مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
منوال التنمية لما بعد الثورة

 تتطلب التنمية كمسار لتقدم مجتمعنا ووسيلة لتحقيق مصالحة بين مختلف فئاته الاجتماعية وضمانة للكرامة الفردية كثيرا من الوقت والتضحيات ووطنية عالية تدفع الجميع إلى عمل الكثير وأخذ القليل في مرحلة أولى وتوظيفا جيّدا لقدراتنا الإنتاجية.              

كما تستوجب كآلية لتغيّرات ذهنية- كما أقر ذلك الاقتصادي فرنسوا بيرو منذ منتصف القرن الماضي – وأخرى هيكليّة عميقة، إرادة قوية فردية وجماعية والتزاما مجتمعيا بمواجهة مخلفات أنماط تنمويّة متهرئة أفرزت مصدرا رئيسيا لتفاوت اجتماعي صارخ تمثّل في بطالة متفاقمة خاصة لأصحاب الشهائد العليا.
وأحسب أن إجماع التونسيين وإقرار الهيئة التأسيسية لحزب حركة النهضة للفصل الأول من دستور 1959 "تونس دولة حرة ومستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها" في دستور ما بعد الثورة إطارا قانونيا أمثل يقطع مع الاستقطاب ويحول دون إحداث شرخ في المجتمع بل يحوّل كل طاقاته رغم كل إلإختلافات إلى المساهمة الجادّة والفعّالة بتوافق وإجماع على نحت تجربة تنموية لما بعد الثورة رائدة وناجحة بمجتمع متوحد ومتعاون على تشييد حضارة في أرض الحضارات.  
ولعل مواجهة التحدّيات تفرض مواجهة الفساد كمنظومة تنخر الاقتصاد وتستنزف موارده مولدة الفقر وعدم التوازن بين الجهات. كما تحتّم وضع حد لكلّ الممارسات التي ترتهن الاقتصاد الوطني وتضرّ بمصالح مجتمعنا كالإضرابات العشوائية والاعتصامات غير القانونية والمسيئة لصورة بلدنا والواضعة لحواجز أمام الاستثمار الداخلي والخارجي وكذلك محاصرة القضايا المفتعلة من هنا وهناك  والأعمال التي تشوّش من حين لآخر على اتجاه البلاد نحو إرساء قواعد لمجتمع حرّ متنوع ومتوازن ولعلاقات تعارف وتعاون للتعايش على قاعدة الرحمة الإنسانية والأخوة الوطنية بعيدا عن الصراع والعداوة في انسجام مع قيم الإسلام الخالدة حتى يستوعب الوطن الجميع ليحقق كل فرد فينا ذاته وتكون تونس منارة للشرق والغرب.
لاشك أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمجتمعنا دقيق وإدارته ممكنة لكن كيف؟ وما منوال التنمية المنسجم مع خصائص مجتمعنا وبلدنا ؟وماهي شروط إطلاق نموّه  الاقتصادي باعتباره التحدّي الأهم الواجب رفعه اليوم وبلا تأخير؟             
بالاعتماد على تجارب دول مشابهة لبلدنا، يمكن التسليم بأن نجاح منوال التنمية يتطلب الأخذ بعين الاعتبار العوامل الجغرافية والتاريخية والثقافية والدينية للمجتمع والتوظيف الجيّد لكل قدراته والتوافق حول مشروع مجتمعي بعيدا عن الشطحات السياسيّة والجدل الإيديولوجي العقيم وبعض من الجذب الإعلامي خاصة ذلك الذي يريد أن يرتدّ إلى الوراء.  من جهة أخرى يعتبر تشخيص إخفاقات التجارب التنموية السابقة وضبط أسبابها وصولا لاستخراج عِبَرِها ضروري لتجربة تنموية بديلة تساعد على تحقيق أهداف الثورة في تقليص البطالة والقضاء على الفقر والحدّ من التفاوت الاجتماعي وإحداث تنمية جهوية متوازنة.
