في العمق

بقلم
د.محرز الدريسي
ثورة الشباب: الذاكرة المُحفزة و المستقبل الملتبس

  مقــدّمـــة

 
نحتفل هذه الأيام بالذكرى الثانية لثورة الحرية والكرامة، التي أنجزها كل التونسيين دون استثناء، وهـــي مناسبــــة لاستعــــادة أهم رهانات الثورة، والتي ستبقى أسئلتها مفتوحة ومجال سجالات وقادحة للتفكير والتحليل والتساؤل. فهل كان التحول السياسي في تونس مفاجئا؟ هل كان الزلزال التونسي حدثا غير منتظر؟ تعالت الأصوات بالحدث المفاجئ، كيف وقع؟ ما هي مبرراته؟ وماهي أسبابه؟ أعتقد أن هذه القراءة ساذجة، فكل العلامات والاحتجاجات المتتالية كانت تشير إلى أن حدثا ما في حالة اختمار وفي حالة تشكل وأن الوضع السياسي رغم ملامح القوّة الظاهـــــرة، فإنه لم يعد قابلا للاستمرار وأن بناء الحكــــم متآكل من الدّاخل. 
كانت تطلعات الشعب عموما والشباب خاصــة تبحث عن سبل التحرر من  الانغلاق السياسي المطلـــق، وفي المقابل كانت المعارضة التونسية من أكثر المعارضات تهميشا وضعفا وتشرذما، تحت الضربات القمعية المباشرة(السجن- تلفيق التهم الكيدية...) وغير المباشرة ( حجب الصحف- منع الاجتماعات- منع التمويل العمومي ...). و تبرز المعاينة المباشرة أن جل الأحزاب دون استثناء ذات خصائص هشة وصغيرة مثل (الديمقراطـــــي التقدمـــــي) و(التكتّـــل) و( المؤتمر) و(النهضة) المهشمة بسنوات السجن والمنفى، ولذا لم تكن قادرة على لعب دور مميز وقيادي في الثورة التونسية. كما لم تتشكل جبهات سياسية ناجعة للضغط على السلطة الاستبدادية ( تجربة جبهـــة 18 أكتوبـــــر ذات بعد نخبـــوي). كان المجتمع التونسي في حالة انتظار وصمت وترقب، كانت الأحداث تتراكم والنقمة تزداد والاحتقان يتضخم تجاه نظام أغلق كل المنافذ للتعبير وأزال كل مساحات اللقاء السياسي والمدني والاجتماعي، مما حول المدارج الرياضية إلى قنوات للتعبير الرياضي- السياسي ( مجموعات Ultras).
 كيف ساهم تغييب الشباب من الالتــــزام الاجتماعي في تأجيج مبررات الثورة؟ كيف شارك بل كيف قاد الشباب حراك ثورة الكرامـــــة (لا ثورة الياسميـــــن)؟ ما هي الإشارات العملياتية التي وفرها الشباب كمقدمات  لما يطلق عليه الآن الربيع العربي؟
 
غلق الفضاء العمومي 
و إحالة الشباب على التقاعد السياسي
 
عملت السلطة منذ مطلع التسعينات في سياق الأزمة السياسية المتنامية مع حركة النهضة وتوتر العلاقة مع حركة طلابية ناهضة ونشيطة على إبعاد الشباب عن العمل السياسي والنقابي وتم التركيز على إشاعة ثقافة استهلاكية، وكان المطلوب من الجميع أن يكونوا على رأي واحد وفكر واحد. ولم تنظر سلطة بن علي للشباب كطاقة خلاقة بل مارست سياسة إكراهية ومسقطة وإقصائية وتعمل بذهنية معي أم ضدي. قامت على الريبة من المجتمع المدني واحتوائه باسم معاضدة مجهود الدولة وعلى هيمنة الحزب الحاكم والمنظمات التابعة له ولم توفر للمجتمع المدني فرصــــة لعـــب دور محضنة المشاركة الحرة والمسؤولة، لم تكن تستجيب للشباب وتطلعاته واحتياجاته بقدر ما استجابت لحاجة النظام للأمــــن والاستقــــرار، فعوّلت على الولاء والانضباط أو الانزواء. وعملت على تنميط الشباب في نمــــوذج استهلاكي غير مسيـــــس وغير معنـــــي بالشـأن العام ولا بالقضايا الوطنية أو الدولية. وأعلنت سنة 2008 سنة الحوار مع الشباب، أطلقت خلالها استشارة شبابية ضخمة بعد الاستشارة الشبابية "الروتينية" التي أنجزت في سنة2005 ، وتجنٌدت الحكومة وهياكل الدولة والحزب الحاكم لهذا الغرض وأعلن عن أن اختتام الاستشارة بصياغة ميثاق شبابي(مسرحية سيئة الإخراج). 
