الكلمة لأهل الإختصاص

بقلم
د.محرز الدريسي
النخبة في تونس: المتاهة و قلق الإصلاح (4) الإطلالات النقدية للنخبة المثقفة وانزلا قات خطابها


 

رغم "السياج" الشديد اخترقت بعض النخب المثقفة السقف الضاغط ومارست دورها النقدي وتمردت على مربع الدور المحدد، و صدرت العديد من المجلات منذ سنة 1963 ذات النفس النقدي ، مثل  مجلة "التجديد" التي تضم خيرة النخبة المثقفة الحداثية( المنجي الشملي- توفيق بكار- صالح القرمادي- البشير التركي- عبد القادر المهيري)، و مجلة" الطليعة" و مجلة "منبر التقدم" التي أسسها أحد رفاق بورقيبة الدكتور سليمان بن سليمان . تناولت هذه المجلات مسائل سياسية ذات صلة بالأمور الثقافية، فقد عرضت مجلة "منبر التقدم" مثلا مسألة الديمقراطية في العدد 2 ، وتوضيح حول الوحدة الوطنية في العدد 11، وفضح التعتيم الإعلامي في العدد 21، وطرحت مجلة "التجديد" الجهاد في سبيل الديمقراطية الخلاقة، وتكوين المفكر الأصيل في خدمة الشعب في العدد 1، وخصصت العدد 10 لموضوع دور رجل الفكر في تونس (سنة 1961)، وفي العدد 9، ضعف الثقافة التونسية وطرحت سؤالا" هل لرجل الفكر والأدب والفن دور في المجتمع، فإن كان ما هو؟ وما هي غايته؟"، لم يجب عن السؤال أي من المثقفين المستجوبين، ( و علقت المجلة: لعل هذا الإغفال يدل على أن السؤال سابق لأوانه في بلادنا) .(1)

 

وفي تلك الظروف الصعبة(بداية الستينات) كتب المثقف الهاشمي البكوش كتابا صدر في فرنسا حول "إيديولوجية الاستقلال والدولة الجديدة" حيث طالب بتعويض دولة القوة بدولة القانون، وهو كتاب هام قبر ولم يكن له أي صدى في الصحف، و انتشرت عرائض رافضة للابتذال المسرحي (سنة 1966)، وعريضة أخرى أمضى عليها 49 من المثقفين سنة 1970  و نشرت في صحيفة "لوموند  ديبلوماتيك"، وعدت أول بيان للنخبة المثقفة.

 

تحملت هذه النخبة مسؤوليتها الثقافية وحافظت على دورها النقدي، والتزمت به ونشرته وإن كان بخطى بطيئة وبمساحات ضئيلة، وجسدت نسبيا أطروحة المفكر الفرنسي ( جوليان بندا) من أن المثقفين مجموعة صغيرة من أصحاب الموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي الرفيع مشكلين ضمير الإنسانية والمجتمع، وأنهم يؤلفون طبقة مثقفة أو نخبة وهي "كائنات" نادرة لأن ما يدافعون عنه هي المبادئ والمثل مثل الحق والعدل،و ينقدون الفساد ويشجبون الاستبداد ويدافعون عن الضعفاء ويتحدون السلطات القمعية. إلا أن رغم بعض المواقف النقدية، فإن ما ساد هو انجذاب النخبة نحو السلطة، وتحول المثقف إلى سياسي وانتقل السياسي إلى مثقف، واعتبر المثقف بعيد الاستقلال هو المثقف المستوعب والمندمج في إيديولوجية الدولة ومنطق "الوحدة" لمقاومة التخلف. إلا أن الدولة سرعان ما دخلت في نفق الإغلاق التام لكل الفضاءات التعبيرية و الهوامش الحرة، وظهر قانون 1975 الذي قيد الإعلام وحرية الرأي والصحافة ورافقها تصحر على مستوى الإنتاج الأدبي والشعري .

