بحوث ودراسات

بقلم
د. مصباح الشيباني
الثّورات العربيّة الرّاهنة وتحدّيات بناء المواطنة


 المقدمة

 

في إطار الحراك السياسي والمجتمعي الذي تعيشه المنطقة العربية اليوم، تتأكّد أهميّة الاستنجاد بالمقاربة السّوسيولوجية لفهم الواقع العربي وتشخيص ظواهره المستجدة في الحقل السياسي. إذ أنّه من الصّعب "تغيير العقول "(1) وإعادة تشكيل الوعي الجمعي وتغيير التصورات النمطيّة حول المجال السياسي دون إحداث تغيير في الظروف الاجتماعية والثقافية والسّياسية للمجتمع.

 

 لقد ظهرت عديد المشكلات والقضايا الاجتماعية والسّياسية والثقافية والاقتصادية وفي مقدّمتها قضيّة المواطنة التي نعتقد أنّها أهمّ مطلب وتحدي أمام الثّورة العربية الرّاهنة باعتبارها مرتبطة بمفاهيم سياسية وحقوقيّة حديثة مثل: الدّيمقراطية وثقافة الاختلاف والحداثة...الخ والتي ظلّت خلال العقود الماضية مفقودة في مجتمعاتنا العربية نتيجة غياب مؤسّساتها السياسية والمدنية والقانونية الفاعلة.

 

فالانتقال من واقع سياسي ومجتمعي إلى واقع مجتمعي مغايــــــر(جديد) يتطلّـــب القيــام بعمليـــــة الفصــــم (la repture) في أنظمة التواصل وبنية العلاقات في المجتمع وكل الظواهر العلائقية (relationnel) الأخرى التي يتمّ من خلالها بناء أنساقه الثقافية والسياسية والاجتماعية والرّمزية أو بتعبير آلان توران (Alain Touraine) من إعادة إنتاج تاريخانيّته. والانتقال من ثقافة "الرعية" وتمثّلاتها في المخيال الاجتماعي العربي إلى ثقافة "المواطنة" في مختلف تجلّياتها يتوقّف على طبيعة مسار هذه التّجربة الجديدة وعلى مدى نجاحها في التخلّص من هيمنة منطق الإقصاء والاستبعاد التي ميّزت التجربة العربية الماضية سواء في مستوى مؤسّسات الحكم أو من خلال مؤسّسات المجتمع المدني.

 

لهذا نحتاج إلى القيام بنوع من "التَعرية الأركيولوجية" التاريخية لثقافتنا السياسية، ولفلسفة الإدارة ونظام الحكم فيها. ويجب أن تستهدف هذه التّعرية البحث في نظام القيم والتمثّلات والسّلوكيات السياسية التي أدمجها المجتمع في مختلف أبنيته النّفسية والاجتماعية والسياسية وأصبحت جزءًا ومُكوّنًا أساسيًا في مخياله السياسي. ومن أبرز المسائل التي يجب النَظر فيها هي قضية العلاقة بين "الأنا" و"الآخر" أو ما يطلق عليها بـ"ثقافة المواطنة" وتمثَلاتها في المخيال السياسي العربي. ولمقاربة هذه المسألة لابدّ على الباحث أن يستند إلى مسارات التَجربة السياسية العربية ولأسسها الاجتماعية والثقافية والرّمزية حتى يتمكّن من أن يفكّك  بنية "العقل السّياسي" (2)  وخصائص نظام الحكم في الوطن العربي عموما. وإلى حين يتحقّق ذلك يبقى الإشكال الرئيسي مطروحًا حول كيفية الانتقال من الثقافة السياسية "التّابِعة" إلى الثقافة السياسية "المُشارِكة"؟

 

 فإلى أي مدى يمكن للثّورات العربية الرّاهنة أن تؤسّس مرحلة تاريخية جديدة يكون فيها الإنسان العربي مواطنا منخرطا ومشاركا فعلا في الشّأن العام لمجتمعه عبر مختلف مؤسّسات المجتمع المدني؟