وواصلت السلطة احتكار الفضاء الإعلامي والثقافي والتربوي كأداة سيطرة وبّثها لخطاب دعائي بعيد كلّ البعد عن معاناة الشباب ووجدانهم له مضاعفـــــات خطيرة، وحسب دراسة ميدانيـــة أجريت على شباب العاصمة فإن % 67,85 من الشباب لا يمارسون أنشطة رياضية والبقية تمارس الرياضة في أنشطة غير مؤطرة ولا منتظمة في أغلبها. 
إن ضعف المشاركة وضعف تمثيلية الشباب التي لا تناسب حجمه الديمغرافي، فقبل 14 جانفي ما يقارب 5.1 مليون تلميذ و 351 ألف طالب، لا يتجاوز عدد المنخرطين منهم في الجمعيات بضع مئات، وهي مفارقة لا تتناسب والنضج المبكر للشباب اليوم وسعة إطلاعهم وانفتاحهم وقدرتهم على التواصل. بل إن الجيل الذي نشأ بعيدا عن ثقافة المشاركة في الحياة العامة وتأطر بآلة التوجيه الثقافي المركزي، برز من داخله - مطلع الألفية الجديدة- تيار سلفي ديني انخرطت مجموعات منه في أعمال مسّلحة وعنيفة داخل البلاد وخارجها. ومع أحداث سليمان 2006 وسياقاتها المحلية والدولية اكتشفت السلطة أنها فقدت السيطرة على عقول الشباب وقلوبهم. كانت مظاهر الأزمة مبكرة، عزوف عن العمل الجمعياتي والنقابي والسياسي، هجر دور الشباب والثقافة وحتى الجمعيات الرياضية، استقالة وإحباط، سلوكيات فردية انعزالية، انتشار ظاهرة الإدمان والاضطرابات النفسية، رغبة جامحة في الهجرة، وعدم اهتمام بالانتخابات ولا بأي من القضايا الداخلية والعالمية. 
ومع تراكم حالات خنق روافد التعبير الحر تتعاظــــم نسب البطالة في صفوف حاملي الشهائد وخريجي التعليم العالي، وطول فترة الانتظار للحصول على عمل، وتعاظم المهن الهشة في الاقتصاد وازدياد الهجرة السرية و ما يعرف بقوارب الموت. وفي المقابل سعت الدولة إلى تكبيل الحركة الشبابية والطلابية فمنعت كافة أشكال العمل السياسي داخل الجامعة وخارجها، و كشفت دراسة رسمية نشرها المرصد الوطني للشباب في الاستشــارة الشبابيــــــة الثالثة (2008) أن 72% من العينة المستجوبة يرفضون المشاركة السياسية والانخراط في الأحزاب السياسية والهيئات الاجتماعية.
كما تغذت كراهيّة الجماهير الشعبيّة لنظام بن علي، بالإضافة إلى رفضها للاستغلال والاستبداد، من مشاعر الظلم والإذلال والوعود غير الصّادقة، وممارسات عائلتي بن علي والطرابلسية والعائلات المتصاهرة معها والتي تحوّلت إلى كراهية عميقة لسلطة بن علي. أخيرا، حفّزت الصّعوبات الاقتصاديّة، التّي فاقمت بدورها الأزمة الاجتماعيّة، الفئات الشعبية وجماهير الشباب على الثورة على نظام بن علي. فخلافا لما كانت تدعيه السلطة الدكتاتوريّة حول حسن تماسك الاقتصاد في وجه الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، فإنّ العديد من القطاعات الاقتصاديّة الحيويّة قد تأثرت بشكل ملموس جرّاء تباطؤ النموّ، وهو ما يدلّ عليه انكماش الاستثمار، وتراجع مؤشر الإنتاج الصناعي، وركود القطاع السياحي وتقهقر الصادرات، وتدنّي نسب النموّ الاقتصادي إلى ما دون التوقعات بكثير. 
