مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
رؤية اسلاميّة للكرامة

 قامت الثورات العربية على أنقاض مآسي تجارب وفق تصورات اشتراكية تارة وليبرالية تارة أخرى خلّفت فقرا وبطالة استهدفا الإنسان في كرامته وأفقدته أفضليته على كثير من الكائنات الأخرى فضلا عن التفكك الاجتماعـــي وتدهـــور شـــروط الحيـــــاة الطيبة على الأرض مما يدعو العاقل إلى عدم إعادة تجربــــة مـــا جـــرب بل يبحث عن تصور جديد متميز في رؤيته  للإنســــان والحيــــاة من جهة وإلى العلاقات الاجتماعية وكذلك العلاقة بمكونات الوجود من جهة أخرى. 

ولعل متدبر القرآن يسهل عليه تلمّس تصورا نوعيا يحفظ للإنسان كرامته ويؤسس لتوحيد المجتمعـــات كما يضع إطارا جديدا للعلاقات يقطع مع ما من شانه أن يمهد للتفكك والتنافر أو يدفع إلى التناحر والتقاتل فلماذا الرؤيـــة الإسلاميـــة ومــــا هـــي ركائــــزهـــا؟ وهل من مشتـــرك بينهــــا وبيـــن بقيــــة التصورات أم لها ما يميزها؟.
 
(1) لماذا الرؤية الإسلامية لمحورية
الإنسان في التصور الإسلامي
لا يخفى علـــى أهــل الاختصـــاص موقع الإنسان في التحليل الاقتصادي باعتباره موجـــــه للسياســات التي تعنى بشأنه وعاكس لنتائجها على مستوى عيشه ونمط حياته وعلى النسيج الاقتصادي، كما أصبح معلوما لدى كثير من المتتبعين للعملية الاقتصادية وللعلاقات الاجتماعية أن الإنسان غدا اليوم رقما مجرّدا من إنسانيته وسلعة ضمن بقية السلع محكوم بقانون العرض والطلب وبقية القوانين الاقتصاديــة كما وقع تحويله إلى  مجرد مكوّن من مكونات معادلة رياضية حين أصبح التصور للعالم مالي بحت، كما منح الإنسان كبقية الأشياء سعرا لكسب أقصى قدر ممكن من الأرباح على حساب كل ما هو اجتماعي. كل ذلك في إطار منعدم الأخلاق وغير مكترث بالقيم وخاصة احترام قيمة القيم :الكائن البشري وقد انعكس ذلك سلبا على كرامتـه وكذلك علـــى أفضليتـــه ممـــا يدفعنــا الى الاستنجاد بالإسلام لامتلاكه تصورا يعيد الاعتبار للإنسان ويجعله محورا له نظرا للاعتبارات التالية:
 
 (أ) تكريم الإسلام للإنسان
 
معلوم أن في القرآن الكريم ”وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا“ وفيه أيضا بيان لما وفره الخالق من شروط الحياة الكريمة كتسخيـــر (العطـــاء الدائـــم) مـــا فـــي السمـــاوات وما في الأرض خدمة للإنسان بعد أن جعل له الأرض فراشا وذللها له حتى يمشي في مناكبها ويأكل من رزقه ورفع له السماء بناء وجعلها له واقيا. زد على ذلك إنشائه للإنسان وجعل  السمع له وكذلك البصر والفؤاد بما هي أدوات إدراك وتعقّل تميزه عن بقية الكائنات وتمكنه من تعمير الأرض ضمن مسار استخلاف أراده الله اختبارا لإرادة الإنسان التي جعلها حرة ليتم بذلك التكريم الإلهي.
(ب) تحديد مسار الكمال الإنساني
 
معلوم أيضا أن فــي القـــرآن الكريــم ”فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ“ وما يعنيه ذلك من تحديد لأمنين: أمن غذائي وآخر من الخوف كممهدات العبادة بما هي  تعبيد للطريق الموصلة للكمال الإنساني بما هو كرامة فردية ووحدة للمجتمع وحياة طيبة وذلك  بالإيمان والعمل الصالح.
 
(ج) الإسلام رحمة للعالمين
 
لا يميز الإسلام في تصوره بين إنسان وإنسان من خلال موقعه الجغرافي أو مكانته الاجتماعية أو انتمائه العرقي بل هو رحمة للجميع بيانا وتخفيفا وهداية لتيسير حياة الجميع دون أن يكون ذلك على حساب أحد وتلك هي المعادلة الصعبة التي يتميّز الإسلام بحلّها.
 