 

 وكيف يمكن تشكيل قيم ومعايير جديدة من الوعي القانوني والسّياسي والثقافي التي تؤسّس للنظام الدّيمقراطي وتمكّن الشّعب العربي من أن يبني تجربته الخاصة، ومن أن يتخلّص فعلا من  جميع " التشوّهات" و"الاخلالات" التي طبعت شخصيته القاعديّة والاستجابة إلى تحدّيات بناء ثقافة المواطنة والدّيمقراطية الحقيقية بعد الثورة؟

 

1ـ المواطنة مسار تاريخي :

 

من الطّبيعي أن لا يكون التّعامل مع المفاهيم السوسيولوجية موحدًا لتعدَد زوايا النّظر للموضوع المطروح وتعدّد وجهات النظر فيه، وخاصة إذا كانت هذه المفاهيم ذات أبعادٍ مزدوجة فلسفية وسياسية في آن، وجامعة بين المثاليَ والموضوعيَ مثلما هو الأمر بالنّسبة إلى مفهوم المواطنة، خاصّة بالنسبة إلى بلدان "العالم الثّالث" ومن ضمنها الأقطار العربية. والسّبب مثلما يقول الباحث العربي "طيّب تيزيني" هو أنّ بنى اجتماعية سابقة على المجتمع الطبقي والوطني والقومي ربمّا مازالت هي المهيمنة فيها.(3)

  

ارتبط مفهوم المواطنة بحركة نضال التاريخ الانساني الطويل. وأوّل ما ظهر هذا المفهوم  كان الهدف منه الإقرار بكرامة الإنسان والمساواة بينه وبين الآخرين في التمتَع بنفس الحقوق وأداء نفس الواجبات. وباعتبارها قيمة حضارية وإنسانية أقرَت حق الفرد في المشاركة والحضور الفعلي في مؤسسات الدولة السياسية والمدنية الحديثة. أي مع ميلاد الحداثة السياسية في الغرب الأوروبي أواخر القرن الثامن عشر، أصبحت المواطنة أساس الشرعيّة السياسية لنظام الحكم في الدّولة. وهو الأمر الذّي يتجلّى في المساواة المدنية والقانونية في مجتمع مركّب من أفراد (مع ظهور مفهوم الشعب ) غير متساويين.

 

وفي ظل هذه التَجربة السياسية الغربية أصبح لمفهوم المواطنة معنيين اثنين. فالأول يعرّف المواطنة كشحنة (Une charge) ومسؤولية . أما الثاني فيعرّفها كمكانة (statut ) ومجموعة حقوق.(4) فهي عبارة عن منظومة حقوقية تستند إلى ثلاثة محاور. أولا المنتفع بتلك الحقوق، وثانيا نوعية تلك الحقوق، وثالثا آليات تجسيد تلك الحقوق وحمايتها.

 

فإذا كان البعدان الأولان لايثيران أي إشكال، فإنّ العنصر الثالث مازال محل أخذ وردّ ويختلف بحسب اختلاف التجارب الديمقراطية

في العالم. واعتبارها منظومة حقوقية وقيمية وسلوكية تقوم بتأطير الأفراد والمجموعات بهدف بناء شخصية الإنسان الثقافية والحضارية، وبهدف تنشئته على احترام هذه المنظومة الحقوقية والسّلوكية ضمن مسار تاريخي معين. فهي مجموعة من القيم والسّلوكيات والمعتقدات التي تتشكّل من خلال نسيج علاقات الأفراد ونظام تفاعلاتهم داخل مختلف بيئاتهم العائلية والسياسية والثقافية والتربوية...الخ وبالتالي فهي الحركة التاريخية التي تهدف باستمرار إلى توسيع مساحة مشاركة المواطن في الحياة العامة للمجتمع. ولم يعد الإنسان مجرد فرد من "رعية" بل هو "مواطن" يتحدّد كيانه بجملة من الحقوق الديمقراطية التي في مقدمتها الحق في اختيار الحاكمين ومراقبتهم. وتتم هذه المشاركة عبر عديد الطّرق والآليات والمؤسّسات المدنية والسّياسية والثقافية. فظهر في المجتمع  الحديث ما بات يعرف بـ"إرادة الشعب" أو "الرأي العام" الذي يتجسد في الممارسات السياسية والاجتماعية وطرق تنظيم مؤسساته الاجتماعية والسياسية التي لم يعد أحد يستطيع أن ينكر دورها في بناء النظام الديمقراطي (5)  

