الكلمة لأهل الإختصاص

بقلم
د.محرز الدريسي
في استراتيجيات تقييم المنظومة التربوية بعد الثورة

 

في استراتيجيات تقييم

 المنظومة التربوية بعد الثورة

 

 

كل نشاط مجتمعي وإنساني لا بد أن يخضع لآلية التقييم، خصوصا حقل التربية والتعليم لما يمثله من عمق في صياغة ملامح الأجيال وبلورة قيم الشبان وكفاياتهم بما أنهم عماد نهضة المجتمع وتطويره والمساهمة في تنميته. و لا يختلف اثنان في أهمية الرهانات التي تمثلها المنظومة التربوية لكافة الأطراف دون استثناء، والدور التاريخي الذي تلعبه في نسج شبكة القيم والسلوكات الفردية والمجتمعية. إلا أن التربية فكرا وممارسة لم تخضع لدينا لمبدأ التقييم الشامل قبل الثورة ، بل إلى تقييمات مشوهة ومأزومة وأزمتها ببساطة من أزمة الاستبداد السياسي. فلا وجود لتقييمات جدية وعلنية وأفقية بل تتم في دوائر مغلقة ومقفلة لأبواب الحوار والجدل للنظر في اختيارات التربية وجدوى إصلاحاتها و طبيعة مآزقها وصعوباتها،فهي تكاد تكون من "الأسرار" التي لا ينبغي كشفها.

  

(1) منهجيتان للتقييم:

 

توجد قراءة أولى تمجيدية تتمسك بما هو ظاهر من مؤشرات إحصائية كمية تمس (ارتفاع نسب التمدرس- نسب تغطية المدارس لكافة الجهات) وتعتمد كشف المكاسب والانجازات وتضخيمها نلحظها في المواقع الالكترونية الرسمية أو في الوثائق التابعة لوزارة التربية والتكوين حيث تكون كافة المؤشرات في ارتفاع. وهي آلية وخطاب تعودنا عليه في كل المناسبات وموازيا للخطاب "المزركش" بمبررات المحاسن وإنتاج التثمين والتزيين  وهي لا تنفصل عن الآلة الدعائية في شتى المجالات كتعبير عن طبيعة النظام السياسي العمودي والمركزي الرافض لكل  كشف  حساب تربوي والمتبرئ من كل هنة صغيرة أو خطأ أو رهان غالط . فالتربية تتساوق مع بقية الحقول والمجالات فهي لا يرقى إليها التذبذب والاضطراب ولا "يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها"، إنه الاستبداد حين يسكن كل المفاصل ويشلها. ورغم أن (القانون التوجيهي للتربية 2002) خصص الباب التاسع "في التقييم" إلا أنه أطرد منه كل خصوبة سياسية وأفرغه من الرهانات الحقيقية المجتمعية والتاريخية،واختزله في المعايير الفنية والتكنوقراطية الخاصة بتقييم مكتسبات التلاميذ ونوعية التعلمات الحاصلة وأداء الإطار التربوي والمؤسسات التربوية . مما يحرم تقييمات التربية من نجاعتها وتوفير المقدمات التأسيسية لكل تعديل حقيقي ويختزلها في طابعها الأدواتي والموضعي، و يهمش التقييم ويفقده إحدى أبعاده العلاجية والتعديلية والاستباقية.

 

أما القراءة التقييمية الثانية والتي نبحث عنها بعد الثورة المجيدة، أن تعتمد الموضوعية وترصد الثغرات لتجاوزها والهنات لمعالجتها،أي نتحدث لا عن تقييم أحادي بل عن تقييمات متعددة، فهي تشير إلى نقائص أو إلى نتائج محدودة أو تعثرات منهجية مع التطرق إلى ماهية العملية التربوية وجوهر الفعل التربوي. ولابد أن يستند التقييم إلى المقاربة المنظومية في إدراك الأشياء على أنها تندرج داخل منظومة كاملة ومتفاعلة الأجزاء تنتمي بدورها إلى منظومة أوسع و تربط بين هذه الأنظمة الفرعية للحصول على نظام. وهي قراءة تؤلف بين التشخيص والتعديل والإستراتيجية، و تباشر التربية كشأن يهم كافة مكونات المجتمع وتراهن على انخراط كل الفاعلين التربويين والقوى السياسية.