 

و لعبت المدرسة دورا محوريا في اتساع النخبة من حيث اتساع قاعدتها الثقافية والتعليمية، والقادرة على تقبل وفهم خطاب النخبة المثقفة أي كان مآته، و عد الإصلاح التعليمي من المسائل المحورية التي تناولتها الحركة الإصلاحية (خير الدين التونسي) ثمّ الحركة الوطنية التونسية ورأت فيه مكونا من مكونات المشروع التحريري العام. واعتبرت أن الرهان المركزي في التحديث الاجتماعي والثقافي والسياسي مرتبط بمفهوم التعليم ، ويسهم في صياغة الوعي الوطني وبناء فكرة الوطنية، و رغم بعض الهنات فقد كون النظام التعليمي في تونس أجيالا عديدة من المتعلمين، وأنتج مجتمعا متميزا من المثقفين والمتعلمين، وتمحور مشروع الإصلاح الذي قامت به دولة الاستقلال على أربعة عناصر: (توحيد التعليم/ تعميم التعليم / تونسة التعليم / ملاءمة التعلم مع الحاجيات الوطنية )(2)

حيث ارتبط توحيد التعليم برغبة الدولة الحديثة في التخلص من تنوع أنماط التعليم وتعدد المرجعيات القيمية والمعيارية، مع ضرورة الاستجابة للمشروع التنموي بتكوين الإطارات والكادر اللازم لاحتياجات البلاد. و تمت المراهنة على إرساء نظام تعليم عصري ساهم بشكل عميق في تحديث البني الذهنية والهياكل الاجتماعية والقيم الثقافية، إضافة إلى تحديث المؤسسات الإدارية والسياسية لدولة الاستقلال.

 

وتزامن اتساع عدد المتعلمين في المؤسسات الجامعية والثانوية مع ازدياد الفقر وارتفاع حالات التوتر الاجتماعي والاحتجاجات في المدن والأرياف ، وانكشاف انسداد دولة الاستقلال وبروز إخفاقاتها التنموية والاجتماعية والثقافية، ومع ذلك واصلت منظومة التعليم باهتزازاتها في نشر قيم المعرفة والتثقيف والعلم كقيم جوهرية وأنطولوجية داخل الأسرة التونسية.

 

في هذا المناخ  من انتشار التعليم وعودة الطلبة من التجارب الجامعية و السياسية والثقافية في أوروبا، وخاصة بعد أحداث ماي 1968 الشبابية، بدأت تتشكل  حساسيات ثقافية وسياسية نقدية للقيم وللثقافة ومعارضة سياسيا، مجسمة في حركة طلابية راديكالية فاعلة ومؤثرة مثلت النخاع الشوكي لنخبة بدأت في التشكل هلاميا وميدانيا لتتخذ لاحقا تعبيرات سياسية وثقافية متنوعة مثل(آفاق). وعدت هذه المجموعة دوائر للفكر النقدي والمشاكس وأنتجت مثقفين بارزين، وانخرطت هذه النخب المثقفة ذات التوجه اليساري في إنتاج قيم ثقافية جديدة وإنتاج "طوبى" حول الحرية والتقدم الاجتماعي،لكن تأثيرها كان منحصرا في الحركة الطلابية، شاهدة زخمــا كبيرا بمناسبـــة الأحداث القوميــة