 

إنّ تاريخ تجارب المواطنة يكشف بوضوح أنه ليس هناك تجربة واحدة كانت نتيجة تخطيط مسبق لها أو وعي سياسي أو حقوقي دعا إليها أو سعى إلى تحقيقها بالشكل الذي انتهت إليه. فالأثر الذي كانت تحدثه التجارب السياسية المختلفة في المخيال الاجتماعي الإنساني ساهم في ظهور المناخ الفكري الجديد للثورات الفكرية والسياسية في أوروبا الغربية ثم انتشر بعد ذلك ليشمل أغلب دول العالم. لهذا، لا يمكن أن نتحدث عن مواطنة واحدة لتوصيف مختلف التجارب الإنسانية الماضية والرَاهنة. وقد كشفت جميع التجارب الإنسانية أن ثقافة المواطنة والديمقراطية لا يمكن أن يتطـــــــوَرا إلاَ فـــــي مناخات " ثقافــــة سياسية متفتَحة ومتحـــــرَرة، ثقافة العقلانية والمؤسسَاتية، ثقافــــــة الانتخــابــــات النزيهــــة والمشــــاركة الشعبية الفعالة والتمثيلية القائمة على أسس الاختيار وليس الجبرية".(6)  

 

تجلّيات أزمة المواطنة العربية

 

  تؤكّد مختلف الدَراسات الاجتماعية والسياسية العربية أننَا نعيش أزمة سياسية بنيوية ناتجة عن التَجربة السياسية السابقة التي تميّزت منذ الاستقلال بثقافة الإقصاء والتَهميش لمختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين في الوطن العربي. إذ لم تتحوّل الثقافة السّياسية التّشاركية إلى آليّة حقيقية في الحكم ولا إلى طريقة حياة في مجتمعنا العربي. فثقافة "حق الاختلاف" السياسي اتخذت عدة أشكال من التوتَرات ومن النَزعات التَمييزية والصراعات ذات الانتماءات التقليدية والأولية ولو كانت تتمّ بغطاء حداثي أحيانا.

 

أـ أزمة في المشاركة السياسية

على الرّغم من ثراء تراثنا الثقافي والحضاري العربي والإسلامي بالقيم الإنسانية والأخلاقية التي تدعو إلى بناء مجتمع سياسي سليم يقوم على مبادئ الاحترام والتَسامح وحق المشاركة في تصريف الشّؤون العامة، فإنّ عملية التّنشئة السياسية والفكرية والأيديولوجية للإنسان العربي تمَت ضمن سياق تاريخي خاص. إنّه سياق هيمنة القوى الاستعمارية الغربيّة وما أفرزته هذه الحالة التّابعة من إشكاليات ومصاعب واكراهات حضارية في مستوى الوعي الاجتماعي والثقافي عامة، وفي مستوى الوعي السّياسي بشكل خاص.