 

(2) معايير التقييم:

 

إن التقييم والمراجعات الإصلاحية آلية دينامية في صلب النظام التربوي، لتيسير المنظومة وتميزها بالمرونة وتتلاءم مع الوضعيات والمستجدات وتؤدي وظيفة معالجة النقائص والانزلاقات في الوقت المناسب. ويعرف التقييم بأنه حكم كمّي أو كيفي على قيمة شخص أو شئ أو تمشّ أو وضعية باعتماد معايير محدّدة، قصد الحصول على معطيات مساعدة و اتخاذ قرار يؤدي إلى تحقيق  هدف. فهو إصدار حكم لغرض ما على قيمة الأفكار والأعمال والطرائق والمواد، و الحصول على معلومات دورية عن مردود أي برنامج تربوي، فالعملية التقييمية منهجية تفحص مدى تحقق الأهداف المرسومة بمعنى أن هناك ارتباطا وثيقا بين التقييم والأهداف المبرمجة فلا تقييم بدون أهداف ولا أهداف بدون تقييم.

فكل عملية تقييم تجيب عن الأسئلة التالية: لماذا نقيم؟ماذا نقيم؟متى نقيم؟ من يقيم؟ والتقييم ليس مجرد وسيلة تطبق في الآن وهنا، بل موضوع تفكير متعدد ومتنوع يسمح بتقييم السياسات والنظم و المسارات و يتطلب منوالا يتماشى مع الموضوع أو مجال التقييم. لماذا نقيم؟ وما الهدف والغرض ؟ هل نقيم لتحليل الواقع أم لتغيير الواقع أم لتكريس الواقع؟ و ماذا نقيم؟ وما هو موضوع التقييم؟ كيف نقيم؟ ما هي المنهجيات؟ وما هي العمليات الواجب القيام بها حتى تتحقق عملية التقييم؟

تلتقي هذه الأسئلة في اعتبار المنظومة التربوية تدخل ضمن مجموعة النظم المفتوحة، إذ تبين الدراسات الحديثة اليوم أن النظام يتميز بتركيبة معقدة تتفاعل مع النظم الأخرى وتتحرك بصفة ديناميكية وأنه لا يتكون من مجموع عناصره بل من الحركية التي يولدها تفاعل هذه العناصر فيما بينها في إطار نظام يشتغل في تراشح مع النظم الأخرى. وللإجابة عن هذه الأسئلة توجد عمليتان للتقييم إما منهجية قبلية حيث تجميع المعطيات والبحث عن الموضوعية وتشخيص الحالة التربوية وما تنطوي عليه من مكونات وإما منهجية بعدية  حيث مقارنة المعطيات المجمعة مع محكّات يتفق عليها. ويتم التقييم  وفق مرجعيات ( قيم الثورة- القانون التوجيهي...) حيث ينطلق من الأهداف التي ضبطها النظام نفسه فلا يمكن أن نقيم نظاما دون العودة إلى أهدافه، كما يقارن مع المحكّات العالمية المعترف بها حتى يتم تمعين النتائج والأرقام، فالتقييم لا يكون في المطلق. وينجز قبل الشروع في تجربة تربوية وفي وسطها وبعد التجربة مما يجعله سياجا منهجيا وضمانا للنجاعة التربوية.

 ولا تنفصل العملية التقييمية عن المتابعة الاسترتيجية ولوحة المؤشرات الدالة على تقدم البرامج والتجديدات في كافة مكونات المنظومة التربوية، و المؤشر هو العنصر الملموس الذي يدرك من

      

                خلال النشاط المنجز فهو واقع ملموس. ويمكن ضبط المؤشرات التالية في التقييم:

- نوعية الحياة المدرسية : العلاقات والتواصل الداخلي (العنف المدرسي مثلا)

- النجاعة: توظيف المكتسبات والكفايات في الوضعيات الحقيقية

- الإنصاف: مبدأ العدالة بين الجهات والمؤسسات والتلاميذ

- التعلمات: ملامح المتعلم

- المشاركة في الشأن العام (ثقافي- سياسي...)