فالإخفاقات تظهر في ارتفاع تكلفة الحياة والضرر بشروطها البيئية والأخلاقية واشتغال أغلب الناس بسدّ الحاجات الأساسية لساعات طوال وقلّة الوقت للترفيه والتواصل الاجتماعي والاعتناء بالشأن العام كما تبرز في تهيئة متردّية إلى حد ما وبنية تحتيّة، جزء منها غير ملائم لحياة طيبة من جهة، ومعيقة لبعض الاستثمار من جهة ثانية. أما الأسباب، فيمكن إرجاعها  لاستشراء الفساد وتهميش دور المواطن والجهات وكذلك قصور الأجهزة في تنفيذ مهماتها لافتقادها صلاحيّات حقيقيّة وللتوجه المركزي المسقط وأيضا لقلة التمويل العام وشبه انعدام لميزانية مرصودة للبحث والتنمية. 
والعبر التي يمكن أن نأخذها لبلورة منوال تنموي لما بعد الثورة تكمن من جهة في أن صلاح الإنسان يتمّ عبر تنمية بشريّة واعتباره محور كل عمل تنموي يشارك فيه ويستفيد منه  وتكون فيه حريته الغاية والوسيلة في آن واحد كما ذهب إلى ذلك ”آمر سيا سن“ الهندي الأصل والمتحصل على جائزة نوبل للاقتصاد سنة1999 وصاحب كتاب ”التنمية حرية“ ومن جهة ثانية في حيويّة لامركزيّة القرار التنموي وتمتّع الأجهزة بصلاحيات حقيقيّة وإتباع مقاربة التنمية التشاركيّة وتوفير الطاقات البشرية والتمويل اللازمين للاستثمار في تحقيق حياة طيّبة  .                           
كذلك من غير الممكن تحقيق تنمية بالاعتماد على قطاعات خاضعة لعوامل خارجة عن السيطرة البشرية أو المحلية أو تلك الخاضعة للإرادة الخارجية. فالسياحة الضيقة المعتمدة على فصل بعينه أو التصدير المرهون بالطلب الخارجي أو ذو قيمة مضافة ضعيفة لا يمكن المراهنة عليهم لتحقيق التنمية. وما نراه مجديا هو أن يكون منوال التنمية مشجعا  للمبادرات الإنتاجية وميسّرا لها ولحريّة بعث المشاريع المنتجة لقيمة مضافة عالية ولتنويع منتوجنا  السّياحي وجعله أكثر تحرّرا من العوامل الطبيعة بتفعيل السياحة الثقافية والاستشفائية وسياحة المؤتمرات مع تطوير مردوديّة السياحة الشاطئيّة و الصحراويّة وما شابه وأن يكون للدولة دور المراقبة والتعديل للنشاط الاقتصادي بما يضمن توازن مصالح جميع الفاعلين الاقتصاديين والمستفيدين الاجتماعيين دون إعاقة النشاط الإنتاجي أو الاستثمار المحلي أو الأجنبي. وللدولة من الأدوات ما يمكنها من القيام بهذا الدور المحوري في العملية التنموية عبر سياسات جباية ومالية وما شابه. 
إن جذب الاستثمار والتواصل الإنساني تحقيقا لغاية الوجود الاجتماعي المتمثل في التعارف كما ذكر في الآية 13 من سورة الحجرات يفرض بسط النظام وإشاعة الاستقرار وتنقية مناخ الاستثمار ومن ثم تقويته وإرساء حوْكَمَة جيّدة. كما أن الحاجة ملحّة لحسن التواصل مع المستثمرين وطمأنتهم عبر إبراز نقاط القوّة في نسيجنا الاقتصادي وكذلك مناخ الأعمال في بلدنا ومحدودية المخاطر والقدرة على التحكم فيها وتمكينهم من رؤية واضحة ومشجعة على مستقبل بلدنا عبر إجراءات فوريّة تضمن الشفافية والحريّة والعدالة حتى يحصل لديهم إحساس بضمان استثماراتهم  وهذه في حد ذاتها مهمة وطنية، الجميع مسؤول عن القيام بها سلطة وكل مكونات المجتمع السياسي والمدني وللإعلام في ذلك مسؤولية تاريخية .