 

فمن الخطأ  أن نكتفي بالبحث في ما هو خطاب سياسي وقانوني أو نشاط مؤسّساتي وفي آلياته التّعبويّة دون أن نعمل أيضا على تعرية ما ترسّب من قيم ومعتقدات وتمثّلات اجتماعية لدى هؤلاء الفاعلين السّياسيين. فهذه الترسّبات هي التي تشكّل النّسق السياسي في المجتمع، وتضبط آليات التفاعل فيه وترسم الاختيارات والتوجهات لمختلف الفاعلين السياسيين وما يفعلون وما لا يفعلون. إنها تشكَل "رأسمالهم السياسي" الذي يعيد بناء الثقافة السياسية وخصائص نظام الحكم في الدولة. لا بد من إعادة النّظر في تمثّلاتنا السياسية والاجتماعية لمفهوم المواطنة من أجل تأسيس ما يسمى بـ "مجتمع الاجماع " sociéte de consensus ، مجتمع المواطنة الفاعلة ثقافيًا وقيميًا وسياسيًا، ومن أجل  التخلّص من ثقافة الإقصاء والاحتواء التي تميّزت بها الأنظمة السياسية الشّمولية.

 

لقد هيمنت العصبية السياسية واستفحلت في المجال السياسي العربي، ولم نتمكن ـ بعد نصف قرن من الاستقلال السياسي ـ من تأسيس كيان سياسي تعاقدي وحداثي تقوم فيه العلاقات والتفاعلات بين الأنا والآخر على أساس الاحترام والتسامح. مازال نسق التعبئة السياسية في الوطن العربي يستند إلى المحدّدات العشائرية والطائفية و"الشّللية النفعويّة"(7) فتعطَلت بذلك فعالية جميع الهياكل والمؤسسَات السياسية الحديثة في بناء ثقافة سياسية جديدة، وغابت من خلالها قيم المشاركة الحقيقية في الدينامكية السياسية للدولة والمجتمع. لقد اعتمدت الدولة المستقلة على الآليات الولائية التقليدية التي تقوم على الإقصاء ونفي الآخر دون اعتبار لأهمية القيم المشتركة، والتي كانت أولى ضحاياها انسجاميَة المجتمع.(8)  

 

ونتيجة غياب "السَلط المضادة" contres-pouvoirs) ظلَت الرؤية الواحدية هي المهيمنة على المشهد السياسي، وهي التي تقرّر مصير الشعب وتحدّد اختياراته السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. مازالت المعارضة السياسية عندنا مجرد "ديكور" سياسي تستخدمه السّلطة لضمان شرعيتها، ولم تتمكن بعد من تحقيق أي تغيير سياسي ولن تكون سوى وقودا تستخدمها هذه الأنظمة لضمان ديمومة نموذجها السياسي الشمولي في إدارة الحكم.

 

هذه الثقافة السياسية الشمولية تمثل إحدى التحديات الداخلية  التي

تعترض إعادة تأسيس منظوماتها الفكرية والمؤسساتية. وهي أيضا تحد من أجل إعادة البناء والتشييد والقطع مع الماضي الاستبدادي، ومن أجل الخلاص من هيمنة ثقافة التقليد واعتماد ثقافة النقد ومن أجل تجاوز حالة التنميط السياسي (9) والأيديولوجي الذي تميزت به التجربة السياسية العربية في السابق. علينا أن نُغيّر كلّ شيء، وأن نعيد بناء تجربتنا السياسية وفق المقاربة التشاركية والحوارية الحديثة.

 

 ب - غياب ثقافة الاختلاف والديمقراطية

ما تشهده المنطقة العربية اليوم، من أحداث وانتفاضات هي تأكيد على غياب المواطنة في الوطن العربي. فكلَ الثَورات تستهدف بناء أسس المواطنة العربيَة الحقيقية عبر القضاء على طبيعة العلاقات السياسية الاستبدادية القديمة. لكن بناء أنماط جديدة للعلاقات السياسية والاجتماعية والقانونية يتوقف على مدى فهمنا لطبيعة هذه القيم ومعرفة جذورها التَي تعود إلى ثقافة المجتمع وتركيبته البنيوية وظروف حياته عامة.(10) نعتقد أنَ المواطنة مثل غيرها من المفاهيم ذات المصدريَة الحقوقية والسياسية الخارجية لا يمكن تعزيزها إلاَ عبر كسر القيود التي تكبَل حركة المجتمع العربي وتعوق تطوَره، لأنَ قيم المشاركة وتحمل المسؤولية في بناء المجتمع لن يمنحها أي حاكم عربي لشعبه وإنَما يفرضها هذا الشَعب ويأخذها بإرادته وحدها.

