في العمق

بقلم
الهادي بريك
الديمقراطية طريق مسدود

 بين 1990 بالجزائر وبين 2013 بمصر.

الديمقراطية طريق مسدود. خلاصة ظلت تترنح في سنوات طويلات. خلاصة نشأت يوم إنقلب العسكر الجزائري ( 1990 ) على إرادة الشعب في إثر فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ هناك بالبلديات وبنسبة عالية جدا جعلتها مؤهلة للفوز بمثل ذلك بالتشريعيات والرئاسيات فما كان من المطبخ العسكري الجزائري الفرنكفوني متعاونا مع المطبخ الفرنسي إلا إصدار الإذن للدبابات تدوس صناديق الإقتراع. يومها كان إذنا دوليا من أعلى مستوى لإحباط أي محاولة إسلامية ديمقراطية. لا بل دعني أقول : يومها بدأت عورات الغرب تظهر لكل ذي عينين وهو يذرف دموع التماسيح على الديمقراطية هنا ويدوسها هناك. يومها بدأت المنظومة الفكرية الغربية تهتز في عيون أهلها. يومها تلقت أطروحات الإسلام والديمقراطية ضربة نجلاء. ذهبت مدادات كثيرة أهرقها المفكرون. دبابة واحدة بإمكانها نسخ جهود فكرية لعقود ومثلها من الكفاحات الشعبية. 
تحرير المشكلة.
الديمقراطية طريق مسدود ولكن ليس على طريقة السلفية التي تتراوح بين القول بكفريتها أو بدعيتها وبين الإفتاء بعدم جواز إقتباسها فهي بضاعة غربية. لا. تلك طريقة لا تجدر بها سوى المتاحف. الديمقراطية طريق مسدود ولكن ليس على طريقة اللبرالية العالمانية العربية التي تشترط إلغاء الهوية الإسلامية قبل إقتباس النظام الديمقراطي. تلك خرافة حزينة. 
المشكلة يحملها السؤال التالي : كيف إستخدم الغرب عامة ـ وأوروبا خاصة ـ المنهاج الديمقراطي وسيلة للإدارة والحكم والمساواة والكرامة ومفتاحا للعدالة والتقدم والنهضة فكان النجاح الأبهر حليفه في حين أننا إستخدمنا المنهاج ذاته وللغرض ذاته فما قر لنا بالديمقراطية قرار؟ الديمقراطية هي الديمقراطية والغاية هي الغاية. هل للديمقراطية دين؟ كلا. هي سلعة إدارية مثلها مثل السلع المادية الأخرى. هي مقتبس جاهز. هي أنجع دواء ضد التمزق المجتمعي الداخلي عرفته البشرية. تلك هي فلسفتها التي أثمرتها في التاريخ الأوروبي في إثر الخلاف المدمر بين الحكم الكنسي الغشوم وبين الثورة العلمية الصاعدة وكذلك في إثر الخلاف الأرتودوكسي الكاتوليكي الديني الداخلي. هي عنوان التوافق وإدارة الإختلاف بكلمة واحدة. 
هذه مقاربتي.
تلك هي المشكلة التي تواجهها الديمقراطية في الوطن العربي والإسلامي وهي مشكلة لم تنج منها حتى تركيا العريقة في الديمقراطية إذ إنقلب العسكر هناك ضد الإسلاميين بزعامة المرحوم أربكان مرات ومرات بل حاول العسكر هناك الإنقلاب ضد أردوغان مرات ومرات كذلك. أبرز الإنقلابات ضد الديمقراطية كانت في الجزائر ثم في مصر في هذه الأيام. إذا كان المرء يمكن أن يجهد نفسه لتوفير غطاء مزيف يبرر به الإنقلاب الجزائري بسبب إنخرام التوازنات الدولية يومها وحداثة التجربة الإسلامية التي تستأثر بالسلطة فإن المرء يقف حائرا أمام الإنقلاب المصري بسبب أنه في إثر ثورة شعبية. الإسلاميون أنفسهم ليسوا برآء من إيقاع الإنقلابات العسكرية ضد الديمقراطية والحال هو حال السودان في 30 يونيو 1989. والحق أحق أن يتبع.تلك واقعة واحدة على الأقل تجعلني في صف القائلين بأن الديمقراطية عروس ما وفاها حتى اليوم مهرها لا الإسلاميون ولا خصومهم من العالمانيين. ليس هؤلاء بأدنى إلى تلك العروس من أولئك ولا أولئك من هؤلاء. الولاية هنا بالتجربة وليس بالدعاوى.
