تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
يد أمي في الغربال

 قد يفاجأ بما يقدم للأجانب من خدمات سياحية داخلية كل من سنحت له فرصة زيارة إحدى الأروقة التي خصصت لتعرِض على طول السنة مظاهر الحياة التونسية على مر العهود السابقة والتي طبعت سلوكنا وثقافتنا المميزة بالاعتدال والانفتاح. في زيارة لمنتزه مدينة الزهراء بمدينة القلعة الكبرى واكبت وضيوف أجانب عروضا حية للأنشطة الحياتية التقليدية مازالت متواصلة في بعض ربوع البلاد. إن كانت المشاهد أثارت دهشة مرافقي من السياح ودفعهم الفضول وحب الإطلاع لطرح العديد من الأسئلة فقد حركت في شخصيا حنينا بالغا لطفولتي التي عشتها بين دفتي الكتاب الذي فتحه هذا الفضاء الترفيهي. بل أجدني من شخصيات هذا التراث القريب وإن كانت ثانوية. كيف لا وأنا أرى المرأة التي تقوم بقردشة الصوف جدتي وعمتي وخالتي بل أمي التي واكبتها طفلا في التحضير لانعقاد «النقال»  بإخبار جميع النّساء من الأقارب والجيران بالموعد المحدّد له وإعداد ما يلزم من أدوات تتمثل في الأمشاط والمغازل والقراديش، ثم شابا لما كنت أتعرّض لعمليّة التخييط من قبل نسوة «النقال» فلا أفك ذلك الرباط الرمزي إلا بما لذ من حلويات وطاب من غلال.  هذا «النْقال» أو ما يعبر عنه بولايات أخرى “التويزة” هو عبارة عن تجمع بموجب دعوة مسبقة لنسوة للقيام بعمل تّطوعي مشترك لإعداد الصوف أو العولة لإحداهن.

كيف لا يثير فينا هذا الاستعراض للأعمال التقليدية طيفا من ذاكرتنا، نحن الجيل المخضرم الذي تغيرت حياته إلى أطوار مختلفة. فمن الكتّاب حيث كنا نتلو على المؤدب ما كتب على لوح مطلي بالصلصال صارت الكتابة على كراس وبحبر بنفسجي بريشة تختلف حسب لغة الكتابة ثم بقلم يختزن الحبر ومازلت أذكر حبر واترمان ثم الكتابة بالقلم الجاف وها نحن الآن نكتب دون ورق. نعم نحن من الجيل الذي جرى خلف حمار يحمل قلال ماء يتم جلبه من البئر لتأمين الشرب لأفراد العائلة أو يتبعه ممسكا بحمولة من ورق الصنوبر الجاف لاستعماله مواد اشتعال لتحضير الطعام وتسخين الماء للاستحمام. نحن جيل عايشنا عدة انتقالات جعلتنا نفخر بحجم تضحيات آباءنا وأمهاتنا. مازلت أذكرني أتابع حركات أمي حين تهدهد الغربال بحركات منتظمة وعلى إيقاع رتيب تصفف النخالة دوائر وسط الغربال كرغوة فوق سطح الماء. وتمر اليد الآدمية بلطف لتسحب ما طفا من النخالة ثم يقطف بكلتا اليدين ما تجمع منه ليحمل خارج نطاق الغربال. وتعاد الهدهدات والضربات الجانبية المنتظمة والرقيقة لرشح ما تبقى عالقا مندسا بين شذرات السميد والدقيق الجيد. أما لعزل الحبوب الجيدة من قمح أو غيره تكون حركات الغربال بأكثر عنفا تدفع بالحبوب على جوانبه مما يجعل الغربال في حركة دوران بين يدي والدتي. 
ذلك الغربال النشيط الذي يستعمل عادة لإزالة النخالة وتفريق الدقيق عن السميد وغربلة كل أنواع الحبوب واستخراج الحبات المميزة التي تتجاوز أحجامها اتساع العيون هو على لسان والدتي «امتحان يفصل بين الناجح والراسب. ولكل غرض غربال تناسب عيونه وأسلاكه ما يراد تنقيته». فمنذ ذلك الزمان أستحضر الغربال في كل امتحاناتي، وأتساءل كيف أمكن لذلك البدين المرور من ثقوب الغربال التي وجدتها ضيقة. فتعود بي الذاكرة إلى عملية تحويل السميد إلى كسكسي ودور اليد الآدمية داخل الغربال.. فبعد برم حبات السميد المبللة بالماء بواسطة الحركات الدائرية المنتظمة لليدين والمتتالية فوق كدس السميد حتى تصبح الحبات أكبر فيتم غربلتها لفصل حبات الكسكسي بالحبات الأكبر حجما تسمى بركوكش. وكانت والدتي رحمها الله في أخر الغربلة وقصد التقليص من الحبات الأكثر حجما تمرر يدها الطيبة وتحك ما تبقى من حبات البركوكش لتمريرها بين أسلاك الغربال عنوة. كانت اليد لأمي وحركتها عفوية مثلها فهي يد القدر التي مررت حبة دون أخرى.
وما يشغلني اليوم، غربال مازال لم يحدد عدد ثقوبه ولا أحجامها ولم يحدد بعد ما الذي سيغربل. مازال الجميع حيران أي غربال يصلح لتنقية الصالح من الطالح ومازلت أخشى أي يد ستشغل داخله ربانية هي أم شيطانية؟.