من جانب آخر، وبالنظر لإمكاناتنا البشريّة والعلميّة، يمكن تحقيق تنمية اقتصاد المعرفة في بلدنا ودعم تكنولوجيا الإعلامية والاتصالات وكذلك الاستفادة القصوى من الموارد المائية التي أتاحتها الأمطار الأخيرة حتى تتجلى بركاتها على القطاع ألفلاحي ومن بركات القطاع ذاته على قطاعي الصناعة والخدمات وكذلك الاستفادة من موقعنا الإستراتيجي كجعل تونس مركزا عالميا للخدمات. لكن كل هذا يتطلب توفير التمويل اللاّزم، وفي ظل ضعف مواردنا الذاتية، لا بدّ من تطوير نظامنا البنكي الذي يعاني من نقص في السيولة وهشاشة في بنيته ومشاكل على مستوى الحوْكَمَة حتى يقوم بدوره في عملية التمويل. كما يتحتّم على البنك المركزي أن يساهم مساهمة فعالة في هذا الاتجاه وأن يضاعف الجهد بما هو معهود منه من مهنيّة ومسؤوليّة عاليتين خاصّة في ضبط سياسات مالية تخدم الغرض وان يبقى دائما محافظا على حياديته وواقعيته في عرضه للظرفية الاقتصاديّة لبلدنا تحقيقا لدرجات أعلى من المصداقية لدى الدوائر المالية وليظل كما عرفناه مؤسسّة ذات احترام كبير من طرف الفاعلين الاقتصادييّن وعموم المواطنين.
وعلى النظام المالي أن يستعد للانفتاح المالي الذي أراه  قريبا  حتى يحافظ على مكانته ويستفيد من إيجابيات هذا الانفتاح في جلب الاستثمار الخارجي المباشر ويحمي نفسه من سلبياته المتمثلة في جعل اقتصادنا الوطني أكثر حساسيّة للصدمات الخارجية.
ولعل تجربة التمويل الإسلامي التي أثبتت جدارتها في مواجهة الأزمات عالميّا تشكّل رافدا للنظام المالي ما بعد الثورة لما له من قدرة على جذب المال من المموّلين ومن ثقة لدى من هم في حاجة إلى تمويل مشاريعهم الإنمائية. 
إلى جانب تقوية القدرة على التمويل ذاتيا هناك ضرورة اللجوء إلى التمويل الخارجي سواء في شكل هبات أو استثمار خارجي مباشر أو قروض لكن بفلسفة جديدة. 
فالهبات يمكن أ ن تأتي من دول شقيقة لكن دون تدخل في شؤوننا الداخلية مقابل إعطائهم امتيازات استثمارية في بلدنا.
والاستثمار الخارجي المباشر ضروري لكن بشروط ومقابل أيضا. فهو ضروري لما يوفره من مواطن شغل ولما يمكننا من تحويل للتكنولوجية ومن الاستفادة من رؤوس الأموال التي تجلب معهم. وشروطه أن يكون استثمارا في مشاريع ذات محتوى تكنولوجي قوي وقيمة مضافة مرتفعة، مقابل توفير الشفافية المطلوبة والحرية الضرورية والعدالة المرجوة حتى نوفّر ضمانات مطمئنة للاستثمار ومشجعة عليه.           
وأمام عجز التمويل الداخلي على تغطية الاستثمارات اللاّزمة وعجز الميزان التجاري، يمكن للتّداين الخارجي أن يحدث التوازن المطلوب لكلا العجزين حتى يتمكن النمو الاقتصادي من الانطلاق كما ذهب إلى ذلك ”تشان ري وستر وت“ منذ 1966 .
لكن ما يجب التأكيد عليه في هذا الصدد هو أن تستثمر الأموال في مشاريع ذات إنتاجية عالية وأن يقع دعم انفتاح اقتصادنا على محيطه المغاربي وأن يتكامل معه، خاصة إذا علمنا أن عدم تفعيل إتحاد المغرب العربي اقتصاديّا يكلّفنا نقطتين أو ثلاث من نسبة النمو، أي ما يعني خسارة ما بين ثلاثين وخمس وأربعين ألف موطن شغل.
