مقالات في التنمية

بقلم
محمد الشّيخ
تونس الخيارات الاقتصادية : فشل منوال التنمية وافاق ما بعد الثورة (3)

 قدّمنا في الجزء الأول من المقال نظرة تاريخية للمراحل والخيارات الاقتصادية التي عرفتها البلاد التونسية والتــــي كان لها شديد الاثـــر على نمط المجتمع حيث تحققت نجاحات على مستوى العيش رافقتها اخلالات أدت إلى أزمات اجتماعية وسياسية خطيرة كادت تعصف باستقرار وأمن البلاد. وفي الجزء الثاني سلّطنا الأضواء على الخيارات المطروحة في برامج أهم الأحزاب السياسية بعد الثورة ومنها حركة النهضة والتكتّل من أجل العمل والحرّيات والحزب الجمهوري وحزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة وحزب العمال الشيوعي التونسي. ونختم اليوم بعرض للخيارات والتوجّهات في قانون المالية لسنة 2013 ثم طرح خيارات الاصلاح الممكنة من وجهة نظرنا.الخيارات و التوجهات في قانون المالية 2013 :       

« Go & Stop »
من الخطا البحث أو تحسس منوال تنمية جديد في طيات ميزانية 2012 أو ميزانية 2013  ذلك أنه من شأن اعداد مثل هذا القانـون في هذه الفترة الانتقالية وضع اجراءات اسثنائية  لاعادة دفع الاقتصاد من خلال حلول تقنية أكثر منها ثورية و أن البحث عن اعادة التوازن للمالية والاقتصاد التونسي يكون مسبقـــــا عن أي خيارات جديـــدة  أو رؤية مغايرة. وقد عبر واضعي قانون المالية 2013 عن اختيارهم  لنظرية «Go & Stop» والتي يمكن القول أنها  اعتمدت كفلسفة عامة لميزانية 2012  نلخصها في النقاط التالية: 
• الترفيع الوقتي وبما يرتبه مـــن نتائج  في نفقـــات الاستثمار على حساب نفقات التسيير.
• التحكّم في عجز الميزانية إلى حدّ ومستوى مقبول.
• تحمّل حدّ مديونية على المدى المتوسط.
• الهدف: تحفيز وتنشيط الاقتصاد.
تقييم نتائج السياسة المتبعة بميزانية 2012.
رغم أنه لا يمكن الحديث عن منوال تنموي أو خيارات كبرى لتأسيس منوال جدّي في ميزانية وضعت للفترة الانتقالية  حيث كان المطلوب منها مواجهة الصعوبات وإعادة تحفيز الاقتصاد، و لذلك يمكن اعتبار النتائج المسجلة في نهاية سنة 2012 ، نتائج مشجعة حيث تمكنت تونس من إعادة انطلاق انعاش الاقتصاد  بـ +2.1٪، +18.8 في قطاع المعادن، مع بداية رجوع الاستثمار وانخفاض طفيف في مستوى البطالة ...
ورغم ذلك بقيت البيئة الاقتصادية تتميز بالرّكود، خاصة مع هشاشة المحيط ويرجع ذلك إلى  حذر أوروبا من المراهنة على الاستثمار أكثر في تونس وعدم استقرار سوق النفط بالإضافة إلى الهشاشة الواضحة للنسيج المؤسساتي وانخفاض قيمة الدينار وارتفاع نسبة  التضخم وعجز الميزان التجاري....
ونتيجة لكل هذا، يمكن القول أن التوجهات والاختيارات التي ميزت ميزانية 2012 لم تأت بالنتائج المرجوّة منها وأنّ التحفيز والانعاش المرجو للاقتصاد التونسي  لم يبلغا المستوى المطلوب.
محاور الطموحات بميزانية 2013:
تتميّز أهم المحاور التي تتّجه اليها ميزانية 2013 كسابقتها بالطموح:
•        دعم القدرة التنافسية للمؤسسة
•        اجراءات ذات الطابع الجبائي لاهداف اجتماعية ( برنامج السكن الاجتماعي).
•        تسوية وضعية الأعوان العموميين المنتفعين بالعفو العام.
•        اجراءات لفائدة الكافلين للأبناء المعاقين.
•        دعم الشفافية والمنافسة النزيهة والتصدي للتهرّب الجبائي.
•        الإصلاح الجبائي وإحكام الاستخلاص.
•        حسن سير عمل الجباية.
•        موارد اضافية لتغطية الدعم.
خيارات الاصلاح الممكنة  : 
لا يمكن الوصول إلى حلول جدية وفعّالة ووضع خيارات ناجعة لانقاذ الاقتصاد التونسي والتأسيس لمنــوال يستجيب لأهداف الثورة من دون معاينة حقيقية للوضع الحالي ورصد الصعوبات الحقيقية.
ذلك أن هذه الصعوبات الأساسية متنوعة ومتعددة ، إضافــــة إلى أنها متقاطعة وعلى درجة من التعقيد. فهي ذات طابع اجتماعي وتاريخي من حيث مساهمة تراكمات المراحل التي مرّ بها الاقتصاد التونسي في تعقيد الوضع إضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة إلى درجة غير معهودة و مرشحة لمزيد الارتفاع بالنظر إلى النظام التعليمي وعدم تناسقه مع متطلبات سوق الشغل .