(2) ركائز الرؤية الإسلامية   
 
 انطلاقا من الإسلام كمنبع للتصورات يمكن لنا أن نبلور تصورا يحافظ على كرامة الإنسان يقوم على أساس الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر.  
 
(أ) الإيمان بالله:
 
◄ نظرا لأن الله المثل الأعلى في:
* تهيئة شروط الحياة الكريمة على الأرض الهدف المرجو تحقيقه من الفعل الإنساني في جميع المجالات.
*إتقان الصنع شرط تحقيق كل ما من شأنه تيسير حياة الإنسان وتسهيل تواصله وتعارفه مع الإنسان الآخر للتعاون على جلب المنافع ودرء المضار أو اجتنابا لمكروه قد يحاك ضده بما يحفظ عليه كرامته.
* كل الصفات التي تعكسها أسماؤه الحسنى المطالبون بدعوته سبحانه بها لتتعلق همتنا بالعلم المطلق والعدل المطلق والرحمة المطلقة شروط النجاح على المستويين الفردي والجماعي.
◄ نظرا لأن الله سبحانه المحدد في خلق الإنسان وفي زرع الحرث وفي إنزال الماء وفي نشأة الطاقة وكذلك في مسار الحياة وصيرورة الوجود ككل.
فالإيمان بالله إيمان اعتراف وثقة في بيانه وهدايته وكذلك إيمان بتصديق وعده ووعيده.
 
(ب) الإيمان باليوم الآخر:
 
◄ كحافز ذاتي للحفاظ على الكرامة الفردية لكل إنسان عبر فعل الصالح من الأعمال المحقق للنفع دون أن يكون على حساب أحد والتخفيف على الجميع رحمة بهم.
◄ كرادع عن فعل ما يضر بالفرد او المجموعة البشرية بدون استثناء وكذلك بالبيئة بكل مكوناتها باعتبارها إطارا للعيش الكريم والمشترك وكذلك  للأجيال القادمة.
كل ذلك نظرا لمسؤولية الإنسان المباشرة على كرامته مسؤولية مآلها المحاسبة تحديدا لنوعية الجزاء.
 