 
روح ثورة الشباب:
درس الاحتراق ورمزية النار
 
اندلعت الثورة التونسية بعد جملة من التراكمات النضالية التي كانت تظهر من حين إلى آخر في شكل احتجاجات فردية أو جماعية أو حركات اجتماعية مطلبية، تمحورت حول مواجهة القمع والملاحقات والاعتداء على الحريات الفردية والعامة والمطالبة بالتشغيل والحفاظ على بعض موارد الرزق والإضرابات العمالية في العديد من القطاعات. بعد أن تسارعت وتيرة بعض الحركات الاحتجاجية مثل أحداث الحوض المنجمي في 2008 وأحداث بنقردان صيف 2010 ، لم تكن حادثة إقدام أحد الشبان محمد البوعزيزي شاب 26 سنة من العمر في 17 -12-2010على إحراق نفسه في مدينة سيدي بوزيد أمام الولاية (رمز السيادة الجهوية) تعبيرا يائسا واحتجاجيا جلبت حركة من التعاطف والغضب عبّر عن درجة من الاحتقان لدى الشباب اليائس من آفاق الاندماج المهني في مناطق كثيرة من "تونس الأخرى" التي راكمت عقودا من التهميش والإقصاء نتيجة اللاتوازنات الجهوية الموروثة والتي ازدادت حدة خلال ما يزيد عن عقدين مع انسحاب الدولة الممزوج بالتسلط السياسي والمركزية المفرطة والفساد الإداري والمالي.
و في حديث مع والدة محمّد البوعزيزي تخبر أنّ محمّدا فعل ما فعل بسبب "الحـُﭭــــــرَة " وتحيل الكلمة إلى مقاربات سوسيولوجيّة وفلسفيّة لمسألة الاعتراف الاجتماعـــي (( La reconnaissance sociale والشرعيّة الاجتماعيّة. ولكن ما يثير في الحدث الفردي أن الانتحار حرقا فعل سياسيّ ثوري بامتياز، ونطرح سؤالا لماذا الانتحار حرقا وليس بوسائل أخرى متاحة ولما الانتحار في الفضاء العمومي وأمام مؤسّسات ترمز إلى السلطة؟ ، كان يكفي البوعزيزي احتجاجـــا أن ينتحر شنقا أو دهسا أو مسموما وكفاه احتجاجا أن يٌنهي حياته في بيته، لكنّ النّار أبلغ دلالة وأعمقها وأكثفها. النّار حمّالة لرموز ودلالات ثقافيّــــة واجتماعيّـــة تبدو متناقضـــة في ظاهرها لكنّها في باطنها متكاملة، وأيًّا كان أمرها فإنّها جميعها تفرغ على فعل الانتحار حرقا دلالة متجانسة مع واقع "الحـﭭرة". فالنّار رمز للخير المطلق والشرّ المطلق، من هذا المنطلق  لها علاقة بالسجلّ الأخلاقي، وتوسّل النّار للانتحار يحمل معنى التّعبير عن الألم المطلق لكنّه بتقديم الجسد قربانا. بقدر ما تُعْدمُ النّار بقدر ما تضيءُ بنورها، فأن يحترق الجسدُ نارا، إنارةٌ لما حوله، بمثل هذا تُقرأُ تراجيديّة الانتحار حرقا. 
هـــذا الحدث الفـــردي اتخذ شكــــل كرة الثلج وتوسع الاحتجاجات في مختلف قرى ومـــدن وجهات تونس، وصولا إلى هروب بن على عشية 14 جانفي 2011، وخلفت أحداث الثورة في تونـــس أكثـــــر من 300 شهيد بين شاب وفتاة وقرابة الألف جريح. لقد كانت كل هذه التحوّلات تتمّ على وقع تصاعد حاد في نضالات الجماهير كانت محطتاها الأبرز اعتصامان اثنان شهدتهما ساحة الحكومة بالقصبة (العاصمة) عُرف الأول باعتصام القصبة 1  (23-01 إلى 28-01) والثاني اعتصام القصبة 2 (27-02 إلى 03-03)، وكانت نتيجة الأخير الإسقاط النهائي لحكومة بقايا بن علي وهي المعروفة بحكومة الغنوشي 2 فاسحة المجال لحكومة الباجي قائد السبسي التي تولّت أوائل شهر 03-2011.
