للنقاش

بقلم
عبدالسميع نصري
هل الحوار ممكن بين اليسار والإسلاميين في العالم العربي؟

 ليس غريبا أن يحدث على إثر الثورات سجال فكري، قد يتلفح في عمومه بمشاكل مطلبية تارة، وقيمية تارة أخرى. لأن منطق الثورات يفرز مرحلة انتقالية من شأنها أن تساعد في إعادة ترتيب البيت الداخلي. فإذا برفاق درب النضال ضد الطغيان يتموقعون من جديد في خانات إيديولوجية شبيهة بالوضع الطائفي في لبنان. والخلاف الذي يرتقي إلى نزاع فكري  يظل في دائرة التدافع الحميد، طالما أنه يستند في مقاصده إلى المصلحة العامة، لا مصلحة الأحزاب والأفراد. وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف الألماني "كانت" في حديثه عن التطور التاريخي، أن النزاع الاجتماعي يعد أهم الآليات التي تساهم في أن يقوم الناس بتقويم أنفسهم بشكل مستمر، لأنهم يضعون أهدافا لبناء المجتمع، لكنها تلقى اعتراضا. وبما أن الجميع يسعى لبناء المجتمع كل حسب أفكاره، فإن كل واحد سيحتاج إلى تطوير قدراته وإيجاد القنوات الضرورية للتفوق بقوة حجته وجزالة رأيه على رأي من يخالفه. ويبدو أن منسوب التجاذبات الايديولوجية بين الشيوعيين والإسلاميين في عالمنا العربي، خاصة في تونس ومصر، لا يتلاءم وهذا الطرح لأنه لا يفترض النزوع إلى تطوير الأفكار وعدم الجمود على انطباعات مستدعاة من عمق التاريخ، لا توفر جوا من الانتفاع باجتهادات الطرفين في خدمة المجتمع والوطن وخدمة المصلحة العامة.