 

تمثّل الأحكام الدَستورية والقانونية، والمرجعيات الفكرية والقيم الثّقافية والأخلاقية مدخلا أساسيا لتأسيس أي تجربة سياسية ديمقراطيّة. وكلَ هذه المرجعيات وغيرها تضبط نظريا أسس كل تجربة سياسية وتشرّع لمختلف ممارساتها في إدارة شؤون الدولة. لكن تبقى المسألة الديمقراطية حبيسة هذه المرجعيات النظرية المجرَدة إذا لم تستند إلى آليات ومؤسسات مدنية حديثة لتفعيلها واقعيًا. ومن أبرز هذه الآليات الانتخابات والأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والنقابية...الخ.

 

 قد لا يكون هناك خلاف في أنّ وجود الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بشكل عام، ليست مجرّد مسألة كميّة أو عددية، وإنمّا هي أيضا مسألة كيفيّة أو نوعية. إذ ترتبط أولا، بمستوى درجة الوعي والنضج السياسي والفكري والتنظيمي لهذه الأحزاب والمنظمات. وثانيا، بمدى فهم طبيعة المرحلة التاريخية للمجتمع العربي ومدى استجابتها إلى مختلف التحدّيات الداخلية والخارجية للثورة الراهنة. أي مدى قدرة هذه القوى على إعادة تشكيل بنى المجتمع ومؤسساته السياسية والاجتماعية والثقافية التي تضمن تفعيل الأسلوب الديمقراطي وفق المعايير الدولية المعروفة.

 

  فتأسيس المواطنة في مختلف تجلياتها السياسية والاقتصادية والمدنية، تتوقف على مدى تحقيق "المأْسسة" الحقيقية للفعل الإنساني في توجيه الإرادة العامة وفي إدارة الصّراع الاجتماعي. أي كيف يندمج الفرد والمجموعة فعليّا في حركة التاريخ ليس في مجال الاستهلاك لهذه القيم فحسب، وإنمَا أيضا في مستوى الإنتاج والفعل التّأسيسي لنظام العلاقات السياسية والاجتماعية داخل الحزب والمنظّمة والمدرسة والمؤسسة المهنيّة. إنهّا حركة لبناء أسس العيش المشترك داخل كل هذه المؤسسات لتحقيق توافقها مع التغيَرات الرَاهنة، ولمستلزمات التغيير الحقيقي في السياسة والاقتصاد والثقافة، وتمكّن من بناء مناخ اجتماعي وسياسي وثقافي مختلفًا كليًا عن المناخ المجتمعي السّابق.

 

لقد بيّنت عدة دراسات أنَ من خاصيات المواطنة الربط بين مختلف أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فمن غير الممكن عمليا أن يحقّق المواطن حاجاته في الحقل الاقتصادي مثلا ويكون خاضعا إلى نظام سياسي استبدادي، أو في حالة تبعيّة إلى الآخر. فالاستقلال السَياسي للدولة يضمن توفير الشرط الأوّل للاعتراف بهذه الحقوق وصيانتها. لا يمكن في ظل منظومة قيميّة كهذه الفصل بين الكرامة وحقوق الإنسان، باعتبار أن الأولى جوهر الثانية. ولا قيمة للمواطن في وطن يفتقد فيه أحدهما أو كليهما الى الحرية، لأنّ في انتقاص حرية أحدهما انتقاصًا من مبدأ المواطنة ذاته.