أو الوطنية. لكن لا يمكننا القول  أنها تحولت إلى انتلجنسيا نظرا لمحدودية تأثيرها الاجتماعي وغياب مشروع سياسي ومجتمعي وثقافي واضح المعالم،و نستطيع القول بشئ من الحذر المنهجي والتاريخي أنها أنتجت مواقف نقدية أو حاولت إنشاء مشروعية "معارضة" للمشروعية الرسمية تعتمد شعارات الديمقراطية والتقدم الاجتماعي. فقد نجحت في التعبير "ضد السلطة الواحدة" لكنها لم تعرف سبيل "التعبير" عن المجتمع، وبقيت في قطيعة مع المجتمع، منتجة خطابا نابذا للسلطة مهاجما وناقدا ومعارضا ومواجها، بينما لم نجد نخبا تتكلم بلسان المجتمع وتعبر عن مطالبه وحاجياته. وبالتالي انزلقت هذه النخب المثقفة والمتسيّسة رغم حماستها الشديدة ووطنيتها في نوع من الاستلاب، وقد أشار (سيمان) إلى وجود مفاهيم متنوعة للاستلاب من أهمها اللاّقدرة وحالة  تفكك القيم والمعايير الاجتماعية وحالة العزلة واللإنتماء وحالة اللامعنى، وتبعا لذلك أحست النخبة المثقفة بعدم الانسجام مع مجتمعها ووجود هوة سحيقة بين الموجود والمأمول. ويمكننا تفسير ذلك بأن النخبة اليسارية المثقفة نظرت إلى المجتمع وكأنه "مجرد أهداف"، يجب بلوغها وإصلاحها، وليس كأرضية أساسية تنطلق منها ممارسة الإصلاح،كما عبر عن ذلك (العروي) بأنه مثقف مأساوي لأنه "معلق بين السماء والأرض" (3). و المفارقة أن المجتمع السياسي تضخم على حساب تهيكل المجتمع المدني ونمو نسيج مؤسساته، بل حدث نوعا من "التعويم السياسي"، لكن مشكلة مجموعات تفكير ستكون الرحم المكون لنخبة جامعية مؤثرة.

 

وانتشر نوعا من النقد/ الاستهزاء بين عموم المتعلمين لعبارة "الثقافوت" كتعبير دقيق عن موقفهم من النخبة المثقفة التي لعبت دور المرمم وملأ الفراغات والثغرات، وانغمست في صراعاتها وهمومها الإيديولوجية أو الباحثة عن مغانمها، ولم تكن لها صلة وثيقة بالناس وبمشاكلهم. ولم  تؤدي دور المثقف الغرامشي، والمفارقة أنها تثمن الدور الغرامشي نظريا دون ممارسته على الأرض ودون انخراط فعلي في قضايا الناس، و لم تقدر على فك الارتباط مع خطاب "نخبوي" مفارق. و ازداد تقلص دور المثقف والنخبة المثقفة في الفضاء المعرفي في نظام أقام سلطته على "شرعية المجاهد الأكبر" أي شرعية داخلية تستند إلى الدعاية والتزيين الإصلاحي لا على مشروع إصلاحي حقيقي وشامل.

 

ومع نشأة النخبة الجامعية المثقفة و امتداد أفرادها واختصاصاتهم، برزت أنماط جديدة من المثقفين، كالمثقف الليبرالي و المثقف اليساري ساهمت في تحريك المجتمع المدني وتعزيزه بمؤسسات مدنية وحقوقية مثل تأسيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان،ومطالبة الهيآت المهنية مثل عمادة الأطباء والهيأة الوطنية للمحامين من السلطة احترام شرف المهنة( سنة 1977)، و سبق للقضاة أن قاطعوا افتتاح السنة القضائية (سنة 1977-1978) احتجاجا على تدخل السلطة التنفيذية، كما تأسست العديد من الجمعيات الثقافية مثل "لقاءات مغربية" و"نادي المرأة بمركز الطاهر الحداد".

إن بروز الجمعيات المستقلة في أواخر السبعينات وبداية الثميننيات يعكس نوعا من اليقظة السياسية للأنتلجنسيا الحضرية، كل هذا الزخم الجمعياتي و النقابي والصحفي والسياسي، لم يكن يحمل مشروع مجتمع ولم يصاحبه عمل ثقافي عميق ولم تفرز نخبة مثقفة متماسكة، لأنها ليست فئة منظمة ولا يجمع بين المثقفين نسيج فكري وثقافي.

