بحوث ودراسات

بقلم
بسّام العقربي
البطالة في تونس و أفاق مواجهتها (ولاية صفاقس كمثال)

 تعتبر البطالـــة في تونس من أهم عوائق المسيــــرة التنمويـــة حيث مثل هذا الموضوع مشكلا أرق الساسة منذ السنوات الأولى للاستقلال إلى اليــــوم. فالتجــــارب التنمويـــة الأولى مع الليبرالية ثــــم التعاضــــد (1962 – 1969) ثـــــم العــــودة إلــــى الليبرالية بمختلف منعطفاتها من السبعينات إلى اليوم لم تتمكن من حل مشكل البطالة خاصة بعد تشجيع الدولة التونسية على العلم والتعلم، فتحســـن بذلك المستــــوى التعليمـي عند التونسي، لكن ذلك خلف ما يسمى "ببطالة أصحاب الشهائد العليا" أو "بطالـــة الكفـــاءات" و البالغ عددهم فــــي مــــــاي 2012 حوالـــــي 175.000 عاطــــل بنسبة 26.9 % حسب المعهد الوطني للإحصاء.

أما بالنسبة للبطالة العامة – الكفاءات و غير الكفاءات - فقد بلغت خلال نفس الفتــــرة – أي مــــاي 2012 – حسب نفــــس المصـــدر حوالي 17.6% . لكن كيف تطورت نسب البطالــــة فــــي تونــــس خلال السنوات الأخيرة؟
للإجابة عن هذا السؤال نقدم إليكم الجدول التالي: 
حسب هذا الجدول مرت نسبة البطالة في تونس خلال السنوات الأخيرة أي الفتـــرة الفاصلـــة بين 2006 و 2012 من 12.5% إلى 17.6%. في هذا الإطار و في تعليق بسيط على هذه الأرقام نقول:
أولا: فنسبـــة 12.5% و 12.4% ثم 12.4% ثم 13.3% المسجلــــة بيــــن 2006 و2010 تعتبر حسب مسؤولين في المعهد الوطني للإحصاء غير مطابقة للواقع و قد عمل النظام السياسي السابق على التخفيف من حدتها و ذلك عبر تزويرها بغاية المغالطة و تلميع صورته في الداخل و الخارج، و كدليل على ذلك هو مرور هذه النسبة من 13% سنة 2010 إلى 18.3% في مــاي 2011 أي بفارق 5.3% خلال سنة واحدة وهو مــــا لا يحـــدث منطقيــــا إلا في الحالات القصوى كالحروب أو الأزمـــات الاقتصادية المجحفة و هو ما لا ينطبق علــــى التذبـــذب السياســـي الذي عاشته تونس بُعيد الثورة.
لكن هذا التطـــور الفجئي لا ينفــــي في نظرنا دور الانفلات الأمني و طبيعة المرحلة السياسية بعد الثورة و التي تسببت في إغلاق العديد من المؤسسات المنتجة و المشغلة أبوابها نظرا لكثافة الإضرابات و الإعتصامات الفوضوية و المطالب العمالية المجحفة كالزيادة المشطّة في الأجور و تحسين الأوضاع الاجتماعية للعُمّال. يُضاف إلى هذه العوامل عودة العمال التونسيين من ليبيا خلال الثورة الليبية والذين لم يجدوا أمامهم عند عودتهم سوى البطالة وهو ما زاد في تعميق الأزمة.
ثانيا: خلال الفترة نوفمبر 2011 و ماي 2012، مرت نسبة البطالة من 18.9% إلى 17.6%. هذا الانخفاض الطفيف في نسبة البطالة يعود إلى عوامل متداخلة و التي من أبرزها "الانتعاشة" النسبية للاقتصاد التونسي وخروجه من نسبة النمو السالبة بعد الثورة ووصوله إلى ما يناهز 3.5% خلال شهر ديسمبر 2012.
إلى جانب ذلك العودة النسبية للاستقــــرار السياســــي فـــي ليبيـــا بعــــد القضــــاء على نظـــــام معمــــــر القذافي وعودة العديـــــد من التونسيين إلى سالــــف نشاطهـــــم هناك. كما أن فتــح بعـــض المناظــــرات في القطاعين العام والخــــــاص قلّـــــص نسبيّــــا فـــي نسب البطالـــــة. لكن رغم مجهودات الدولة في القضــــاء على البطالة إلا أنها أحيانــــــا تبدو محتشمـــة نظـــرا لانصراف الحكومـــــة والمعارضـــــة والمجتمع المدنــــي إلـــى الصــــراع على السلطة و خدمــــــة أجنداتهم السياسية والانتخابية في مرحلة ما بعد المجلس التأسيسي.
