخه، فنحن نعارض الجمعيات السريّة والبيعات السريّة والمخططات السريّة. وكوننا نواجه في جميع أنحاء العالم مؤامرة واسعة النطاق لا هوادة فيها، تعتمد أوّلا وبالذات على طرق المغالطة والتخفي لبسط النفوذ وذلك بتوخي التسلّل بدلا من الغزو المباشر، وإشعال الفتن بدلا من الانتخابات الحرّة، والترهيب بدلا من ترك المجال للإرادة الحرة. هذا النظام أستوجب إرساءُ دعائمه، مواردا بشرية ومادية ضخمة من أجل بناء آلة متماسكة وفعالة بشكل ملحوظ. إذ يجمع بين الوسائل الدبلوماسية والعسكرية والاستخباراتية والاقتصادية والعلمية والسياسية. برامج هؤلاء تُحاك في كنف السرية ولا يقع الإعلان عنها، وأخطائهم يتم تجاهلها ولا يجرأ أحد على التشهير بها في وسائل الإعلام، ومنتقدوهم ومعارضوهم تُكتم أصواتهم وتُكمّم أفواههم ولا يُسمح لهم بإبداء رأيهم وتقديم مشورتهم، ونفقاتهم لا يُساءلون عنها وأسرارهم لا يتمّ كشفها. لأجل ذلك فقد أفتى المُشرّع الأثيني «سولون» بتجريم كل مواطن لا يكترث بالشأن العام. إني أطلب مساعدتكم في هذه المهمّة الهائلة من أجل إعلام وتنبيه الشعب الأمريكي بهذا الأمر الجلل، وأنا على ثقة من أننا وبمساعدتكم يُمكن لنا أن نعيش كما ولدتنا أمهاتنا : أحرارا ومستقلين». كلنا نذكر أن الرئيس الأمريكي الأكثر شعبية، قد عرف في وقت لاحق نهاية مأساوية، عندما اخترقت رصاصات رأسه وأردته قتيلا لما كان في زيارة رسمية، يجوب شوارع دالاس على متن السيارة الرئاسية المكشوفة برفقة زوجته جاكلين، في يوم 22 نوفمبر 1963 وذلك على الأرجح من أجل مواقفه المعلنة هذه. قوى الشر التي تحدّث عنها كيندي كانت من القوة والتنفذ والصلف بحيث أقدمت على اغتيال أكبر مسؤول لأكبر دولة في واضحة النهار وأمام أعين الناس وكاميرات التلفزيون ومع ذلك فلا أحد يدري اليوم أي بعد نصف قرن ونيف من يقف وراء هذه الجريمة. بعد تصفية كيندي الذي جاهر بمقاومته لهذه القوى وبعد أن وضعت يدها على مقدرات الدولة الأعظم، التفتت هذه القوى الشريرة لباقي المعمورة واستباحت شعوبها بإشعال الفتن والحروب وبشراء الذمم وبتنظيم الانقلابات على الزعماء الوطنيين الذين أتت بهم صناديق الاقتراع والاستعاضة عنهم بأنظمة استبدادية فاسدة لتنفيذ مهمة كتم أنفاس الشعوب وسلب ثرواتها. من مصدق إيران، إلى آلياندا الشيلي مرورا بشافيز فنزويلا وصولا بمرسي مصر تطول قائمة الشعوب التي أُستبيحت سيادتها وأنتهك حقها في تقرير مصيرها واختيار حكامها.
إن خطاب الرئيس كينيدي، والذي يتحدث فيه عن مؤامرة عالمية لا هوادة فيها، تستهدف بسط النفوذ على كل المعمورة وسلب إرادة الشعوب وتوصيفه للموارد والإمكانيات الهائلة التي بحوزتها وللأساليب والإستراتجيات التي تنتهجها، هو كفيل بأن يُنير بصائرنا لفهم ما يدور في ربوعنا على نطاق ضيق. غير أن أبلغ ما أفصح به كينيدي في خطابه والذي لا نكاد نصدّق أنه ورد لتوصيف الحالة الأمريكية في منتصف القرن الماضي وليس تبيانا دقيقا للأحداث الأخيرة في تونس: «وإشعال الفتن بدلا من الانتخابات الحرّة، والترهيب بدلا من ترك المجال للإرادة الحرة» يكاد يكون سردا مطابقا لما وقع ويقع من محاولات محمومة لإحباط التحول الديمقراطي بوسائل الإفشال والتعطيل ومن ثم التحول إلى الترهيب السافر والعنف الهمجي للالتفاف على الإرادة الحرة للشعب التونسي والتي تجسمت لأول مرة في تاريخه فيما أفرزته صناديق الاقتراع، وصولا إلى المطالبة بحل المجلس التأسيسي وإسقاط الحكومة وعزل الرئيس.
ما يجري في ربوعنا وفي الوطن العربي ككل لا يدع مجالا للشك في أن كل دولنا مُستهدفة حتى يتم المزيد من تفتيت ما هو مُقسَّم وتوهين ما هو ضعيف ولن ينتصر في هذا المسعى إلا أعداءنا وسنكون كلنا الأخسرون وبدون استثناء ولنا في ما يجري في الشقيقتين مصر وسوريا أبلغ القرائن وأثبت الدلائل وأقوى الحُجج.
في هذه الفترة الفارقة من تاريخ وطننا حيث سيُقرر الشعب التونسي إما أن يكون أو لا يكون، حري بكل الوطنيين والديمقراطيين الحقيقيين أن يعوا بأن من كان يقدّس الأحزاب فإن الأحزاب قد ماتت ومن كان يقدس الوطن فإن الوطن حي لا يموت. الفرز المطلوب اليوم ليس بين المسلم والكافر والنهضوي والندائي واليميني واليساري والأصولي والحداثي فالوطن يتسع لهؤلاء جميعا ولكن الفرز الحقيقي لا يكون اليوم إلا بين الذي يحترم إرادة الشعب المتمثلة في الشرعية الانتخابية والذي يقبل أن يتريث لبضع أشهر حتى يسمح للشعب أن يُفصح عن قوله الفصل بين الفرقاء السياسيين، وبين من لا يقيم لهذا الشعب وزنا ويريد الالتفاف على الشرعية بالمحاولات الانقلابية والتخريبية. الفرز المطلوب اليوم هو بين من يخدم الوطن ويعمل من أجل التسريع في إقرار الدستور والخروج بالبلاد من المرحلة الإنتقالية الهشة وبين من يتاجر بالدماء ويختلق الذرائع الواهية للتعطيل والإفشال ونسف الانتقال الديمقراطي برمته. الفرز المنطقي هو بين من يتواطأ مع قوى الشر والاستكبار وينفذ أجندتها وبين من يقف سدا منيعا أمام استهداف سيادة الشعب وحريته وثورته.  وليذّكر أولو الألباب بأن الزبد يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.