كما يفترض إتباع سياسة انفتاح اقتصادي تدريجي حماية لهشاشة بعض قطاعات اقتصادنا ويمنحنا الوقت الممكن لتطوير بنيته ونشاطه كما ونوعا وقدرته على مواجهة المنافسة الشديدة والمتصاعدة  ودعم الانفتاح القائم على منطقة اليورو والبحث عن أسواق واعدة جديدة تحقيقا لتوازن مرتكزاتنا الخارجية فمنوال التنمية ما بعد الثورة يرى اقتصادا ذو هيكلة مرنة ومنفتح بشكل تدريجي في اتجاهات متعددة وذو منتوج متنوّع و قيمة مضافة عالية وابتكار لافت  مع تقوية علاقاتنا الاقتصادية عبر زيادة المبادلات التجارية المحدودة حاليا ودفع الاستثمار الداخلي والخارجي في إطار حرية تبادل السلع والخدمات وحركة رأس المال وتنقل الأشخاص.
  في الختام وبنظرة تفاؤلية، بإمكاننا رغم محدودية مواردنا الطبيعية وبالاعتماد على يد عاملة ذات مهارة عالية وعقلية متعلّمة وخلاّقة وبانتهاج سياسات عامّة ناجعة في مناخ تنافسيّ شديد أن نطلق نموّنا الاقتصادي، رغم وضعنا الصعب خاصة في ظرفية عالميّة دقيقة وما يشهده شريكنا التجاري الأول من صعوبات.                         
لاشك أن ما تشهده منطقة اليورو يؤثر على اقتصادنا تأثيرا مباشرا وينعكس سلبا على صادراتنا وسياحتنا وتحويلات عمالنا بالخارج وكذلك على الاستثمار الخارجي المباشر لذلك وجب أخذه في الحسبان والحدّ ما أمكن من تداعيّاته.
وما لا يحتمل التأجيل اليوم، هو رفع تحديات ما بعد الثورة وإطلاق عجلة النشاط الاقتصادي فورا وبكل طاقاته والعمل على تخفيض الأسعار واتخاذ كل الإجراءات الضروريّة والمستعجلة من بسط للنظام وإشاعة للاستقرار وتفعيل للقانون وتكثيف للرّقابة على الأسعار وفي المعابر الحدوديّة وتوفير مستلزمات نجاحها مع إرساء حوكمة رشيدة وتعميم الشفافية والحفاظ على الحرية وتنمية الوعي بها كحق يتّبعه واجب التعمير والتعاون على تجاوز مخلفات الماضي ورفع تحديات ما بعد الثورة بروح وطنية عالية ووفق نظريّة سياسيّة جديدة تقوم على الشراكة في الوطن والمصير وما تفرضه من مفهوم جديد ومبتكر لعلاقة بناءة بين كل مكونات مجتمعنا نحو تنمية شاملة ومتوازنة، يشارك فيها الجميع ويستفيد منها الجميع. وما نستحقّه اليوم، هو التعاون على قاعدتي التعارف المتبادل والمصالح المشتركة للعيش معا باحترام وتحضّر، مع توفير الوضوح الكافي للمرحلة القادمة والالتزام الأخلاقي للجميع بالحفاظ على المكاسب  والوفاء لدماء الشهداء في حياة كريمة للجميع، باعتبار الكرامة رسالة الإسلام وعنوان ثورة 14جانفي وما تفرضه تلك النوعية من الحياة من إصلاحات ضرورية في المنهج والخطاب لكل الفاعلين في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية. فليس قدرنا أن لا نثور على نمط علاقات ومنهج وخطاب ما قبل الثورة والذي غذّته الدكتاتورية. فاليوم، يجب أن تطال الثورة الذهنيّة والعقليّة التي ندير بها اختلافاتنا خاصة والجميع ملتزم بالتداول السلمي على السلطة. فمن مصلحة الجميع أن تنمو البلاد بسرعة لأن المجتمع أصبح يراقب ويشارك في الشأن العام ويتخذ من الخطوات الجادة في اتجاه النهوض بالبلاد والعباد مقياسا للحكم على الأقوال والأفعال.  
—————————-