بعد هـــذه المعطيـــــات العامــــة وتنزيــــل موضــــوع البطالـــــة في تونس ضمن سياق التحولات السياسية التي تعيشها بلادنـــا، سوف نسلط الضوء على واقع البطالـــة فـــي ولايـــة صفاقـــس أفاق مواجهتها.
جغرافيّا، تقــع ولايــــة صفاقس في الوسط الشرقي للبلاد التونسية و بلغ عدد سكانها سنة 2010 قرابة المليــــون ساكــــن، إذ تعتبـــر هذه الولاية ثاني قوة بشرية و اقتصادية في تونس بعد العاصمة. كما تُعــــرف بعاصمــــة الجنـــوب نظـــرا لإشعاعهــــا الاقتصادي والخدماتــي علـــــى كامـــل الجنــــوب والوســـط الغربـــي خاصـــة فـــي المجــــال الصحـــي الإستشفائـــي والتعليــــــــم العالـــــــــي. لكــــن رغــــم هــــــذا الازدهـــــار الاقتصـــادي للولايـــة إلا أنهــــــا لم تسلم من هيمنة شبح البطالة على شبابها طيلة فترة النظام السابق حيث تعرضــــت إلى عمليــــة تهميـــش ممنهــــج ومدروس فــــي مجـــــال التنميــــة بتعلـــــة أن "عقليــــة الصفاقسي العملية والحرفية" قادرة على خلق التنمية بالمنطقة دون تدخل كبير وواضح من الدولة. هذا الموقف من الأنظمة السابقة تجاه الولاية مخلفاته كانت كارثية خاصة في الأرياف مثل ريف جبنيانة، العامرة، الحنشــــة، منــزل شاكـر، بئـر علـي بـن خليفـة، الغريبة،  الصخيرة وعقارب.
و يكفي أن ننظر في المعطيات الإحصائية حول البطالة في ولاية صفاقس لسنة 2004 إذا سلمنا طبعا بصحة الأرقام فنجد 30071 عاطل عن العمل من الفئة العمرية 18 – 59 سنة أي بنسبة 11.2%. هذا العدد من العاطلين يفوق عدد سكان معتمدية قرقنـــة والغريبة مُجتمعتين (29016 نسمة)، كما يفـــوق عـــــدد سكان معتمديــــة العامـــرة (28723 نسمـــة) ومعتمديـــة الصخيــــــــرة (29616 نسمة) و يقـــــارب عـــدد سكــــان معتمديـــة المحــــرس (30676 نسمة) خلال نفس السنة أي 2004.
و من حيث التباينات المجالية في نسب البطالة و حسب ما توفر لدينــــا مــــن إحصاءيــــات لسنــــة 2004 نلاحــــظ إرتفــــــــاع هــــذه النســــب كلمـــا إبتعدنــــا مــــن مركـــز المدينة نحو أطرافها أي كلما إتجهنا إلى عمق الأرياف كما تبين هذه الخريطة.
حسب هذه الخريطة يمكن التمييز بين مجالين اثنين حسب تفاوت نسب البطالة و هما:
المجال الحضري أو ما يسمى "بــصفاقس الكبرى" أين تنخفض نسب البطالة إلى ما دون الــ 10%. هذا المجال يضم حسب الخريطة كل من صفاقس المدينـــة، صفاقس الغربيــــة، صفاقس الجنوبية، ساقية الزيت وساقية الدائر، حيث تبلـــغ نســـب البطالـــة في هذه المعتمديات على التوالي 8% - 9.1% - 6.5% - 6.4% و 8.7%. هذا الانخفاض في معدلات البطالة داخل المنطقة الحضرية بصفاقس الكبرى يُعزى إلى أهمية الأنشطة الاقتصادية المُشغلة و القادرة على استيعاب أعداد كبيرة من العاطلين كالإدارة، المؤسسات البنكية و التجارية، المركبات الصحية، النزل، الكُليات... إلخ.