 

فقد انبثقت النخبة المنتجة للمعرفة في السبعينات مع بروز مثقفين جامعيين، أنتجوا أحواضا معرفية متنوعة لبلورة مواقف ثقافية ومعرفية عامة، وغذت المجتمع بعدد لا بأس به من المثقفين، ومارست عملها المعرفي بالتميز في طرح قضايا حضارية وفكرية من تفكيك العقل ونقد القيم المتكلسة، و تنامت الدراسات التي تتناول الفكر الإسلامي والتراث والقرآن والنص، وأنتجت خطابا تنويريا وتحديثيا، عرف "بمدرسة تونس في دراسة التراث"، ويتميز بحس نقدي وتاريخي في تعقل الموروث الديني. إن المثقف وهو يفكر وهو يبحث في كل عوائق وإعاقات الفكر الإسلامي، وأن الصراع مستمر في الجبهة الثقافية والمعرفية لإنتاج "ابستيمية" جديدة وإحياء إسلامي لا يقطع مع الدين بل يقرأ الدين-الإسلام التراث الترسانة الفقهية باجتهادات جديدة مستثمرة الأدوات الحديثة ومناهج العلوم الإنسانية. وعملت على إنتاج أفكار جديدة و عصرية مستعملة المناهج الحديثة و مطبقة أدوات العلوم الإنسانية. وهذا الإنتاج المكثف للنخبة المثقفة (عبد المجيد الشرفي- محمد الحداد- ألفة يوسف...) في مجالات متنوعة، ورغم ايجابياته والمساحات التنظيرية المستحدثة والآفاق المفتوحة. و مارست تفكيك العقل ونقد القيم، كما كانت تمارس السياسة متراوحة بين المشاكسة المنيعة وعدم الانخراط في مسار نقدي فردي أو من خلال الكتابات أو الأنشطة المدنية أو السياسة. و كانت النخبة المثقفة إما دون دور نقدي بالمعنى الممتلئ للكلمة، أو دون دور نقدي بالمعنى السوسيولوجي ، وكانت هناك أصوات لمثقفين جعلوا كتاباتهم العلمية والموضوعية ترتقي إلى مستوى احتجاجي دون أن تمس النخبة ككل. كانت النخبة مفتتة وصامتة في أغلبها، لم تمتلك الخصال الأخلاقية اللازمة للإحراج وتعرية السلطة وكشف الاستبداد، لم تكن النخبة المثقفة نخبة اقتراح أو نخبة مشروع.

 

ذلك أن بعض الكتابات النقدية والتفكيكية والقراءات الجديدة للتراث وحفريات التفكير الديني تم الترويج لها بأسلوب إصلاحي متوتر

وتحديثي متشنج، وأدت النخبة المثقفة دور "الملقّن" لا دور "المحاور" أو"المصغي" للمختلف، ولم تترك مساحة للتعلم الممكن للجمهور القارئ أو المثقف العام، وكانت تفعل عبر بيداغوجية استفزازية. وهو ما أثار مسألة  الفجوة بين النخبة التي بقيت في أسوار"الوحدات البحثية" وأسوار الجامعات وقد حالت طريقة تعاملها المتوترة في نشر أفكارها وأسلوب الإبلاغ والنشر بينها وبين تحويل نتائجها وأفكارها وحداثتها إلى مشروع مجتمعي،و إثارة نهضة فكرية، بل كلما أفرزت أفكارا يتم إفراغها من شحنتها التحديثية ومعقوليتها لتتحول إلى مجرد "مادة" إعلامية واستفزازية. إن القناة الوسيطة بين إنتاج الأفكار وتقبلها وتحويلها إلى قناعات مجتمعية أو مؤشرات ثقافية موجبة تساهم في إغناء الذات والمواطنة وايجابية التنمية السياسية كشرط التنمية الثقافية. هذه الفجوة بقيت مثلومــــــــة لغياب الجمعيات الثقافيــــة ومؤسسات المجتمع المدني والصحافة الحرة، رغم 10000 جمعية متنوعــــــــة قانونيا، فلا ترى لها أثرا واضحا ولا ملموسا.