 

كسر احتكار التقييم:

 

والتقييم الذي نطمح إليه- بعد الثورة- أن يتجاوز ضيق الأفق والاحتماء بالأرقام والتواري خلف التكميم ، ولذلك لم نتناول الإحصائيات والأرقام بالتحليل والمقارنات لأنها يمكن تنسيبها ونقدها وإبراز ثغراتها وتضارب مؤشراتها، بل أردنا أن نبين أن التقييم فيه جوانب تقنية وعلمية وكمية ولكنه يأخذ أيضا منحى سياسيا . فالتقييم التربوي لا يقتصر على التقييم المنظومي أو التشخيصي أو المقارن بل يشمل "التقييم التكويني" بدلالاته السياسية والقيمية مما يثري جدل البرامج والتصورات ويحدث دينامية في المنظومة التربوية ويساهم في "تهوئة" مناخها بإدخال دماء جديدة. فالتربية مجال عمومي لا يعد حكرا لأحد ولا من مشمولات جهة دون جهة بعينها ولا جماعة مخصوصة ولا حزب سياسي بعينه،إنها فضاء مجتمعي وقيمي يختزن رهانات ويكتنز غايات إستراتيجية. ويعد التقييم مدخلا ومنهجا لترتيب البيت وكسر الاحتكارية، فالتربية شأن عام يمس أبناءنا وكل أفراد أسرنا ومجتمعنا ولعله إحدى الحقول التي ينبغي أن يكون شفافا تماما وشموليا ومشتركا. وأنه مثلما تم الإقرار بأن الخطأ حق للتلميذ وأن الخطأ أداة للتربية، فلما لا نعتبر أن الخطأ أو المراجعات والتغييرات والتبديلات تزيح الشجرة التي تخفي الغابة والغابة لا تخيف إلا مقاولي الإصلاحات المفروضة. فتقييمات الحقل التربوي المطبقة وكأنها موجهة للخارج ومهتمة بالعولمة والتأقلم مع متطلباتها والاستجابة لضغوطاتها أكثر مما هي موجهة للداخل ولأبناء البلد. واقتفاء خطوات الإصلاحات الخارجية دون الحرص على "تبيئتها" في المناخ التونسي والتربة الوطنية أو توفير المقدمات الضرورية لإنجاحها بعيدا عن الارتجالية .

ويحتاج الفعل التربوي إلى الجدل والإسهامات وإثراء وجهات النظر فهو واقع في تناقض بين عنصرين متقابلين هما الأنسنة من جهة والجمعنة من جهة أخرى، بعبارة أخرى هل يجب أن نربي الفرد لكي يتشبث بعمق حريته الشخصية أم على العكس من ذلك لكي يعمل وفقا للمجتمع الذي ينتمي إليه؟ إنها أسئلة تتكرر باستمرار ما لم يهم الجسم المجتمعي بمقاصد التربية، ولا يتعاطى معها كمجرد "طبخة داخلية". إذ لا بد من تشريك كل الأطراف السياسية والمدنية والمختصة في التصور والتخطيط والتقييم. ولذا فمن حق وطننا بعد أن تحرر من الاستبداد، ومواطنينا بعد أن استنشقوا نسائم الحرية والكرامة أن يساهموا في التقييمات، ويشاركوا في بلورة الاستراتيجيات التربوية من خلال هيكل مجتمعي يضم كافة الأطراف والفاعلين يضبط معايير ومؤشرات التقييم والمراجعات ونجاعة الاختيارات. ونرغب أن تتخلى الوزارة عن احتكار ضبط الأهداف وإبراز سبل انجازها وتقيمها بمعزل عن حيوية المجتمع، مما جعلها- في الفترة السابقة-  تنكمش في فضاء "الخبراء" فحسب، وهو ما أفرز غياب المبادرة وسيطرة الاتكال على المناشير والمذكرات الرسمية وانعدام التجديد البيداغوجي والإداري وشيوع التبلد لدى الناشئة. و هو ما لا يمكن اختراقه إلا بأن تعود الأمور التربوية تخطيطا وتقييما وتجديدا ومراجعات إلى مساحات الحوار حول مشروع تربوي وطني جامع ومحفز. خلال النشاط المنجز فهو واقع ملموس. ويمكن ضبط المؤشرات التالية في التقييم:

- نوعية الحياة المدرسية : العلاقات والتواصل الداخلي (العنف المدرسي مثلا)

- النجاعة: توظيف المكتسبات والكفايات في الوضعيات الحقيقية

- الإنصاف: مبدأ العدالة بين الجهات والمؤسسات والتلاميذ

- التعلمات: ملامح المتعلم

- المشاركة في الشأن العام (ثقافي- سياسي...)