 

ت - فشل مؤسّسات المجتمع المدني في تأطير المواطن

تعمل مختلف المنظمات والجمعيات والأحزاب السياسية التي ظهرت مع ظهور الدّيمقراطية الحديثة في أوروبا الغربية،(11) على ضمان تشريك المواطن في مختلف نشاطاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية الدّاعمة لنجاح صيرورة التّغيير الدّيمقراطي. وهذه المشاركة تمثلّ قيمة أساسية في مفهوم المواطنة. لا تتحقق هذه المواطنة عبر القوانين الجديدة فقط، وإنما أيضا عبر آليات التأطير المختلفة في الفكر والممارسة من أجل تغيير الأفراد والأنظمة على حد السّواء.

 

 يتوقف الأمر على أن تستعيد الحركات الاجتماعية – الحقوقية والطلابية والنقابية- فاعليتّها في تغيير المجتمع، ومقاومة سياسات الإقصاء والتّهميش التي اعتمدتها أنظمة الحكومات العربية خاصة بعد التسعينيات من القرن الماضي. ومن أن تعيد قدرتها التأطيريّة والتوجيهية للفعل التاريخي في المجتمع. ولابدَ لهذه القوى حتى تتمكن من مواجهة مختلف الضّغوطات الاقتصادية والسياسية العالميّة الرّاهنة، أن تحدث قطيعة أو نقلة مفاهيميّة ومعيارية موازية للنّقلة المجتمعية التي من خلالها يتحرر "العقل العربي" سياسيًا وثقافيًا من نكسات ماضيه التعيس وإرهاصاته المختلفة. وحتى يتمكّن من بناء مشروعه المجتمعي على أساس واقعه السياسي والاجتماعي والثقافي العربي، وفي تفاعل مع الواقع الإنساني عمومًا.

 

 

 إنّ التغيّر السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع العربي بعد الثورة ، لن يتحقق على أرض الواقع إذا لم يؤدّ فعلا إلى ظهور أسس جديدة للمشاركة السياسية من قبل هؤلاء الذين كانوا يمثّلون "رعيّة" في الماضي القريب ويأملون أن يصبحوا "مواطنين" في المستقبل. فالاعتراف بقيمة الديمقراطية وتجذيرها في الممارسة ، لا يتوقف على مبدأ الاعتراف بها في النّصوص الدستورية أو القانونية فقط، بل يقتضي أيضا استبطانها في عقول النّاس وضمائرهم.  فثقافة المواطنة والديمقراطية تتطور في مناخات ثقافة سياسية منفتحة، متحررة، ثقافة العقلانيّة والمؤسساتية، ثقافة الانتخابات النّزيهة والمشاركة الشعبية الفعّالة والتمثيلية القائمة على أسس الاختيار وليس الجبريّة.(12) هذه الثقافة أساسية حتى نتجاوز أزمة الضّمير والعقل السياسيين في الوطن العربي.

 

نعتقد أنّ من أبرز التحديّات التي تواجه قوى المجتمع المدني في بناء تجربة سياسية ديمقراطية ومواطنة عربية تتمثل في:

 

1- ضرورة الانطلاق من التّراث السياسي والثقافي العربي لتجديد الرؤى والممارسات السياسية والثقافية التي يقوم عليها النظام الديمقراطي في المستقبل. باعتبار أنَ الإنسان كائن تاريخي وجدلي، لا يمكن أن يضبط سلوكه إلاّ في إطار فهم ظروفه التاريخية وطموحاته المستقبلية. فعدم الاهتمام بالبعد التاريخي والثقافي أو تجاهلهما في إعادة البناء المجتمعي، لن تؤدّي إلا إلى إعادة إنتاج رؤية أو وصفة علاجية شمولية وغير واقعية لمشاكله الحقيقية، فتكون بذلك عديمة الأهميّة في تغيير الواقع العربي نحو الأفضل.

