كلمة وكفى

بقلم
عادل دمّق
الاسلاميّون والإبداع....

 لا علاقة للإسلاميين بالإبداع؟....

هذا الحُكم يشترك فيه بعض القائلين من الداخل والخارج وهو ما يجعلنا نتساءل: هل هو حُكم نُقادِ متخصصين أم هو حُكمٌ سياسي وإيديولوجي؟ والمثير للإنتباه هو تزامن صدور مثل هذا القول في الداخل والخارج...ولكن الذي يجعلنا لا نطمئن لمثل هذا القول هو صدوره عن غير متخصصين في النقد بل عن أسماء معروفة بمواقفها الايديولوجية المتوترة ـ ولا حاجة لذكر الأسماء ـ ... هذا القول الذي سمعته مرتين وفي أسبوع واحد من قِبل شاعر مصري وآخر تونسي جعلني أفكر بجدية هل فعلا ليس للإسلاميين علاقة بالإبداع؟ والحقيقة أن التساؤل لم يكن بدافع الشك وإنما بدافع الرغبة في الرد على هؤلاء... أعرف أن أصحاب مثل هذا القول ينطلقون من أوهام حداثية تقدمية يزعمون امتلاكها وينطلقون من عقدة استعلائية تجاه غيرهم يتهمونهم بالرجعية والظلامية والقروسطية... حين أقرأ أشعار أبي القاسم الشابي أكتشف بأنه إسلامي إلى النخاع إذ ينبع شعره من معين عقدي توحيدي صافٍ نضّاخ ومن روحانية إيمانية متقدة ...إن ثورية الشابي ووثوقيته الإنتصارية إنما تصدر عن إيمان المسلم بحتمية انكسار القيود وانقشاع الظلمة وإن روحه التحررية المتمردة إنما تستمد وهجها من نور الله ووحيه... الشابي ذو التعليم الزيتوني كان شابا مُثقلا بروح القرآن التحررية وكان مسكونا بالصور الجميلة مستجمعة من الإبداع التصويري في النص القرآني ...لقد استطاع هذا الشاعر ـ الذي توفي شابا ـ أن يكون شاعرا إنسانيا كونيا شاعر الحياة والثورة والجمال والحب استطاع أن يُعيد صياغة الكثير من معاني القرآن صياغة شعرية صادقة واضحة شجاعة وجميلة ـ نحن بصدد دراسة عن إسلامية الشابي ـ ...لقد حاول بعض أدعياء الحداثة في بدلية الثمانينات مهاجمة الشابي بسبب إسلاميته تلك وأتذكر أني كتبت ردا مستفيضا في جريدة "الأيام" يومها كشفت فيه عن أعماق الشابي وخواء خصومه... خصومه الذين ظلوا يطّوّفون في المُبهمات والمتاهات والتهويمات بدعوى الرمزية والإيحائية وظلوا عالقين ب"الجسد" يلعقونه وتفيض نصوصهم لعابا غرائزيّا مالحا وظلوا يتطاولون على المقدس وعلى المشترك من القيم بدعوى التجديد والثورية ،والحقيقةُ أن الرابط بين كل تلك الأغراض "الإبداعية" إنما هو عجزهم عن الإنتصار للحرية في أبعادها الفكرية والسياسية والعقدية ولنا أن نستجمع كل المجموعات الشعرية التي صدرت ورُوّجت في ظل الأنظمة الإستبدادية لنبحث عن عدد المجموعات الجديرة بتصنيفها إبداعا والجديرة باعتبارها ذات علاقة بمشتقات الحياة من حرية وكرامة ومحبة وأمن وقيم ..لقد انخرط الكثير من أدعياء الإبداع في صناعة ثقافة السخف والفراغ وفي إشغال الناس عن قضاياهم الحقيقية وعن معاركهم الشريفة بموضوعات هي أقرب إلى العبث واللغو ...شعراء وسينمائيون ومغنون كثيرون كانوا ضمن من أسميتهم يومها بالمثقفين الإنكشاريين وبفناني النفايات.. لماذا أسكتت فرق موسيقية ملتزمة بقضايا الناس الحقيقية من مثل "عشاق الوطن" "أولاد الجنوب" "الشمس الموسيقي" "فرقة المرحلة" وآخرون ممن يُصنفون إسلاميين؟ ـ لقد أسكتت فرق ملتزمة أخرى بالتأكيد ـ. لماذا لم تفتح وسائل الإعلام السمعية والبصرية مجالا لشعراء يُصنفون إسلاميين ؟ هل يُعاقب الإسلاميون مرتين: مرة أولى حين سُكّرت أمامهم الفضاءات العامة فلا يُسمح لهم بالتعبير عن إبداعاتهم ولا عن نقدهم لإبداع غيرهم ومرة ثانية حين يُتهمون بأن لا حضور ولا علاقة لهم بالإبداع؟ أنا لا أريد اتهام من وَجدوا الدعم والتشجيع والتعريف بكونهم كانوا أصدقاء الإستبداد وحلفاءه ضد الإسلاميين ولكن أيضا على هؤلاء أن يعرفوا قَدرهم وأن يتواضعوا للتاريخ.
حين أزيلت الموانع وفُتحت مجالات التعبير اكتشفت رصيدا من الإبداع الشعري مخبأ في صدور وفي مدونات الكثير من ضحايا سنوات الدخان ...قصائد لا يرقى إلى أدناها شِعرُ التافهين من الذين سكتوا عن القهر والاستغلال وكتبوا في السكر والاستنذال...المرجعية الفكرية والأخلاقية للإسلاميين لها بالتأكيد أثرها في صقل ذائقتهم ولذلك يمجون ويعافون الكثير مما يظنه غيرهم إبداعا فلا ينجذبون إليه. ولعل هذا ما يفسر نفور الجماهير وخاصة الشباب من دور الثقافة والمسارح والسينما... فهل يتحمل "المبدعون" أولائك مسؤولية الإساءة للإبداع وهم يحضون بكل الدعم والرعاية والإشهار؟
الإسلاميون اليوم وبفعل حُمّى السياسة التي تلبست البلاد فجأة وبفعل تسارع الوقائع واشتداد المغالبة وتلوث البيئة السياسية والفكرية والأخلاقية والثقافية لم يستعيدوا بعد اهتمامهم بالإبداع والمبدعين بل ولم يُدركوا أهمية الثقافة في تحقيق "المسار الثوري" وفي إعداد منابت الديمقراطية والمدنية ...الإسلاميون اليوم يراهنون على "المشهدية الخطابية" ولا ينتبهون للإبداع مسرحا/شعرا/ أغنية/ سينما ...بسبب حالة التوتر الدائمة وبسبب استعجال "التحصيل الانتخابي" في مساحة زمنية تضيق كل يوم ...الإسلاميون اليوم يستفرغون أوجاع سنوات عصير اللحم الحي في "معركة التمكين" مسكونين بهاجس الغدر والنكاية خبروا مكر السياسة ...ولكنهم ينثالون وينتشون ويبكون حين يستمعون لأغنية جميلة أو قصيدة بديعة أو موسيقى ساحرة تنساب كماء زلال على شقوق الروح.
ولا حرج في هذه ''النقيصة " مرحليا، لأن الظروف السائدة لا تجيز إبداعا أصيلا ولا تجيز في الأغلب إلا إبداعا مشوه . فعدد الذين ندموا على ''إبداعهم ''غير قليل وأعتقد أن الأولوية المطلقة هي للتلقي عن الله. يقول سبحانه وتعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نّهْدِي بِهِ مَن نّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الاُمُورُ } (52-53 سورة الشورى).