المجـــال الضحــــوي والريفـــي أو مـــا يسمـــــى بالفرنسيــــــــة Espace rural et périurbain أين ترتفع معدلات البطالـــة إلى 23.2% في معتمدية الصخيرة، 25% في العامرة و 25.2% في الغريبة. هذا الارتفاع المشط في نسب البطالة عند الريفيين خاصـــة يُعزى في نظرنــــا إلى حالات التهميـــــش والفقر وعدم تدخل الدولة و الخواص أيضا في إعداد مناويل تنمية تستجيب لتطلعات هؤلاء السكان، بل حتى عمليات التهيئــــة المحتشمـــة التى قامت بها الدولة تكون دائما محدودة و تفتقد للنجاعة كتعبيد بعض الطرقــات و المسالك الفلاحية قبـــل كــــل حملـــة إنتخابيـــة للنظـــام السابـــق و التي لا يمكن أن تكون ســـــوى ذر الرمـــــاد على العيون، في حين يبقى تطوير الأنشطـــــة الاقتصاديـــــة الضروريـــة مهمّشا وفي تراجع مثل القطاع الفلاحي السقــــوي الذي يمرّ بأزمة هيكلية وقطاع تربية البقر الحلوب الذي يمر بأتعس فتراته خاصة بجهة جبنيانــــة والعامـــرة وما عُرف بأزمة المركب الصناعي للحليب و مشتقاته "يوفا" الاسم الجديد لـ "مامي نوفا". يضــــاف إلــــى هـــــذا تأزم قطاع الزيتون النشاط الأبرز لسكان ريف الولاية الذي أضحـــــى هشّــــا وفي حاجـــــة إلى إعادة نظر من قبل السلطات المعنية خاصة بعد تهرم الغابــــــة وتواتر السنوات العجاف. كما أن المشاريع المُحدثة والمرتبطــــة بإنتاج الزيتــــون كالتـــــي تنتصب في عقارب أو العامرة مثـــــل تكييف الزيــــوت والمصانــــع التـــــى تهتـــــم بتحويــــل ثفــــل الزيتــــون – الفيتورة – إلى أعـــــــــــلاف لم تحــــل مشكــــــــل البطالـــــــة بل سيطرت علــــى هــــذه المصانـــع اليد العاملة الحضرية خاصة من الإطارات كالمختصين فــي الإعلاميــــة، المحاسبــــة، التصرف، المـــوارد البشريــــة وغيرهـــــا وتجاهـــــل الكــــــوادر الموجودة بهــــذه المناطـــق. و كدليل على ما نقول هي حالة الغضب والإحتقــــــان التي حدثت إبان الثـــــورة ضـــد أرباب المصانع بحُجــــة أنها مُلوثة وتساهم في إنتشار الأمراض لكن في حقيقة الأمر مــــا هو إلا عـــــدم رضــــــاء من الأهالي على ما إعتبروه تناسيا لحقهم في التشغيـــل. ولعل ما وقع من حرق وتكسير للمؤسسات في عمـــادة البدارنـــــة مـــن معتمديــــة ساقية الدائــــر و بودربالـــة من معتمديـــــة العامـرة و فـــي عقــــارب أكبر دليــــل على ما ذكرناه.
إن ولاية صفاقس و على عكس ما يُشاع بأنها الولاية الأكثر رفاه وثراء فقد بلغ عدد العاطلين عن العمل بها سنة 2011 ما يُقارب 26846 بنسبة 7.4%. في هذا الصدد حاولنا الاتصال بالإدارة الجهوية للمعهد الوطني للإحصاء بصفاقس علنا نظفر بمعطيات مُحيّنة حول واقع البطالة في صفاقس حسب المعتمديات لدراسة تطور هذا المشكل بعد الثورة و تبايناته المجالية إلا أن الجــــواب كان مُخيبا للآمال إذ أن المعهد الوطني للإحصاء لا يصدر معطيات أو إسقاطات تخص المعتمديات أو العمــــادات إلا كل 10 سنـــوات أي في التعدادات العامة للسكان والسكنى ويكتفي بنشر ما يسمى بالنشريات العامة الخاصة بالولايات و الأقاليم عموما. هذا المشكل جعلنا نتوجه إلى الإدارة الجهوية للتشغيل لإيفائنا بآخر الإحصائيات حول العاطلين عن العمل بكامل معتمديات صفاقس، الإدارة المعنية أفادتنا بعدد المسجلين في مكاتب التشغيل بصفاقــــس الباحثيـــن عن شغل.
كما ذكرنا آنفا أن عدد العاطلين عمومـــــا فــــي ولايــــة صفاقـــس بلغ 26846 سنة 2011. في شهـــر ديسمبر مــــن سنـــة 2012 بلغ عدد المسجلين بمكتب التشغيـــــل 16300 منهـــم 10579 بنسبـــة 64.90% مـــن أصحاب الشهائــــد العليــــــــا و 5721 من غير الكفاءات أي بنسبة 35.10%. الرسم البيانــــــي التالـــي يبين عدد الباحثين عن عمل والمسجلين بمكتب التشغيل بصفاقس حسب المعتمديات سنة 2012.