 

2-  يجب أن تكون إرادة الشعب العربي حرّة ومستقلة في اختيار مرجعياّتها الدينية والقيمية والأيديولوجية التي تعبّر عن هويتها الحضارية الفعلية العربية والإسلامية . فعدم التزام مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية بتأسيس هذه المنظومة الثقافية والقيمية العربية الجديدة، والاكتفاء باستنساخ التجارب الغربية، لن يؤدّي إلا إلى حالة من الفراغ في الشرعية السياسية للتجربة الديمقراطية، والى الإخفاق في تأطير الجماهير من أجل ضمان تحقيق أهداف الثورة.

 

3- لا معنى لنظام ديمقراطي يتأسَس على جهل النّاس بالسياسة. أو في مناخ مجتمعي يسوده التفاوت والانقسام الاجتماعي والجهوي، أو يتميز بالتخلف الثقافي والبؤس الاجتماعي. فمن شروط تأسيس التجربة الديمقراطية تحرير الإنسان العربي من ثقافة الظَلم والولاء للأشخاص. وتحريره أيضا من الخوف ومن واقع الحرمان والجوع حتى يشعر بالحرية والعزّة والكرامة ويتخلص من جميع القيود الذاتيّة والموضوعيّة التي تراكمت خلال القرون الماضية، وكبّلت حركته في تغيير واقعه. إنّ السّياسي يتفاعل مع حقائق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فهو يتبع حضارة المجتمع ويؤثر فيها في الوقت نفسه. أو بتعبير آخر، فالسّياسي يتكيّف مع الثقافي مع الأخذ بعين الاعتبار للتأثيرات المتبادلة بينهما هذه ولتنوع التجارب التاريخية وإفرازاتها السوسيولوجية.

 

   الخاتمة

 

 إنّ نجاح الثورة صعب ويحتاج إلى مواصلة النّضــال لأن هناك شبكة معقّدة من الاكراهات أو الضّغوطات des contraintes) ( الماليّة والعسكرية والاقتصادية التّي ستضاف إليها المقاومات المتوقّعة من مجموعات المصالح القديمة. فمن أجل منع هؤلاء القادمين الجدد (القوى السياسية التقدمية والأطراف الاجتماعية والمنظمات الحقوقية...( إلى السّاحات السياسية والاجتماعية والإعلامية..الخ من تحقيق أهداف الثورة، سوف تعتمد القوى الرجعية والدولية والاستعمارية في مقاومتها للتغيير العربي الحقيقي،  بشكل معلن أو خفي، كل آلياتها ووسائلها الممكنة، عبر " الشرعية الدولية" و "أنظمة التمويل والمساعدات المالية" و"الحملات الإعلامية...الخ من أجل ضمان هيمنتها من جديد على المشهد السياسي  للدّولة والمجتمع العربيين في المرحلة القادمة.

 

 إن الوعي بجوهر هذه التحولات ودلالاتها السياسية وطبيعة آثارها السلبية على الثورة العربية يمثل السبيل الوحيد الذي يؤدي إلى تأسيس وعي حقيقي وطرح رؤى وتصوّرات وبدائل للنّهوض بمستقبل تونس وبأمتنا العربية.

 الهوامش:

 

(1) نقصد بهذه العبارة إحداث التغيير في مستوى المواقف والآراء والاتجاهات وكل ما ينسب إلى المدارك العقلية للإنسان. أي تغيير الطريقة التي ينظر بها الشَخص إلى الأشياء  وأشكال ردود أفعاله تجاهها.

(2)  نقصد بهذه العبارة إحداث التغيير في مستوى المواقف والآراء والاتجاهات وكل ما ينسب إلى المدارك العقلية للإنسان. أي تغيير الطريقة التي ينظر بها الشَخص إلى الأشياء  وأشكال ردود أفعاله تجاهها.

(3)  محمد عابد الجابري، العقل السَياسي العربي: محدَداته وتجليَاته، المركز الثقافي العربي، الداَر البيضاء، 1990.

(4) طيب تيزيني، من ثلاثية الفساد الى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا للدراسات والنشر، دمشق، ط2، 2002، ص184.

(5) Walzer ( Michel)