 

واتجاه بحثي لدى النخبة عبر أسلوبها في التعاطي مع الأفكار في التركيز على المثير والغريب(طبعا لها الحق في ذلك)، ولكنها في قراءة سوسيولوجية خام تكشف أن الكتابات كانت  مشاكسة في ظل عقليات تكلست بالاستبداد وعدم التعود على الحوار والجدل، وتدربت الذهنيات على الانغلاق، ويحول دون حوار مثمر ومغذّ للفضاء العمومي الثقافي جعل بعض مثقفي التيار الحداثي يبحث عــن الصيت لا عن الأثر الدائم وعن الشهرة بدل الفعل المجتمعي العميق. معتمدا في أسلوبها الدعائي على تفكيك وتحليل وإنشاء عقل نقدي بني على طريقة "الصدمة الكهربائية" التي لم تحدث منذ "الصدمات الثقافية"البورقيبية  إلا إنشاء مؤسسات وتغيرات مجتمعية متعسفة جعلت "فنطازما" التحديث واستيهامات العصرنة، تجعل من الإصلاح مجرد "قشرة موز" يعشش في تجاويفها الفكر التقليدي. و انحصر الفضاء الذي تتحرك فيه النخبة فقير المعنى وتنتج خطاب الشظايا محدثا فرقعات دون أن ينشئ تيارا واعيا، وكانت توجد مسافة بين خطاب التحديث والجمهور، ولا يرتكز على قوة اجتماعية وصاعدة  ولا على قاعدة شعبية متعلمة ولا على سلطة سياسية واعية بالرهانات التاريخية والحضارية.

 

لم يتحول الخطاب التجديدي إلى حس ثقافي عام بل تحول إلى قوة نابذة لا قوة جاذبةـ فالتدين أخذ مسحة تقليدية أفكارا وسلوكا ورموزا. و عملت رغم انتشارها في الأوساط الثقافية وعموم المتعلمين، فإنها لم تحدث شعورا إصلاحيا عاما وحسا نقديا معمما لأسباب عديدة، منها السياق السياسي شديد الانغلاق والتعتيم وفضاء عمومي لا يشجع على الحوار. فكيف يمكن تجذير الأفكار بعيدا عن الجدل والتطارح والنقاش المدني؟ وكيف يمكن توسيع رقعة العقلنة دون نقل للنقاش الفكري من جدل الأفكار إلى جدل جمعياتي ومدني؟ بأي صيغة يمكن نشر الحس النقدي  إذا لم يستند على قاعدة "إصغاء" إلى المختلف وتفاعل مع المغاير والمناقض بذهنية جديدة؟

 

فإذا كانت النخبة المثقفة المسيسة واليسارية انفصلت عن المجتمع من حيث حرصها على الاقتراب منه ولكن بأدوات مفارقة ووسائل متعالية عن الحس الشعبي، فإن النخبة الجامعية والمتميزة والمتنورة أهدرت علاقتها لأنها خاطبت الجمهور المتعلم وعامة الناس بمنطق "المعلم" و" العارف" لا "المحاور" و"المناقش". مما جعل الحوار يدور على الورق، وتعايش المفاهيم وتشارك المنهجيات وتكامل الوسائل لا نجد له صدى في الواقع ولا انعكاسا له مدنيا، بل إن "الريبة" و"الشك" و"لغة الاتهامات" و"التربص" هي الأدوات السائدة. وهو ما لم يطور خطاب النخبة ليتحول إلى ثقافة جماهيرية تمس الوعي العمومي، وتصوغ الشخصية الجماعية أو القاعدية، إن "لغة" الحقيقة وإن التصقت بطرف دون آخر تدخل "الجميع" في لعبة الكل ذئاب والكل حمل بعبارات هوبز المشهورة. و ساهمت النخبة المثقفة في جعل الخارطة الثقافية مصنفة وتراتبية تجعل المواقف ثابتة لا تتغير وقارة لا تتطور، وهذا ما جعل البعض من النخبة يحتكر التمثيل الفكري والتمثيل الاجتماعي . وهو ما يؤدي إلى ما يطلق عليه" النخبة المضادة" أو " ضد النخبة"، قد يفضي إلى تفكيكها وزرع بذور اللانجاعة ويعمق عزلتها.