حسب الرســـــم البيانـــي المصاحب يختلف عدد طالبي الشغـــــل من معتمدية إلى اخرى وبتباين واضح بين مركز المدينة و أطرافها. فمعتمدية العامرة و البالـــــغ عـــــدد سكانهــــــا 28723 نسمــــة بلغ عدد المسجلين في مكتب التشغيل من أبنائها 292 إلى غاية ديسمبر 2012 في حين معتمدية ساقية الزيت و البالغ عدد سكانها مرتين ونصف أكثر من سكان العامرة (حوالي 72481 نسمــــة) بلغ عدد المسجلين بمكتب التشغيل من أبنائها 206 فقط خلال نفس الفترة. هنا يمكن أن نطرح أكثر من سؤال عن تلك الهُوة العميقة بين المراكـــز الحضرية للولاية و أطرافهــــا التي ضلت مهمشـــــة، إذ كلما زادت التنمية في المراكز الحضرية إلا و زادت تبعية الأرياف لها.
إذا بعد هذه اللمحة حول البطالة فـــــي صفاقــــس ما هي الحلول التي يمكن تصورها و اقتراحها للحد من هذه الظاهرة؟
حسب تصورنا وتشخيصنـــا للمشكل لا توجد حلول آنية للقضـــــــاء تماما على هذه الظاهرة الاجتماعية نظرا لاستفحالها فــــي كامـــل مجال الولاية منذ أكثر من عقدين من الزمن وصعوبــــة احتوائهـــا في ضل النموذج الاقتصادي والتعليمي الوطني، لذلك نقترح مراجعة المنظومة التعليمية والتكوينية وكذلك إعــــادة النظــــر في المنوال الاقتصادي المتبع من قبل الدولة. هذا النموذج منفتح أكثر حـــــول المنظومة الغربية الأوروبية عامة و الفرنكوفونية خاصــــة ولا زالت تونس ترزح تحتها منـــــذ الاستقلال. هذه المنظومة التي أثبتت فشلها آن الأوان للتخلص منها والتفكيــــــر في توسيــــع الشراكــــة مع دول أخرى تعامل الاقتصاد الوطني الند للند و تفتح الأبواب للعاطلين خاصة من خريجي الجامعات للعمل و تنشيط السوق الاقتصادية. في الأثناء نلفت النظر إلى أهمية الشراكة مــــع دول الجوار ونؤكد على أهمية السوق الليبية خاصة في مجال الصحة، التعليم، الطاقة والتعاون الفني عمومــــــا وهنــــا يمكن لولايــــــة صفاقــــس الاستفادة من عاملين مهمين وهما القرب الجغرافي وأهميـــة الدولــــة الليبيــــــة البترولية الناشئة في مرحلة ما بعد معمر القذافي.
فـــــي ذات الإطار نؤكد على ضرورة انفتاح "السوق الصفاقسي" على الــــدول الصاعدة اقتصاديــــــا ونخصّ بالذكر السوق التركية و أسواق الدول الصناعية الجديدة كالصين، الكوريتين، سنغفورة، تايوان... والتي أثبتت جدواها من خلال صمودها في وجه الأزمة الاقتصاديــــة العالميــــة الأخيرة على عكـــــس السوق الأمريكية والأوروبيّة.
كما نلفت النظر إلى تشجيع الدولة للخواص على الاستثمار الصناعي في الأرياف التي تشكو من ضعف في التنمية و إرتفاع معدلات البطالة. و للتذكير فإن الاستثمار في عمق الأرياف فيه أكثر من مصلحة بالنسبة للولاية و منها:
تخفيف الضغط على مركز الولاية و الذي وصل حد التشبع و لم يعد قادرا على إستعاب الأنشطة الاقتصادية.
التخفيف من حدة المركزية الاقتصادية و خلق لامركزية بين المدينة وريفها و تشجيع الريفيين على الاستقرار في مواطنهم الأصلية وبذلك تكون الدولة قد نجحت في التخفيف من ظاهرة النزوح الريفي و ما يخلفه من مشاكل (بناء فوضوي، توسع عشوائي للمدينة، انتشار الجريمة ...)
التخفيـــف من حـــــدة البطالــــة في الأرياف وبذلك يتحسن مستوى عيش السكان وخلق نوع من العدالة الاجتماعية بين أبناء الولاية الواحدة.   
كما نلفت النظــــر إلى أهمية الاستثمار الفلاحي خاصـــــة في قطاع تربيـــة الأبقــــار الحلــــوب باعتبار أهميـــة هذه المادة الأساسية ودور ولاية صفاقس في إنتاجها باعتبارها حوض لبني و منتج هام للحليب.