قدّم الشباب التونسي درسا أولا للشعوب بأن لها إرادة وأن إرادتها لا تقهر، وهو ما تجسم يوم 14 جانفي بهروب الدكتاتور بن علي، وتجسدت الإرادة بالإيقونة الشعرية لأشهر شاعر تونسي أبو القاسم الشابي (إذا الشعب يوما أراد الحياة* فلا بـدّ أن يستجيب القــدر). أما الدرس الثاني فهو موجه نحو الأنظمة السياسيــــة المستبـــدة بأن النمو الاقتصادي غير كاف لمنح المشروعية (شيراك)، فتحت نظام بن علي عرفت تونس نسبة نمو شارفت 5% وهي أعلى نسبة في العالم العربي (ما عدى بلدان الخليج العربي) وبلغ متوسط الدخل الفردي قرابة 4 آلاف دولار سنويا وانتشار التعليم وتقلص نسبة الأمية. إن الدكتاتورية أعمتها بعض المؤشرات الإيجابية في الحقل الاقتصادي والاجتماعي عن قراءة حالة الاحتقان الشدّيد التي مست فئة الشباب(15 إلى 29 سنة) والتي تمثـــل قرابـــة ثلث السكـــان أي في حدود المليونين وهذا ما يعطـــي للشباب مكانــــة هامـــــة في التحولات السياسية. و لم تفهم الدكتاتورية أن ظاهرة البطالــــة قد توغلت في صلب أصحاب الشهادات وبلغت 40 % من الشباب، وبالتالي حركت المطالب الشبابية الخاصة بالبطالة الثورة التونسية وتطورت إلى حركة احتجاجية واسعة ضدّ الفساد وغياب الديمقراطية.
ولأن الشباب الذي عاش ذليلا وخاضعا لعقود طويلة ثار ليطلب الحرّية والكرامة والاعتراف به كمواطن، ولأن الشعب هو المعلم وهو مصدر القيم الإيجابية التي يمكن أن نصوغ منها التوجهات المستقبليـــة وبنـــــاء مشروعـــــا وطنيا، رصدنا مجموعة من القيم أو ثقافة جديدة تتمحور حول:
1- الغضب و المسؤولية
راهن حكام الاستبداد والقمع على تسامح الشعب التونسي وطيبته، نجحت الأحداث التي أطلقت شرارة الثورة في إثارة روح الغضب الكامنة في الشعب ودفعته إلى التركيز على السلطة السياسية باعتبارها المسؤول الأول عن تدهور البلاد، لكن الغضب لم يكن أعمى وإنما ارتبط بمسؤولية وحكمة. وهي الروح التي لخصتها صور الشباب الذين يرفعون القمامة في نفس الوقت مع التظاهر، فالغضب يكون طاقة ايجابية جبارة وخلاقة حين يأخذ الوجهة الصحيحة وحين يرتبط بعمل ايجابي للخلاص من الظلم والقهر. 
2- شرف التضحية 
لقد دفع الشباب التونسي ضريبة الدم والعرق ثمناً للحرية والكرامة، هؤلاء الذين واجهوا بصدورهم العارية رصاص أجهزة القمع وهؤلاء الذين نازلوا أدوات القمع في كل مدن وقرى تونس وهزموهم، لابد وأن هناك طاقة جبارة كانت تحركهم، هذا الإيمان بالوطن هو ما خلق حالة التضحية التي انتابت الشباب التونسي في لحظة الثورة.
3- عمق الطموح 
قبل 14 جانفي كان سقف الطموح منخفضاً عند معظم التونسيين وكان الحلم بمستقبل أفضل بمثابة وهم، وكان حلم التغيير في تونس لا يتعدى غالباً شعار الإصلاح الجزئي. هذا السقف المنخفض تم تجاوزه برفع سقف الطمــــوح الجماعــــي إلـــى أعلى مدى إلى إسقاط النظام نفسه وإلى قيام دولـــــــة القانــــون، هذا هو درس الثورة من يطلب الكثير يحقق الكثير.