 

واعتبرت خارج فضاء الفعل بعدم مشاركة الجامعيين في الشأن العام، والجامعة بما هي الفضاء المؤسسي للاقتراحات الفكرية وإنتاج المعارف للمجتمع وتأطيرها بالقيم المطابقة، إلا أن النخبة الجامعية اختزلت في "وظيفتها التدريسية" و"منشغلة بمسائل مهنية" ، وعجزت لفقرها العلائقي ومحدودية أفقها أن تتحول إلى نخبة متماسكة أو أن تؤدي دور الأنتلجنسيا أو الوسيط بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي. وهي لا توفر فرصة حوار فكري وعلمي جدي إذا  استثنينا مناسبات مناقشة الأطاريح الجامعية" (4) و قلما تنتج الحوار وقلما تساهم في توليد الأفكار وبناء المقاربات الضرورية للمجتمع ولا "تنتج المعرفة". بل نلحظ تذرر للنخبة الجامعية في أفراد ومدرسين وفي شخصيات جامعية منفصلة وفي اختصاصات جزر، وهو ما أطلق عليه "البداوة الفكرية"، يتجلى في الإحساس بعدم الفاعلية والموقع غير الفاعل مما أفضى إلى " قلق نفسي" و" نخبة معطلة" (5) .

 

ومثل جانب آخر من النخبة المثقفة رافعة لأيدي القهر وآلة التسلط العام، و شاركت في إثراء تجاويف السلطة وعرض خدماتها في كل المستويات، تمدها بالأفكار والاستشارات والمشاريع، خدمة لجاذبية السلطة والدعاية. أما النخبة فلديها إستراتيجية أولية وخام لن تتغير إلا في أشكال تمظهرها، وهي قاعدة "عارض ثمّ اقلب الفيستة"(الانتهازية) وتتمثل في تكوين رصيد سياسي "معارض" واستثماره في البورصة السياسية للحصول على امتيازات، إنها زبونية بامتياز. أي لم تخرج من استقطاب ثنائي خلقته الأوضاع السياسية، من أعداء وهميين، حسب السياق، وقدرة النخبة على التأقلم ومطواعة وقابلة للتشكل أو "مستعدة" لتقديم الخدمات في جدل إغراء التمحور حول السلطة وبركاتها وخيراتها ، فكل سلطة جديدة أو متجددة تستوعب أعدادا من المثقفين أو جزء من النخبة وتحييد الجزء الآخر، فمن خلال "النموذج المتكرر" والأمثلة عديدة من كبار أساتذة الجامعة ،  تتغذي السلطة بكفاءات علمية من طراز رفيع يجدد مشروعيتها ويغير ثوبها لا ماهيتها. و كان هذا الجزء من النخبة المثقفة يفقد إحساسه بالجماهير ويقطع الحبل السري تماما مع الناس، و تنزوي بشكل مدو في هضبتها المرتفعة رافعة منافعها، وخلاصها الفردي، وناسية التاريخ والعمق والتحول.

 (1) محمــــد، كــــرو."المثقفــــون والمجتمع المدنــي في تونــس"، فـــــــــي الأنتلجنسيــــــــــا العربيـــــــة، الدار العربيـــة للكتــــــاب،بن عـــروس(دون تاريخ).

(2) قانون إصلاح التعليــــــم الصــــادر 118 لسنــــة 1958، مــــؤرخ في 4 نوفمبر 1958.

(3) عبــــــد الله، العــــروي.العــــــــرب والفكـــــر التاريخــــــــي، دار التنوير، بيروت 1983 .

(4)  المنصـــــف، ونـــــاس. الشخصيـــــة التونسيـــــة،محاولـــة في فهم الشخصية العربية، الدار المتوسطية للنشر،أريانة،2011.

(5)  نفســـــــــــــه، ص 202.