وجهة نظر

بقلم
مسعود اليحياوي
التعليم الزيتوني: التهديد الشبح

 استرعت ظاهرة إحداث مدارس دينية زيتونيـــة انتبــــاه الكثيــــر من المتابعين للشأن التونسي وأضحت موضــــوعـــا للتجـــــاذب بين أطراف عديدة خاصة بعد أن أدلت وزارة التربية بدلوها وأشارت إلى أن الأمر يتطلب ترخيصا وأفتت بجوازها. وللتذكيــــــر فإن التعليم الزيتوني بتونــــس حذف نهائيــــا بإيعاز من فرنسا راعية المشروع الاستعمــــاري وبقــــــرار من بورقيبة سنة 1964 وبتنفيذ من وزيــر  تربيتــــــه  آنذاك محمود المسعدي وكانت ذريعتهم في ذلك  توحيد المناهج التعليمية وكأن للتوحيد اتجاه واحد.

 
هذه الظاهرة أثارت حفيظة المتنطعين من شقي الصراع الذي بات يهيمن على المشهد العام في تونس هذه الأيام. ففي حين رأى فيه متشددو الشق العلماني انتكاسة حقيقة لمدنيّة الدّولة وردّة عن المشروع الحداثي وخطوات إلى الوراء قد تذهب بسنوات التقدم العلمي إلى هوة سحيقة من التخلف والانحطاط المعرفي، لن يكـــــون لهــــــا مثيــــــلا إلا مــــا نعرفه عن أفغانستان، فذهب البعض منهم إلى تشبيه الأمر بالنزيف الذي يصيب  المدرسة العصريــــة اليــــوم، في إشارة إلى انفصال  بعض التلاميذ عن  المدرسة المدنية والتسجيل بالمدارس الزيتونية. أما متشددو التيار الإسلامي أو ما بات يعرف بالسلفيين، فيعتبرون الفرصة مواتية للانقضاض على التعليم المدني "بأمر من الله"  وتحويله إلى ركام وهم الذين رأوه سببا لكل مشاكل المجتمع الخلقية والأخلاقية وفاحشة لا بد من زوالها  وما فتئوا يكيلون له التهم على منابرهــــم وفي حلقاتهم وحتى من داخل المؤسسة التربويــــة التي يسترزقون منها اليوم  باعتبار الاختلاط الذي يتسم به هذا التعليم  "أم  مشاكل" المجتمع التونسي. 
 
وإننا ومن حيث المبدأ نحترم رأي الآخر طالما لم يعمد إلى إقصاء الطرف المقابل ولا نطمـــــح مـــن خـــلال هذه الأسطر إلا توضيح بعض الملتبسات والمتشابهات التي قد تساعد على تعديل المواقف.
 
فلمتطرفي  الشق العلماني أقول أن التعليم الديني ليس بدعة ابتدعها التونسي فهي متأصلة في كل المجتمعات والأنظمة الغربية التي تستظلّون  بها وتحتمون بأفكارها، ففرنسا وحدها تعدّ أكثر من ألف مدرسة كاتوليكية لا تخضع لسلطة وزارة التربية بل يعود الأمر فيها إلى الكنيسة فــــي اختيــــار المشرفيـــن على مناهجها وطاقم التدريس فيها وفق ما يساعدها في نشر تعاليم المسيحية، ولم نأخذ مثال إيطاليا قصدا حتي لا يعاب علينا القياس باعتبارها  مهد المسيحية. والحقيقة التـــي تغيـــب على هؤلاء، أن التعليم الديني يوجد بين ظهرانينا. فالأقليات الدينية -إخواننا بهذا البلد- لها مدارسها الخاصة تدرس فيها تعاليمها والكل يعرف المدرسة اليهودية بشارع فلسطين التي يرتادها أطفال بالزي الطائفي اليهودي المميز لتلقــــي تعاليم ديانتهـــم. هذه المدارس التي لا أخالها تهدّد السلم الاجتماعي أو مدنيّة الدولة لا في تونس ولا في فرنسا الأكثر حرصا على العلمانية.
 
للمتأسلمين والمتشددين نقول أن حديث اطلبوا العلم ولو بالصين – وإن ضعّفه بعض الرّواة- يحث على طلب العلم الدنيوي بالأساس باعتبار أن الصين لم تكن تدين بالإسلام آنذاك وكانت قطبا في علوم الدنيا على غرار القطب الغربي اليوم كما أن حادثة تأبير النخيل التي قال فيها الرسول عليه الصلاة والسلام ”أنتم أعلم بأمور دنياكم“ يستحث الهمم في طلب العلوم الدنيوية من علوم النبات وفيزيولوجيا التكاثر والتي لن يلم بها طالب العلم الشرعي.ّ فعلاج الأمراض المزمنة والأوبئة والجراثيم الفتاكة يتطلب مسايرة يومية  لعلوم الطب الحديث وليس بالرقي الشرعية المبتذلة على القنوات الفضائية التي تتاجر بآلام الناس وقس على ذلك بقية مجالات الحياة اليومية التي تطوّرت في اتجاه السيّارة وليس في اتجاه البعير.
 
وللجميع نقول أن التعليم الزيتوني مطلب شريحة كبيرة من المجتمع التونسي وأن طمسه كان مطلبا استعماريا لضرب الهوية الإسلامية للوطن وطمس معالم انتمائه والسعي لتغريبه. وانطلاقا من مبدأ الحرية ، الذي لا يعلو عليه حق، لا يمكن مصادرة حق وليّ في تعليم منظوره وفق ما يراه ووفق ضوابط وتراتيب تسمح له بالتحصيل المدرسي الأدني حتى لا يصنّف مع الأميين. علما وأن هــذا النوع من التعليم لن يزيد المجتمع التونسي إلا حصانة ضد المدّ الوهابي والشيعي الذي يتربص به وذلك بتكريس مبادئ المذهب المالكي وفق ما دأب عليه سالف علماء الزيتونة  من إعمال للعقل وتغليبه على النقل، لبناء مجتمع متسامح ومعتدل يكون للاختلاف فيه نصيب وما يسمح لنا بالتركيز على أم المشاكل وهي الإصلاح الفعلي للمنظومة التربوية لمسايرة التقدم الهائل في العلوم الوضعيـــــة والتي يزداد ركبها بعدا عنا بمثل هذه الصراعات المصطنعة.