4- تصالح قيم الفردية و الجماعية
لم تكن الثورة لتنجح بــــدون المزاوجـــة الخلاقــــة بين الفرديـــــة والجماعيــــة، بين القبول بحق الفرد في التعبير عن ذاته والاعتزاز بنفسه والمطالبة بحقوقه الفردية وبين حق الجماعة، نجحت لأنها خلقت التوافق بين مصلحة الفرد وصالح الجماعة. الثورة انتصرت لأن كل شاب تونسي جاء للثورة بشخصيته ومهاراته واهتماماته ووظفها لخدمة العمل الجماعي. الثورة أعطت فرصــــة ومساحة لكل شاب لكي يعبر عن رأيه بحرية، ويكتـــب شعــــاره ويحملـــه بنفسه في الشارع، فالشاب يشارك في الفعل الجماعي حينما يشعر أن هذا الفعل الجماعي لا يسحقه كفرد وكإنسان. 
5-القيادة المشتركة
صحيح أن الثورة التونسية لم يكن لها زعيم أو حزب قائد، لكن كان لها مئات أو ألاف القيادات الشبابية الميدانية ومن خلف الستار التي لعبت أدوار مهمة، خاصة في إشعال فتيل الثورة ،لم يكن هناك زعيم ينتظر الناس إشارة منه لكي يتحركوا، فالزعيم الملهم لابد وأن يحيل شعبه للتقاعد إن عاجلاً أو أجلاً. خلقت ثورة تونس نماذج جديدة من القيادات الشبابية الفعالة الذين كان لديهم القدرة على المبادرة وعلى تقدم الصفوف.  
6-  روح المغامرة
كثيراً ما كان النظام المهزوم يصف خصومة بالمغامرين، في الثقافة القديمة كانت المغامرة شيئاً مذموماً. السيــــر بجــــوار الحائط كان القيمة العليا التي تبناها النظام في علاقتــــــه بالعالم وحاول بثها في النفـــــوس. من هنا كـــــان شعــــار النظــــام دائماً هو الاستقرار، لكن الثورة أعادت الثقة في قيمة المغامرة، فالسياسة ليست معادلات حسابية يمكن معرفة نتائجها سلفاً. لقد نجحت ثورة الحرية لأنها قبلت بمبدأ المغامرة والمخاطرة. 
7- التواصل والتفاعل
الثورة التونسية ألهمت الربيع العربي، فشعار "الشعب يريد إسقاط النظام" تردد في تونس قبل أن يُسمع في ميادين مصر وليبيا واليمن وسوريا... و المجموعات التي أشعلت الثورة نقلت خبرات الشباب التونسي وطورتها، لقد كنست الثورة كل النظريات المزيفة الرافضـــة لقوانيــــن التغيـــر الاجتماعي والسياسي التي تسري على المجتمعات الأخرى. 
8- قبول الاختلاف والتعايش الجماعي
في ثورة الحرية والكرامة لم يكسر الشعب التونسي خوفه من النظام وأجهزة قمعه فقط ، وإنما كسر أيضاً خوفه من نفسه، من بعضه البعض، لقد نجح الشعب في ثورته لأنه أسقط الأسوار التي تفصله عن بعضه البعض(الجهات- الفئات- الأجيال...). خلال أحداث الثورة ظهرت تونس على حقيقتها، مجتمع متعدد ومتنوع، الكل موجود ومتجـــاور بلا إقصاء أو تهميش،أن تقبل غيرك وتحترمه بالرغم من اختلافه عنك. هذه هي بعض القيم التي استطاع الشباب التونسي بفضلها أن ينتصر في ثورته المجيدة، وهي قيم كامنة قام الشعب بإزاحة التراب عنها ووضعها في خدمة هدف الخلاص من النظام المستبد. 
 
تهافت مقولة النخبة الطليعية
 
أنجزت ثورة 14 جانفي خارج السياق العام للثورات الاجتماعية والتحررية الذي ميز النصف الأول من القرن العشرين وخارج سياق الثورات السياسية في أوروبا الشرقية أواخر نفس القرن، أما خصوصيات هذه الثورة من حيث طبيعة القوى الاجتماعية الفاعلة في أحداثها وعلاقتها بالحركات السياسية فقد كانت الثورة التونسية متباينة مع النماذج الكلاسيكية لصنع الثورات وقيادتها (الفكر السياسي الكلاسيكي الماركسي مثلا). لقد استهلكت النخبة أسماءها وترهّلت أوصافها وتعطلت أدوارها، بهذا المعنى، فالمطلوب فك الترابط بين النخبة والجماهير، فهي ثنائية مفلسة، وتجاوز الثنائيات وتحتـــاج فعلا إلــــى "التطهر" في الشارع وهي كلمة استعملت، وأن النخبة غير مالكة للحقيقة و لابد من تعرية وفضح أدوارها وترددها. خصوصا وأن النخبة المثقفة بتحديداتها الكلاسيكية  استنفدت أدوارها مع نهاية الحداثة ودخولنا في عالم ما بعد الحداثة، فالحداثة تعني نهاية النماذج الإيديولوجية وانعدام المثقف الإيديولوجي والمثقف/ الغنيمة والمناويل الثقافية السائدة لتنشأ وظائــــف جديــــدة، وإدراك الوجود بصفة مغايرة ونوعية أخرى في التعاطي مع الواقع، فعلى المثقف أن لا يبقى على النشاط تكشف بحذر درجة حرارة المياه من حين لآخر ويظل معظم الوقت بعيدا عن البلل بعبارة إدوارد سعيد.