والانطباع العام، أن التحاكم إلى منطق تأبيد المراهقة الفكرية من شأنه أن لا يسمح للعقل بأن يتطور وللأفكار بأن تتحاور. ذلك أن الفكر الشيوعي في بلادنا لازال يعاني من أثر رجعي أختزل هذا الاجتهاد البشري في أشخاص من قاموا بالثورة البولشفية، وحوّل طروحاتهم إلى مقدس قطعي الدلالة والثبوت، بالرغم من أن الفكر الشيوعي الغربي تأثر كثيرا بالنظام الديمقراطي، ونجح في إعادة قراءة الفكر الثوري وتهذيبه بدرجة جعلته قادرا على المنافسة في سوق الأفكار، ذات البعد القيمي الكوني. وهو ما مكّنهم من الوصول إلى الحكم في عدة دول، على خلفية إعادة تعيير المخزون الفكري لديهم بما يتلاءم والإجماع القومي حول المصلحة العامة. 
ما من شك أن المرحلة الانتقالية التي عاشتها أوروبا قبل أن تعرف الاستقرار والديمقراطية شهدت تجاذبات بين اليمين واليسار، شبيهة بتلك التي تعيشها بلادنا اليوم، اختلفت فيها الايديولوجيات حول طبيعة المصلحة الوطنية أو المصلحة العامة، التي تشكل المشترك بين الجميع. وقد وجدت نماذج جسدت الشطط في تقدير المصلحة استنادا إلى مصلحة فئة أو أفراد، على حساب المصلحة العامة، مثل تجربة كويسلينغ في النرويج وحكومة فيشي في فرنسا(*). وهي ذاتها عقدة الحراك الانفعالي في بلدان ثورات الربيع العربي. فكل معسكر يعطي تعريفا للمصلحة الوطنية من منظور اديولوجي بحت، وهو ما يفضي حتما إلى اختلال المعايير الكفيلة بتحديد المشترك، بحيث لا يبقى من مشترك غير القوالب العائمة، التي تُتّخذ سلاحا لتغييب الحقيقة عن الشعوب. 
لقد نجحت الإيديولوجيات الغربية بما فيها الشيوعية في ضبط معايير المصلحة العامة، حين نجحت الدولة في تأمين نظام الرفاه الاجتماعي. بيد أنهم أستبقوا هذه الخطوة بخطوة لا تقل أهمية عنها، تتمثل في الاعتراف المتبادل. وهذا ما سمح بأن تختفي الايديولوجيات تدريجيا، ويحلّ محلّها التنافس على البرامج والأفكار. ولا شك أن الفوضى أو ما يسمى بالفكرانية الانتحارية (l’intellectualisme suicidaire)، التي يسلكها اليسار في كل من تونس ومصر، على وجه الخصوص، هي نتيجة غياب الرغبة في تحديد المشترك أو حتى الاعتراف بوجود قواسم مشتركة يمكن أن يجتمع عليها الجميع، مهما كانت توجهاتهم الفكرية أو انتماءاتهم الدينية. ومن مظاهر نجاح المذاهب السياسية في الغرب، هو انفتاحها على الإنسان طالما أنه يؤمن بالخطوط العريضة للحزب أو المؤسسة، ولا يشترط فيه أن يكون نسخة طبق الأصل لغيره من المنتمين، في تفكيره وممارساته، خارج هذا الحيز. ومن تجليات مرونة هذه الحركية الفكرية، أننا نجد أن النرويجيين انقسموا مثلا، بين مؤيد لفكرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وبين رافض لها. وتشكل على غرار ذلك معسكران، لا على أساس الانتماء الحزبي، بل على أساس القناعات، مما أوجد وضعا جديدا يتعاضد فيه اليساري مع اليميني ضد نظرائهم من العائلة السياسية ذاتها في المعسكر المقابل. وهذا يعكس في حد ذاته ثقافة عميقة تمتد جذورها على مدى عقود من الزمن، مثلما عبر عن ذلك رئيس البرلمان النرويجي في إحدى محاضراته أمام أعضاء حزب العمال النرويجي.
 والجدير بالقراءة في هذا السياق، أن الإسلاميين في الغرب يميلون إلى اليسار أكثر منهم إلى اليمين، ولهذا السبب يقبلون بكثافة على الأحزاب اليسارية، وينخرطون فيها، ويصوتون لصالحها لأنها الأقرب من غيرها في تعاطفها مع قضايا المسلمين. وقد أوعز إلي أحد الشيوعيين يوما قائلا: نحن وإياكم نحمل مشروعا واحدا. ومما يعزز هذا المفهوم أن اليساريين والشيوعيين، على وجه الخصوص، هم من يتقدمون المحاولات الرامية لرفع الحصار عن غزة، وهم أول من ركب البحر وتعرض لارهاب الاحتلال الإسرائيلي، ولم يفتّ ذلك في عزمهم، بل أعادوا الكرة مرارا ولازالوا، وكانوا الأجرأ على استقبال بعض قيادات حماس في العديد من الدول الأوروبية، وتقديهم لشعوب هذه المنطقة على أنهم ثوار أبطال، وليسوا إرهابيين مثلما يسوّق لذلك الشيوعي التونسي العفيف الاخضر. 
معادلة عصية على الفهم، اتحدت فيها الايديولوجية واختلفت فيها القناعات والممارسات. فالشيوعيون في تونس ومصر وفي العالم العربي عموما، يحتكمون إلى معادلة "إما أنا أو الفناء" بينما يحتكم الشيوعيون واليساريون في الغرب إلى قاعدة: "نحن وإياكم سواء". وهذه المرونة التي نجدها عند اليساريين الغربيين، لم تأت دون مقدمات، بل سبقتها مراجعات، انتهت بأتباع الفكر اليساري إلى التّجديد بما يخدم القيم والمصالح العامة. فهل يمكن أن نتوق إلى يوم يستعيد العقل فيه عافيته لدى الشيوعي العربي، ويتحرر من الجمود على قوالب صنعها مفكرون، حتى ينتج فكرا مواكبا لحركة التاريخ؟ على قول الشاعر: ليس الفتى من قال كان أبي *** إن الفتى من قال ها أنذا.