الادب الهادف

بقلم
جيلاني العبدلّي
رُبَّ فقيرٍ قوتُهُ من القُمامةِ !!

 ليس من الطبيعة ولا من القيم الفاضلـــة أن لا يتحــرك لنا ساكن، ولا يهتزّ لنا باطن، ونحن نعاين في سائر أيامنا وأرجاء بلدنا مواطنين معدميــــن يترددون علــى مصبّات النفايــــات، وينبشون في صناديق الفضلات طمعا في ما قد يلبّي بعضا من حاجاتهم الحياتية الأساسية.

كنت قد زودتُ ذات صيف قائض وكيلا في السوق المركزية للخضر والغلال بعشرات الأكياس من غلة "العوينة"، وقد تعرّض بعضها للفساد بسبب ضعف الطلب وارتفاع درجات الحرارة الأمر الذي جعل الطبيب المراقب يأمر بسحبها من فضاء العرض لعدم صلوحيتها للاستهلاك.
ويوم حضرتُ لضبط الحساب في المبيعات والمرتجعــات كان عليَّ أن أتسلّم الأكياس الفاسدة، وأشرِف بنفسي على تحويلها إلى مصبّ الفضلات.
 وحالما نقلتُ بضاعتي الفاسدة على مجرورة وأنزلتُها لإتلافها، تقدّم منّي كهلٌ في يده حاوية بلاستيكية، ورجاني أن أسمح له بالنبـــش في أكياسي والغرفِ من غلالي فقلت له:
"ولكن يا سيدي، هي غلال قد أصابها فساد، فتعفنتْ، وانبعثتْ منها كما ترى ديدان، ولم يعد فيها نفع لإنسان".
قال لي:
 "أعرف يا سيدي أنّ غلالك سائرة إلى الإهمال، ولكنْ لي فيها حيلة تنفعني فأفكّ بها إساري، وأغذّي عيالي".
قلت له مستغربا:
"يا حفظك الله! كيف تفكّ إسارك، وتطعم صغارك بمثل هذه العجائن المتعفّنة والسّموم المنبعثة؟
ألا تخشى سوء العاقبة وخطر النائبة؟".
قال لي في حرج:
"ماذا تراه يفعل ذو العيال عسيرُ الحال؟
ماذا عساه يفعل من كان ضحية للفقر والعَطَلِ والحرمان؟
إنّ ما أجمعه يا سيدي من نبشي أسلّمه إلى زوجتي، فتتولّى تحليته وتغليته، وتصنعه مربًّى يكون غذاءً لأطفالي".
قال ذلك بنفس كسيرة، وكان لقوله وقــــع مؤلــــم كوقــع الحسام في الأجسام، وأخذني وجوم شديد، وأطرقتُ طويلا، وسرحتُ بعيدا في عوالم الفقراء المعدمين وأكوان المشردين الذين جعلوا من سلال الفضلات وتلال النفايات مجالا لأحلامهم الصغيرة في المعيشة الوضيعة، دون أن يصطفوا في أبواب المساجد والزوايا والمقابر، ودون أن ينطرحوا في الأروقة والأزقة والمعابر ليسألوا الناس عونا ومنّا وإحسانا.
رفعتُ رأسي بعد إطراقي وشرودي، وقد كنت أذنتُ لصاحبنا المكدود بالنبش دون أن أشعر بذلك، فإذا به جاثم على ركبتيه يجول بأصابعه في الأكياس، ويغترف من عجين الغلال المتعفنة، وحالما ملأ سلته شكرني، وانصرف.
 فتنهّدتُ وقلت:
"ألا بئس العصر، عصر يصير فيه الفقراء نابشين في القمامات ومصبات النفايات.‼
ألا بئس العصر، عصر فقراؤه يبحثون عن أقواتهم ويغالبون عِلّاتهم، وأغنياؤه يُشبعون شهيّاتهم وينمّون 
ثرواتهم.‼"
وألا لعنة الله على الفقر والخصاصة والحرمان.
ولا حول ولا قوة إلا بالله