(3) مميزات الرؤية الإسلامية
 
(أ) الحرية
تعتبر الحريـــة فـــي التصور الإسلامي مسألة جوهرية باعتبارها تمنح للإنسان إمكانيــة تجسيـــد كرامتــه ولا معنى للحرية ضمن هذا التصور في غياب القدرات فالفقير أو المريـض وكذلك الجاهل أو الضال لا يمكن أن يعيش حريته وبالتالي لا يمكن له أن يجسد كرامته.      
فالحرية بما هي حق وقدرة كما يذهب إلى ذلك المفهوم القانوني هي المدخل للكرامة فالواجب تجاهها كحق يفرض تطوير الوعي بها وإقرارها كحق مع تنظيمه وحمايته قانونــا ومؤسساتيـــا بشكل يكون مضمونا للجميع بدون استثناء ولا يشكل مدخـــلا للفوضــى التي تستهدف النسيج الاجتماعي للمجتمع أو طريقا لتكبيل الانسان بعادات سيئة تفقده كرامته تدريجيا كتعاطـــي الكحــول أو المخدرات أو ما شابه.
أما المطلوب تجاه الحرية كقدرات، فهو تمكين الجميع منها. فبالقدرات يتحرر الإنسان من أغلال الجهل والضلال والمـــرض والفقـــر وتلك القــدرات لا يمكن إلا أن تكون علما وهداية وصحة ورفاه.
وان كانت العلاقــــة بيـــن الإنســـان وخالقـــه تقـــوم على الحرية حرية المشيئة " فمـــن شــاء فليؤمـــن ومن شاء فليكفر" فان اختيار الإنسان في كل المجالات تفرض تلك الحرية فالحرية إذا في التصور الإسلامي مدخل للكرامة ولكن ما الضامن لتحقيق تلك الكرامة خاصــــة إذا استحضرنـــا مآســـي الحريــة في كثير من التصورات الأخرى؟    
(ب) التقوى
◄ ما التقوى  ؟
ان ”التقوى“ مصطلح محوري جامع في التصور الإسلامي يجمع بين الاستشعار والعمل من جهة والموقف والإرادة من جهة أخرى:
 استشعــار المؤمنيـــن المتعامليــــن مراقبـــة الخالق أولا وعمل النفع في الأرض واجتنـــاب الضـــرر ثانيــا ممـــا يــؤدي إلــى موقف رضــــــــا بالنتائـــج وحالـــة من الاستعــداد للمحاسبـــة والمسائلــة ثالثا وإرادة التواضع في الأرض وعدم الفساد فيها رابعا.   
كما تعتبر ”التقوى“ العلاقة المطلوبة بين الإنســـان وخالقــه نظرا لأن الله هو الخالق لموارد الثروة  كالمواد الأولية وللإطار المكاني وكذلك ألزماني الذي يعيش فيه الإنسان.
◄ منبع التقوى :
تنبع التقوى من مسلمتين اثنتين شكلتا منطلقا لكل الدعوات التوحيدية على امتداد التاريخ البشري من  آدم مرورا بنوح وإبراهيم ثم موسى وعيســـــى وصـــولا إلى محمد عليهم السلام مما يكسب  هاتين المسلمتين بعدا عالميا خاصة إذا علمنا أن أتباع هذه الدعوات يشكلون اليوم ثلثي البشر. 
هاتين المسلمتان هما:
أولا -الاعتقاد  في وجود اله واحد له المثل الأعلى في إتقان الصنع لكل شيء وفي حسن تصوير الإنسان وكذلك في قضاء حاجاته ”الصمد“ مما يدفع نحو العمل بأقواله سبحانه وله القدرة والقوة والإرادة المطلقة مما يدفع للخوف منه خوف تحرر لا خوف انحسار وجمود.
ثانيا -الاعتقاد في حتمية اليوم الآخر كيوم للمسائلة والمحاسبة وجب الاستعداد له وما يمثله أولا من دافع لفعل النفع للفرد والمجتمع رغبة في طمأنينة القلب والحياة الطيبة  المشفوعة ب”الجنة“ كنعيم ابدي وثانيا كرادع عن الانحراف في التصور والممارسات مما يضمن عدم إلحاق الضرر بالنفس و/أو بالأخر وعن انتهاج نهج الفساد خوفا من أن يعيش الإنسان و/أو المجموعة عيشة ضنكا (عيشة أزمات) تفقده كثيرا من كرامته وكذلك تحصنا من النار وويلاتها لتحقق الكرامة الأبدية لكن
◄ لماذا التقوى؟
 لأن ”للتقوى“ أهدافا، نرى أن البشرية اليوم تلتقي معهـا بحثــا عن تحقيقها فالتخلص من الأزمات بوجود مخارج لها ومواجهة الفقر بالحصول على الرزق وتيسير أمر الأفراد وكذلك المجتمع حفاظا على الكرامة الفردية والجماعية كلها حسب آيات القرآن (حججه وأدلته) مكفولة  بالتقوى.
”وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب “
”وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا“
”وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ“.
بعد التأكيد على الحرية كمدخل للكرامة والتقوى كضامن لتحقيقها حتى لا يضل الإنسان طريقها كان لا بد من تحديد إطار للعلاقات سواء بين الإنسان والأشياء أو بين الإنسان والإنسان حتى يكون التواصل بين الجميع تواصلا يسير بالبشرية قدما نحو تحقيق كرامتها بعيدا عن كل ما من شأنه أن يستهدف استمرارية وجودها.
◄ الرحمة
ما أفرزته التصورات التقليدية كان إطار صراع غذته الاستقلالية عن الله مما عمق شعور الأنانية وإرادة العلو في الأرض والفساد فيها فكانت الحروب المدمرة التي أتت على الأخضر واليابس وفرقت بين الشعوب وجزئت الشعب الواحد إلى دول كما أضرت بالبيئة وتسببت في كوارث إنسانية وكذلك طبيعية.
وكما للصراع أخلاقيات يحتكم إليها فإن للرحمة كإطار إسلامي بديل أخلاقيات أيضا يحتكم إليها لكنها أخلاقيات موصولة بالله الرحمان الرحيم و لا تؤمن بالأنانية بل بقيم الحفظ والأمانة والود والتراحم هدفها التوحيد كمنطلقها.
وإذا كانت نتائج العلاقات القائمة على الصراع العداوة وما تفرزه من تنافر أو صدام، فإن آثار العلاقات القائمة على الرحمة تتجسد في:
* التسخير: بما هو عطاء دائم ســـواء تسخيـــر الوجــود للإنسان أو تسخير الإنسان للإنسان تسخيرا متبادلا.
* الأخوة: بما تعنيه من ولاية وتعاون وأيضا من عطاء وإيثار وكذلك من تجاوز وإرادة صلح وإصلاح.
فالرحمة إذا إطار للمصالحة، مصالحة الإنسان مع الرحمان من جهة ومع ذاته وكذلك مع أخيه من جهة ثانية وكذلك مصالحة مع البيئة والمحيط الذي ينتمي إليه وبذلك يضمن الكائن البشري إستمراريته واستمرارية كرامته.
——————-