 

(3) كسر احتكار التقييم:

 

والتقييم الذي نطمح إليه- بعد الثورة- أن يتجاوز ضيق الأفق والاحتماء بالأرقام والتواري خلف التكميم ، ولذلك لم نتناول الإحصائيات والأرقام بالتحليل والمقارنات لأنها يمكن تنسيبها ونقدها وإبراز ثغراتها وتضارب مؤشراتها، بل أردنا أن نبين أن التقييم فيه جوانب تقنية وعلمية وكمية ولكنه يأخذ أيضا منحى سياسيا . فالتقييم التربوي لا يقتصر على التقييم المنظومي أو التشخيصي أو المقارن بل يشمل "التقييم التكويني" بدلالاته السياسية والقيمية مما يثري جدل البرامج والتصورات ويحدث دينامية في المنظومة التربوية ويساهم في "تهوئة" مناخها بإدخال دماء جديدة. فالتربية مجال عمومي لا يعد حكرا لأحد ولا من مشمولات جهة دون جهة بعينها ولا جماعة مخصوصة ولا حزب سياسي بعينه،إنها فضاء مجتمعي وقيمي يختزن رهانات ويكتنز غايات إستراتيجية. ويعد التقييم مدخلا ومنهجا لترتيب البيت وكسر الاحتكارية، فالتربية شأن عام يمس أبناءنا وكل أفراد أسرنا ومجتمعنا ولعله إحدى الحقول التي ينبغي أن يكون شفافا تماما وشموليا ومشتركا. وأنه مثلما تم الإقرار بأن الخطأ حق للتلميذ وأن الخطأ أداة للتربية، فلما لا نعتبر أن الخطأ أو المراجعات والتغييرات والتبديلات تزيح الشجرة التي تخفي الغابة والغابة لا تخيف إلا مقاولي الإصلاحات المفروضة. فتقييمات الحقل التربوي المطبقة وكأنها موجهة للخارج ومهتمة بالعولمة والتأقلم مع متطلباتها والاستجابة لضغوطاتها أكثر مما هي موجهة للداخل ولأبناء البلد. واقتفاء خطوات الإصلاحات الخارجية دون الحرص على "تبيئتها" في المناخ التونسي والتربة الوطنية أو توفير المقدمات الضرورية لإنجاحها بعيدا عن الارتجالية .

 

ويحتاج الفعل التربوي إلى الجدل والإسهامات وإثراء وجهات النظر فهو واقع في تناقض بين عنصرين متقابلين هما الأنسنة من جهة والجمعنة من جهة أخرى، بعبارة أخرى هل يجب أن نربي الفرد لكي يتشبث بعمق حريته الشخصية أم على العكس من ذلك لكي يعمل وفقا للمجتمع الذي ينتمي إليه؟ إنها أسئلة تتكرر باستمرار ما لم يهم الجسم المجتمعي بمقاصد التربية، ولا يتعاطى معها كمجرد "طبخة داخلية". إذ لا بد من تشريك كل الأطراف السياسية والمدنية والمختصة في التصور والتخطيط والتقييم. ولذا فمن حق وطننا بعد أن تحرر من الاستبداد، ومواطنينا بعد أن استنشقوا نسائم الحرية والكرامة أن يساهموا في التقييمات، ويشاركوا في بلورة الاستراتيجيات التربوية من خلال هيكل مجتمعي يضم كافة الأطراف والفاعلين يضبط معايير ومؤشرات التقييم والمراجعات ونجاعة الاختيارات. ونرغب أن تتخلى الوزارة عن احتكار ضبط الأهداف وإبراز سبل انجازها وتقيمها بمعزل عن حيوية المجتمع، مما جعلها- في الفترة السابقة-  تنكمش في فضاء "الخبراء" فحسب، وهو ما أفرز غياب المبادرة وسيطرة الاتكال على المناشير والمذكرات الرسمية وانعدام التجديد البيداغوجي والإداري وشيوع التبلد لدى الناشئة. و هو ما لا يمكن اختراقه إلا بأن تعود الأمور التربوية تخطيطا وتقييما وتجديدا ومراجعات إلى مساحات الحوار حول مشروع تربوي وطني جامع ومحفز.