تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
فحم يطعم القطار

 انطلق القطار ولا أدري إن كان من قبل متوقفا أو معطلا طال وقوفه. الوقوف إرادي أما العطب فيوجب التوقف قصرا وإن كان خارج المحطة. 

مازالت صورته عالقة بذاكرتي تطفو فوق صورة كل قطار ذلك الذي عرفته منذ كنت طفلا صغيرا فحامَ القطار من شدة تلوث سترته ووجهه ويديه بالسواد، كنت أراقبه باستغراب في اندفاعه يدس ملئ المعول فحما لمرات عديدة في الفرن الذي كلما فتحت فوهته ينبعث منها لهب لا تخبو جذوته. 
معلوم أن القطار لا يتزحزح عن مكانه إلا إذا احرق بتنوره كمّا هائلا من أحجار الفحم، ويكون الانطلاق في كل مرة عسيرا وبطيئا، فيتحرك بعناء ثم سرعان ما تشتد سرعته شيئا فشيئا حتى ينطلق بانسياب طالما انتظم التطعيم. ومن شدة الدفـــع لا توقفه الفرامــــل إلا عن مسافات بعيدة في جو مشحون برائحة الاحتراق من شدة الشد. وأخيرا يتوقف القطار بالمحطة، فيفرح كل المسافرين الذين بلغوا غاياتهم ويبعث الأمل في الباقين استشرافا للقاء قريب. 
باغت توقف القطار يوما الجميع بمن فيهم المسيريـــــن الذين لم يكن بإمكانهم توقع أسباب الوقوف. وقد بدا واضحا أن لا أحد يملك الإجابة عن الأسباب التي حالــــت دون مواصلـــــة السيـــر وكم سيطول الانتظار. ولكن الشيء الوحيد الذي يدركه جل الناس بمن فيهم البسطاء منهم أن القطار لا يسير إلى الخلف وأن أقرب محطة مازالت على بعد يوشي بالحيرة ويبعث على الخوف. 
وبعد رحلة طويلة، يصل القطار إلى المحطة وينتشر المسافرون عادة إلى مشاغلهم يحذوهم شعور بالراحة من عناء الانتظار، ويتوجه كل واحد منهم إلى مقصده غير عابئ بالقطار الذي خلّفه بالمحطة إن كان سينطلق من جديد وفي موعده أو سيطيل المكوث حتى يتزود بالطاقة ويتلقى الصيانة اللازمة أو حتى التأكد من خلو السكة من قطار سبقه أو آخر شغلها في سفرة في اتجاه معاكــس. ولا يدرك المسافر نوع الحركة التي تدب إثر كل توقف للقطار وخاصة بالمحطات الرئيسية حيث يتم التداول على مراكز العمل وتسليم العهدة. ومع تمركز القادة والعمال كل في موقعه، يحشر دائما في التنور نفس الفحم الآدمي وبنفس الآلية المحكمة الإتقان يفرقع الفحم وينشطر حجره فتلتهب القلوب حتى تذوب وتعتصر الأرواح فتذوي لتنير عربات القطار وينفح اللهب ليدير دواليب الوحش الآلي فيثير هيجانه صدى ثورته عن مسافات بعيدة حاملا أزيز احتكاك الفولاذ.
نعم، نسمع دائما حركة القطار وصداها ويُسْمع حديث كثيـــر عن صولات القطار وتحدياته وعن الصعوبــــات التي يواجههـــا عند كل انطلاق، عن الأرواح التي يزهقها بمقاطع السكة عن غفلة من الضحية وأحيانا بجرأة منها وتحدٍ استجابة لنداء أرواح ملت أجسادها. ويطال الحديــــث السائـــقَ كم حادث صـــادف والعربـــةَ كم من السنين أو كم سفرة أمّنت والمسافات التي قطعت. ويحبّـــر في ملفات تواريخ الصيانة وفي سجلات كم طن من الفحم الحجري ـ عفوا ـ بشري استهلك. ويصل أحيانا إلى أسماع بعض المسافرين في سياق حديثهم حول ظروف سفرتهم أخبارا عن هجمات بالحجارة يلقيها أناس يُرون على تلال يرصدون تحرك القطار وينهالون عليه بالحجارة حين يكون أسفل على مرمى منهم. فلا يصيب القطار من الأذى إلا تهشم زجاج نافذة ويصيب الذعر والهلع المسافر الجالس إليها فيحتفظ أحيانا بالمقذوف دليل مغامرته وتعرضه للهجوم. 
لما توقف أو أوقف القطار، لا أحد يعرف كيف ولا من وراء هذا التوقف. كل ما يقال أن السائق هرب وترك مقاليد القيادة شاغرة. توقف القطار لم يكن هذه المرة اعتياديــــا. رغم وقوفه عن السيــــر لم يخب أزيز محركاته ولم تنضب دواليبه كما تواصلت أنظمة الإضاءة والتكييف مما جعل الركاب يجادلون فيما قد يكون سبب توقف القطار من قريب أو من بعيد. الظرف استثنائي وفجائي وجده المسافرون مناخا ملائما لتبادل الحديث والاستمـــــــاع على غيــــر ما تعودوا. وطال الجدال واشتد الوطيـــس ونسي بعضهــــم أنهــــم في انتظار أن يتحرك بهم القطار من جديد. ولعل من لم يتعود الحوار الذي وجد نفسه محشورا فيه تمنى أن يتواصل التوقف للاستفـــادة من هذه الفسحة ليدلي برأي لم يكن ليدلي به خارج هذا الظرف الاستثنائي.
كل ما تغير بالمحيط داخل القطار وحوله هي بعض الوجوه الجديدة التي بدأت تظهر شيئا فشيئا وتتمركز وتأخذ لنفسها أدوارا لإعادة إقلاع القطار. يتطلب الانطلاق معرفة وخبرة تبدو غير متوفرة عند شاغلي المواقع الجدد. أين المعرفة بأسرار هذا الوحش الغامض والمخيف لهؤلاء الذين كانوا فوق الروابي وعلى مسافات يتفرجون.
وبدأ الاضطراب بين هؤلاء ملتفين حول القطار. تنازعوا فيما بينهم. من الذي سيقود القطار ويسير نظامه؟ تشابكوا، تنافروا، تقاربوا، انقسموا،  تفرقوا،   .. تلاحموا، تضاربوا، أضربوا... وأخيرا، احتل كلٌّ موقعا وتحت إمرة أحدهم نظر كل واحد إلى الآخر ينتظر انطلاق القطـــــار. ورغم الحنكــــة والمعرفة التي تظاهـــر بها هذا وذاك أبى القطار أن يتزحزح.
وأخيرا تفطن أحدهم إلى ضرورة دس الفحم فلم يكن من الصعب الرمي بجموع من عناصر الفحم البشري الذين لم يذكرهم أي سجل لأن الفحم بعد مسير القطار يرمى به رمادا. 
كنت في هذا القطار حجر فحم شاهد عيان لحدث جلل، فصنعت من رمادي وخلاصتيْ عرقي وفكري حبرا وكتبت ورقاتي لعلها تبقى شواهد عصر تفيد في مواصلة مد سكة القطار نحو فضاء أبعد.
——————