كما أن تراجع مساهمة الفلاحة في الاقتصاد و التفاوت بين الجهات وتآكل الطبقة الوسطى، يزيد من تعقيد مهمّة ايجاد الحلول الكفيلة بانعاش الاقتصاد التونسي في ضلّ نظام جبائي يعاني تهرّب ضريبي بشكل غير مقبول ومعهود، أصبح واضحا اليوم انه لم يعد ملائما ولا هو يستجيب للمرحلة المقبلة ولا يساعد على تحقيق الإصلاح المنتظر.
ومن أجل ذلك، كانت التحديات المطروحة بصفة ملحّة تتمثّل اساسا في ضرورة الوصول إلى إيجاد التمويلات الضرورية وخاصة منها الذاتية للترفيع في الميزانية  في مرحلة أولى ثم العمل على التصرّف في صرفها وتحقيق الاستغلال الأمثل  لهذه الموارد  للوصول إلى  إعادة التوزيع العادل لثروة وهو أبرز اهداف الثورة .
ولتحقيق الاستقرار الاجتماعي الذي سيوفّر بيئة سليمة للاستثمار، فإنه من الضروري التمكن من التحكم في نسبة التضخم  بل وإيجاد الحلول والآليات الفعّالة للتحكم فيها، بالاضافة الى حلول جدية وممكنة للرّفع في مستوى المعيشة  وتحسين الخدمات الاجتماعية،   
إن الوصول إلى رفع هذه التحديات لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بتحديد المحاور التي يمكن أن نعمل عليها سواء على المدى القصير أو على المدى المتوسط :
فأمّا على المدى القصير فإن الأمر يتّجه نحو اتخاذ حلول مستعجلة تمكّن من إعادة التوازن للاقتصاد وهي تبدأ أساسا من الإصلاح الجبائي بالشكل الذي يمكّنه من تحقيق نسبة أكبر من القيمة المضافة وهذا ممكن إذا ما نظرنا إلى الفرص الضائعة والمهدورة التي يستقطبها الاقتصاد الموازي بالنظر إلى الكمّ الكبير من التهرب الجبائي من جهة  والقطاعات التي لا زالت  تتمتع بالنظام الجزافي رغم تطوّر نسبة ربحها بنسب عالية من جهة أخرى حيث أن خضوع هذه القطاعات للنظام الحقيقي أصبح ضروريا  بل واجبا وطنيّا .
أما عن المحور الثاني، فإنه يتمثّل في ضرورة تغيير بنية النظام المالي ، حيث أصبح جلياّ و واضحا أن مؤسسات القرض لن تتمكّن من دفع الاستثمار بالشكل والحجم الذي نأمله بالنظر خاصة إلى المشاكل الهيكلية التي يعيشها القطاع وتخبطه  في الديون المتعثرة . فأصبح من اللازم البحث عن طريق آخر لتمويل الاقتصاد و دفع الاستثمار مع تجنب السقوط في اغراق السوق بالاستثمارات الاجنبية الريعية منها خاصة و انعكاساتها السلبية على المستوى الاجتماعي والسياسي والسيادي .
لذلك، فان الحلّ الأمثل للتمويل، يكون بالرجوع للسوق المالية التي لا تموّل الاقتصاد حاليا إلاّ بنسبة 5 % فقط . ويمكّن هذا التوجه من فرض الشفافية المالية في نفس الوقت ، مما ينعكس ايجابا على شفافية السوق وثقة المستثمر.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه من الضروري لبلد مثل تونس أن يستغلّ نقاط قوته الاستغلال الأمثل، و هذا ما يوفره قطاعي الفلاحة و التصدير فهي قطاعات استراتيجية وذات قيمة مضافة عالية .
أما على المدى المتوسط، فإن الاقتصاد التونسي يقع من جهة أمام حتمية وضع الأطر القانونية لضمان الشفافية المالية للسوق والعمل على دفع المبادرة الفردية  والتشجيع على بعث المشاريع والانتصاب الفردي ولن يكون ذلك ممكنا إلاّ بوضع قوانين استثمار موجهة بحسب الأهداف ومتماشية مع المرحلة. ومن جهة أخرى، فإنه يتوجّب دعم المؤسسات الصغرى والمتوسطة والرفع من مستوى دور السوق المالية في تمويل المشاريع مع ضرورة تشجيع الاستثمار في المجال الفلاحي  .
ختاما يمكن القول أنه من الخطا ألاّ نثق في قدرة الاقتصاد التونسي على تحقيق المعجزة بالموازاة مع تحقيق أهداف الثورة والتي يعبّر عنها اقتصاديا فقط بمفهوم العدالة الاجتماعية وهي الكامنة في ثنايا القوانين المالية والجبائية بإعادة توزيع الثروة وهي الكفيلة بتحقيق السلم الاجتماعي والاستقرار والأمن الذي لا يمكن أن تحققه جيوش جرّارة من البوليس والعسكر.