الهوية الثقافية أولا.
تقوم مقاربتي لمعالجة تلك المشكلة على أساس قوامه أن التجربة الأوروبية لم تستخدم المنهاج الديمقراطي لإدارة الخلاف الداخلي ـ وهو عندهم أحدّ مما عندنا بألف ألف مرة بل هو متنوع جدا من الدين و المذهب إلى اللسان والعرق ـ إلا بعد أن رتبت سقفها الثقافي ترتيبا أضحت فيه الهوية الأوروبية معلومة الأركان ومعروفة التخوم. رتبت تلك الهوية الثقافية الحضارية الجامعة في أوروبا على أساس مركب قوامه أن الهوية نسيج متكافل بين المسيحية من جهة أي بمدارسها الثلاث المعروفة ( الكاطوليك والبرتستنت والأرتودوكس) وبين العالمانية من جهة أخرى وبذا يكون الولاء الأول والأوحد هو للوطن ولاء جغرافيا. يظهر ذلك جليا في التجربة الألمانية التي بناها الزعيم القومي هتلر. وهو قاسم مشترك بين أجزاء أوروبا كلها تقريبا. معنى ذلك هو أن الهوية الثقافية الجامعة هناك كانت حاضنا أمينا للمنهاج الديمقراطي المستورد من التجربة اليونانية لإدارة الخلاف وهو هنا كما أشرت آنفا بإقتضاب أشد مما يتصور فهو ديني ومذهبي ولساني وعرقي ولوني وغير ذلك. تلك هي قراءتي لسر نجاح المنهاج الديمقراطي في أوروبا.
فما هو المقصود إذن.
المقصود من هذه القالة هو أن التجربة الديمقراطية عندنا لن يقر لها قرار إلا بترتيب السقف الثقافي الجامع لتكون الهوية الإسلامية في مكان شبيه جدا بمكان الهوية المسيحية والعالمانية في أوروبا أي شيئا مقدسا وليس بالقانون وحده فحسب ولكن بالتراكم الثقافي والتقليد اليومي والإجماع العملي جيلا من بعد جيل. مقاربتي هي أن لعبة القط والفأر التي تستهدفنا من حين لآخر ـ أي لعبة الإنتخابات التي سرعان ما ينقلب عليها العسكر ـ ليس لها من حل جذري يقطع دابرها سوى ترتيب الهوية ترتيبا تكون فيه بمنأى عن الإختلاف عليها حتى من لدن أعدائها وخصومها ممن تسللت إليهم أوضار المسيحية والعالمانية من التجربة الأوروبية والغربية فكانوا لها عبيدا مأسورين. كل الذي قمنا به حتى اليوم هو ترتيب قانوني ودستوري وليس ذلك هو الترتيب المقصود ولا هو الترتيب الحائل دون الإنقلاب ضد الإرادة الشعبية. أضرب لك مثلا بسيطا جدا. لا تجد مواطنا واحدا في أوروبا ـ ألمانيا مثلا ـ يطالب لا سرا وجهرا بالتشريع الإسلامي أو الدولة الإسلامية أو بدين يكون بديلا عن المسيحية أو بمنهاج فكري يكون بديلا عن العالمانية واللائكية. لا يكون ذلك بسبب إنعدام الحريات التي تذهب إلى حد دسترة المثلية الجنسية برلمانيا ولكن لا يكون ذلك بسبب أن الهوية الثقافية الحضارية الجامعة لذلك الشعب أمر محسوم بالعرف والعادة والتقليد والتراكم الزمني والإنتماء إلى الهوية المستقرة بغض النظر عن إلتزام الناس بها أو عدم إلتزامهم. أما عندنا نحن فلا سبيل ـ في تقديري المتواضع ـ إلى إقتباس منهاج ديمقراطي يؤمن الخلاف الحاد بيننا ويجعله خادما للوحدة الوطنية والسلم الإجتماعية كلما كان التعرض المباشر إلى الهوية الإسلامية بالطعن والإلغاء أمرا ميسورا لا يعاقب عليه حتى القانون بله أن يكون عرفا معروفا وشرطا مشروطا وتقليدا مقلدا راسخا. أساس هذه المقاربة هو أن الديمقراطية ـ بما هي آلية إدارية سياسية بالأساس ـ ليست هي سوى بعد من أبعاد الهوية ومقتضياتها إذ ليست الديمقراطية أصلا لا حضاريا ولا ثقافيا عندنا ولكنها مقتبس ناجع مفيد ولقد أحسنا عندما إستوردنا المقتبس عفوا من حمولاته الثقافية ولكن أسأنا عندما حاولنا إستنباته في أرض لا تقر فيها هوية أهلها إلى قرار مكين. هناك قاعدة أصولية فقهية هنا وهي مفيدة للمهتمين وعنوانها : إذا سقط الأصل سقط الفرع إلا في حالات نادرة جدا حيث يسقط الأصل ويظل الفرع قائما. الأصل هنا هو الهوية وليست الديمقراطية إلا فرعا. الأصل عندنا ساقط ولا أدل على سقوطه من تعرضه إلى نداءات الإلغاء والتحجيم جهارا نهارا ومما لا يقل عن واحد أو إثنين بالمائة من السكان. لا يمكن للديمقراطية في تقديري المتواضع إلا أن تكون عرضة لما تعرضت له في الجزائر قبل أزيد من عقدين وما تتعرض له اليوم في مصر ما لم تحسم قضية الحاضن الثقافي للديمقراطية أي الهوية الإسلامية وهي هوية عربية أو غير عربية بحسب الحالة بين تركيا وإيران مثلا وبين تونس ومصر. مخها هو الإسلام وليس العروبة والعروبة مكون متقدم مهم.
