الادب الهادف

بقلم
جيلاني العبدلّي
عوضَ أن تبكي أمّي فلتبكِ أمهاتُ الآخرين

 خلال السنة الدراسية 1980- 1981 شهدتْ المعاهد الثانوية بمدينة باجة إضرابا تلمذيّا شاملا توقّفت على إثره الدراسة وقد كان من نشطائه والمحرضين عليه. كان تدخلُ البوليس لفضّ الاحتجاجات عنيفا، حتى أنّ التلاميذ شُرّدوا في التلال وتحصنوا بالمرتفعات المحاذية للمدينة إلى حين انسحاب قوات الأمن المرابطة حول المعاهد. 

ولما كان بصدد عبور وسط المدينة، متوجها إلى منزل أحد أقاربه حوالي الساعة الحادية عشرة، استوقفه في نهج باب الجنائز زميلان له في الدراسة، وجعلا يخوضان معه في أمر الإضراب، وبمجرد انصرافهما، أمسك بالشاب عونا أمن بالزي المدني، وسرعان ما تعززا بآخرين، وأحكم أحدهما قبضته في حزامه من الخلف، وحوّلوا وجهته إلى سيارة مدنية رابضة على مقربة من ضريح الولي الصالح سيدي بوتفاحة، وزجّوا به داخلها، وتنافسوا في رفسه، وشنّفوا أذنيه بسمج الكلام وسوقية الألفاظ ، وهم يتوعدونه بالويل والثبور، ثم انطلقوا به إلى مقر فرقة الأبحاث بمنطقة الأمن الوطني.
حين وصلوا، دفعوا به أمامهم في اتجاه المدخل الرئيسي وهم يعنفونه، منهم من يلطمه من الخلف، ومنهم من يضربه بأمّ يده بين كتفيه، ومنهم من يركله بحذائه الناعم.
أدخله عونان لطيفان إلى غرفة الإيقاف، وأفرغا في جسمه النحيف جامّ غضبهما، وتركاه طريحا على الأرضية الملوثة، ثم أغلقا الباب خلفهما، وغادرا.
 هي نفس الغرفة المشؤومة التي سبق له أن حُبس فيها، مازالتْ غرفة لائقة جدا ببني البشر كسابق عهده بها، مازالتْ محافظة على طابعها المقرف، وروائحها الكريهة، وضوئها الخافت، وفراغها القاتل.
مكث هناك مُطرقا تارة، مُحملقا في الفراغ أخرى، وهو يسترجع ما عاشه فيها من ذكريات سيئة، ويتصفّح ما انطبع في ذاكرته من صور قاتمة. 
مكث على تلك الحالة زمنا طويلا جاوز الساعة الثانية بعد الظهر، دون أن يُفتح باب غرفته، فسبح في خيالات مخيفة أيما سباحة، وتهاوت أمامه كوابيس مُرعبة، من وحي ما يُشاع من أهوال دهاليز التعذيب وفنون الحطّ من الكرامة الإنسانية.
وبينما هو على تلك الحالة من العطش والجوع والإنهاك والتداعي والوساوس والمخاوف، دخل عليه عونان، وجعلا يسألانه: 
ما أسماء من كانوا يحرضّون على الإضرابات؟، 
ومن كانوا يقفون معه في نهج باب الجنائز؟، 
وأين كان يتّجه في تلك اللحظة؟.
 ولما كانت إجاباته عامة وغير دقيقة، انقضّا عليه تعنيفا على كامل أنحاء الجسد وأشبعاه إذلالا بغريب الألفاظ وفاحش الأقوال، ثم انصرفا وهما يتوعدانه بمشوار مشؤوم لم بعرفه في حياته وأغلقا خلفهما باب غرفته، وظل دامع العينين، مكروبا، مرتبكا.
لقد شب في نفسه إحساس بالقهر، وانطبعت في ذهنه صورة شيطانية لعون الأمن في وطنه، وخُيّل إليه أنّ عجلة الزمان يُحكِم دورتها البوليس، فالدقائق كانت تمرّ كأنها أيام، والساعات كانت تمرّ كأنها أعوام. 
 
في حدود الساعة الخامسة، فتح أحد الأعوان الباب بعنف وخاطبه بخشونة واقتضاب قائلا: 
"تعال معي"
 فانتابته رجفة ومشى خلفه متهالكا، وإذا به في مكتب رئيس الفرقة الذي بدا هادئا على غير فظاظته وطالبه بالجلوس فجلس.
ثمّ قال له: 
"في السنة الفارطة، حين عرضتُ عليك المساعدة لأجنّبك أناسا في قلوبهم مرض لم تكن عند حسن الظن وها أنت تقع في حبالهم من جديد وتشاركهم بثّ الاضطرابات وتهديد الأمن"،
 ولما همّ بمقاطعته ليدفع عنه تهمته التي تضمنها كلامه لم يُتح له الفرصة واسترسل يقول:
 " حين تخبرنا بأسماء الأشخاص الذين يهددون الأمن والمصلحة العامة فإنك لا تكون قد أتيت عملا قبيحا، فالمثل يقول:
 "عوض أن تبكي أمي أنا فلتبك أمهات الآخرين".
 هذه حكمة الأجداد وليس كلاما من عندي، أنت شابّ طائش لا تحسن التقدير والتدبير، والمحترفون حين يفعلون فعلتهم يفرّون من الوهلة الأولى ويقع أمثالك في الفخ، فلماذا لا تحمي نفسك من هؤلاء الأشرار حتى لا تجني جريرة أعمالهم، بإمكانك ذلك، الأمر بسيط، تخبرنا بأسمائهم، ولا تخش في الأمر شيئا، لن نصرّح لأحد بما تخبرنا به، هذا سرّ نحفظه لك، نعدك بذلك، وإذا خشيتَ أن يرصد البعض تردّدك علينا، أعطيتك رقم هاتفي وليكنْ التواصل معك عن بُعد، الأمر في غاية البساطة وأنا أريد حمايتك، وإذا احتجت مساعدة ساعدتك، أما إذا كنت دون المستوى ووقعت مرة أخرى في قبضة أعواننا سأكون عندها مضطرا لتطبيق القانون ولن ينفعك الندم، أنا أخاطبك في محل والدك وهذه فرصتك الأخيرة، خذْ، هذا رقمُ هاتفي، اتصل بي إذا فضّلت عدم القدوم إلى هنا، يكفي أن تحدد أسماء المشاغبين وفصولهم، ونحن نأخذ الإجراءات اللازمة، ونؤمّن لكم السير الطبيعي للدراسة، وفي ذلك مصلحة الجميع بما في ذلك مصلحتك، أتممْ دراستك وأثلجْ صدريْ والديْك، ثم اخترْ بعد ذلك الطريق الذي تراه مناسبا.
كان الشّابّ مطرقا أمامه وهو يحشو رأسه بخطاب طويل فهم غايته من مقدمته ، غايته أن يكون مخبرا للبوليس، يُحصي أنفاس النّشطاء من  زملائه التلاميذ، ويبلّغ غنهم في الحال قبل فوات الأوان، هذا بالضبط هو المطلوب.
تسلّم جذاذة خُطّ عليها رقمُ الهاتف، ودسّها في جيبه، وانصرف، وقد بدا رئيس الفرقة مرتاحا لتأثير مواعظه في نفسه ولما لاحظه عليه من علامات التجاوب.
غادر الشاب وهو يستمدّ قدرته على الحركة من سعادته الغامرة بحدث خروجه من المحنة بأخفّ الأضرار وهو يردّد قول الله تعالى: "ولا تحسبنّ اللّه غافلا عمّا يعمل الظالمون"