تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
كش... مات

 أعيش منذ مدة على إيقاع كر وفر أتابع مثل كل التونسيين نقل القطع على رقعة الشطرنج بين لاعبيْن من الحجم الثقيل وكنت أشارك في تفاعلات المتفرجين منتقدا أحيانا ومستحسنا أحيانا أخرى. 

تنازع عدد من اللاعبين في ما بينهم وأسروا النجوى وجُعل بَيْنهم مَوْعِدًا لمْ يختاروه ولم يِخْلِفُوه مَكَانًا سُوًى. فحشر الناس ضحى حول الحلبة حيث تواعدوا دون ميعاد. ودخل لاعبان الحلبة مصحوب كل منهما بفريق المستشارين والمعاونين وانقسم الفريقان إلى جانبي رقعة شطرنج كبيرة اصطفت عليها القطع بأحجامها الكبيرة في مواضعها الأولى واشرأبت الأعناق استعدادا لنقلة البداية.
مباراة اليوم ليست ككل المباريات حيث تجمع فريقين تعادلا في حذق أصول اللعبة وقواعدها واستعان كل منهما بعدد من المختصين والفقهاء في الميدان كما استنصر كلاهما بعدد غير صغير من المشجعين احتلوا أماكنهم بمدارج الحلبة يهيجون ويموجون عند كل نقلة صديقة ومعادية. ووسط المتفرجين ورغم الهرج والمرج كنت مبتهجا بمتابعة اللعبة التي طغى عليها الاعتدال والتساوي في النتائج. ويستخلص من ذلك حنكة المتبارين والمتنافسين وعمق التجارب والنماذج التي تم دراستها والاستفادة منها.
طالت أشواط اللعبة وكثر التشويق والتجاذب بين المتنافسيْن لحسن استعدادهما وربما لقراءتهما لنفس المصادر في فنون اللعبة مما جعلهما يدركان نوايا المنافس فيحسبان لها ألف حساب فلا تتحرك القطعة إلا بعد مشاورات بين المستشارين وعند الاختلاف يتم التصويت على ما تم إقراره. وكنب مبتهجا بالعمل الدءوب لخلية النحل التي لم تكن غايتها إقناع المتفرجين الذين تجمعوا وانقسموا حسب الانتماء بقدر ما كان غرضها إلغاء الآخر بموت الملك. فكانت موجات ارتدادية إيجابية تنطلق من جهة المدارج تدعم القرار وتستحسنه وسرعان ما تواجهها موجات عكسية من الجهة الأخرى تنتقد هذه الحركة وتبعاتها.  ولما غلب عليهما سير الزمن الذي سارع بحلول الليل وباغت اللاعبيْن والمشاركين في المباراة، أثار المتفرجون ضجيجا وتصفيرا طلبا بتعليق المباراة ليوم غد والتسريع في إنهاءها. وتم الاتفاق على ترك الرقعة على الحالة التي عليها إلى ضحى اليوم التالي وغادر الجميع ووضع الرقعة ومواقع القطع من البيادق أو الملكين لم تغادر ذاكرة اللاعبيْن والمستشارين. 
 تفرق الجميع ليعيدوا الاجتماع تحت ستار الليل. ولكن الليل الذي فقد ظلمته في عديد البلدان التي افتقد سكانها رؤية أنوار السماء، لم يعد ساترا لأسرار العباد وأصبحت الشائعات أكثر انتشارا. فبسرعة الضوء، منذ أن تطبخ خلال سهرات احتفالية بردهات وصالونات الفنادق الفاخرة إلى أن تقرأ على صفحات الواب في ركن من أركان بيت متواضع بريف من الأرياف، ينتشر الخبر بأوجهه المختلفة بين الجميع حتى تبلغ من جديد صاحب الإشاعة الأولى فيُقذف بوابل من هذه الأخبار والتعاليق حولها.  ويوصِل المجتمعون الليل بالنهار منهمكين في حبك المكائد للمنافس للإحاطة بالملك ويجتهد الجميع في جر الخصم للوقوع في الفخ الذي أعد له. هذا طبيعي لا ننسى أنها لعبة شطرنج وهذه أصولها.
أصبحت وسائل الاتصال تساعد على قراءة احتمالات ردود فعل المنافس وتستغل هذه الوسائل في ما يسمى بحرب الاستعلامات، ولكن ماذا يحصل لما يحذق الطرفان نقس التقنيات ويعتمدان نفس المراجع. هذه صورة ما حصل لما اتفق فريق على أن يستدرج المنافس للإحاطة بالفرس الذي سيدفع به لمهاجمة الرخ. فإن طمع وتجرأ وطلب النيل من الفرس، تكون بداية النهاية للعبة طالت وأثخنت الأجساد والقلوب بالجراح ويحين «الكش مات» للملك الخصم. وقد بدأ المستشارون في تأمين الاتصالات السرية مع الأطراف المقابلة. وبعد عدة محاولات تلقوا إشارة هاتفية تقول مباشرة  «إن كان الأمر بخصوص الفرس فالجواب لا» وقفل الخط. وبهت الذي قُرأت أفكاره عن بعد.  وفي حين كان البعض منشغلين بتأمين هذا الاتصال كان آخرون  قد استشعروا اتصالات من نفس الجهة تستخبر عن احتمالات تم مسبقا مناقشتها والحسم فيها.
هذا الصراع دام مدة طويلة بين لاعبين استفادوا من الخبرات السابقة وتشبعوا بحيل ابن المقفع. وإني حقيقة مبتهج بتعادل الفريقين الذين أمنا الاستقرار في وسط الرقعة لا غالب ولا مغلوب ولا أحد أمكنه السيطرة على الآخر التي كانت غاية كل منهما.
المهم، أنني ارتحت للاعتدال الذي أمّن نفسه بنفسه كنتيجة للمباراة وتأكدت من أن المتنافسيْن ومستشاريهما عراة أمام متفرجين واصلوا القراءة ولم يتوقفوا عند  كليلة ودمنة بل استفادوا من حكم جحا وكذلك جورج أورويل في ضيعة الحيوانات.