ولكن هناك بديل آخر.
أجل. هناك بديل آخر يضمن للديمقراطية حياتها وفعلها لتكون دواء ناجعا في إدارة الخلاف الذي فطرنا عليه أصلا من لدن الباري سبحانه. هو بديل القوة العسكرية الموالية للهوية الثقافية الحضارية الجامعة أي الإسلام والعروبة وغير ذلك من مكونات الهوية ومركباتها. هو بديل لا غبار عليه البتة من حيث الإمكان النظري ولكن نواله عمليا يتطلب جهودا كبيرة وذكية. هذا الغول العسكري الذي يهدد حياتنا وينسف ثورتنا ويمزق شورانا وديمقراطيتنا .. ألا نستوعبه ليكون عاملا وطنيا وليس عاملا خادما لعدو الأمة من الصهاينة والصليبيين وأزواجهم وأشياعهم. ذلك هو الترتيب الذكي جدا الذي للدستور ـ دستور ما بعد الثورة ـ فيه حظ وافر. الدستور وحده لا يكفي وكيف يكفي وهو عاجز حتى عن تأمين مكان للهوية بحيث تكون بمنجإ من دعوات الإلغاء والسخرية. بكلمة واحدة : تأسيس دولة ما بعد الثورة يتطلب تلك الترتيبات وهي دستورية من جهة وثقافية من جهة أخرى بمثل ما يتطلب ذلك رعاية لتلك الترتيبات وصبرا عليها لعقود طويلات فإذا أثمرت النتيجة جيشا مواليا للوطن والأمة وحارسا للديمقراطية من جهة وهوية لا تتعرض للإسفاف حتى من لدن بغضائها من جهة أخرى .. عندها فحسب يمكن للديمقراطية أن تكون بمنأى عن الإنقلاب ضدها. أي عندها فحسب يمكن التفرغ للنماء وتحسين العيش وتحديات أخرى لا حصر لها. 
كلمة أخيرة.
مركبات مجتمعاتنا هي : الشعب الذي قام بواجبه الثوري فأطاح بالعائلات الفاسدة الحاكمة. الإنتخابات التي أمنت المسار تأمينا جزئيا ظرفيا. الحكم الجديد الذي ظل مترددا بين خيارين ترددا مريبا. فلا كان وفيا للثورة وفاء ملموسا يرضى عنه رجل الشارع ولا تقدم على درب التوافقات الداخلية والخارجية التي يرتبها لأجل حماية الثورة والإرادة الشعبية. ذلك تردد قاتل وليس معنى ذلك الإنحياز إلى هذا الخيار أو ذاك بالجملة والتفصيل إذ كلاهما مطلوب بسبب دقة التوازنات وتشعبها. ولكن المطلوب فعلا هو أن نكون هنا و هناك معا وليس ترددا يحيل الحكم شيئا لا لون له ولا طعم ولا رائحة. العسكر الذي ظل بمثل مجلس الأمن في الجمعية العامة للأمم المتحدة أي صاحب حق النقض. ثم الهوية الإسلامية التي لا تسلم من الشغب وهي مصدر المشروعية كمن يطعن أمه ثم يطمع برضاها. ذلك عبث معبوث. تلك هي المركبات المجتمعية فإما أن تجد لها توافقا معينا أو أن نظل حبيسي لعبة القط والفأر.