كانت المدرسة في تونس بما هي مدار الإصلاح وأداته رحم بلورة الوعي، حتى وإن وظفت المدرسة وبرامجها وإصلاحاتها في اتجاه خدمة السلطة المهيمنة على ما بين (بورديو). حيث وظفت الإصلاحات التربوية في تونس في إطار الصراع مع "الإسلام السياســــي" الـــذي ضخمتـــه الآلـــة الدولتية وشيطنته، وسعت مع القبضة الحديدية وسنوات الجمر إلى لجم ما اعتقدت أنه منبت "التطرف والأصولية" حسب عباراتها، ونص قانون الإصلاح لسنة 1991 على أن العملية التعليمية- التعلمية تراعي في كل مراحلها وبرامجها ومناهجها مقتضيات بث روح المواطنة والحس المدني. واستمر الإصلاح التربوي لسنة 2002  بنفس الروح في غرس قيم المواطنة، حيث يدرس مفهوم الدولة ودولة القانون ومسألة حقوق الإنسان ومفهوم المواطنة ومؤسسات الدولة والدستور والميثاق العالمي لحقوق الإنسان وتنوع الثقافات وتسامح الحضارات. 
هذه القيم ربت المتعلمين على "مفارقات" بين ما يدرس وما يعاش، وعمقت القطيعة بين المدرسة والمجتمع، وأحدثت شرخا "ذهنيا" و"انشطارا" شعوريا ببغض هذا الواقع في  رمزيته السياسية، واستقر إحساس عام "بمثل" تدرس وواقع يدهسها وقيم تعلم وتطبيقات تناقضها. أفرزت هذه المفارقة مشاعر مكبوتة ووعيا دفينا وأحاسيس حانقة ومختفية، لا تجد قنوات للتعبير عن غضبها والإفصاح عن مقتها للمفارقات الفظيعة. وربى هذا الفضاء التعليمي العمومي مناخا احتجاجيا نائما ومتوثب لكل تغيير، هذا الشباب المتعلم والمثقف سيكون قائدا للنخبة وموجها لها في ما سيطلق عليه ثورة الأحرار أو ثورة الشبان.
وغذت القنوات التونسية التلفزية والإذاعية على "رضاعة التسلية" حسب عبارة بريجنسكي للشباب، فالنقاشات حول الكرة وتحليل المباريات وكشف المستــــور في أجوائهــــا وشخصياتهــــا ورياضييها، حولت كرة القدم إلى ديانة اجتماعية ملأت حيـــاة الشبان وشغلت الناس وأفرزت جدبا خارجيا وأفرغت الحماسة من مضامينها الإنسانيـــــة والوجوديـــــة. ورغم الجفوة الظاهرة بين الشباب والاهتمامات المجتمعية، فإن ذلك كله صنع روحا نقدية عامة وذكاء جماعيا ونباهة مجتمعية وتنمية شعورية مضادة، أخرجت الشبان من القمقم الذي سجنوا فيه وأنتجت توليفــــات شبابيــــة جديـــــدة. وعزز ذلك الانتشار الكبير للتكنولوجيات الحديثة للاتصال والشبكات الاجتماعية التي سمحت بتبادل فوري وسريع للمعلومات والمعطيات من رسائل وإرساليـــــات ومقاطــــع مصــــورة ونصوص ودعوات، جعلت علاقة الفرد تتغيــــر بالأفـــــراد والأحــــداث وتتبدل صلاته بالمكان والزمان. ومثـــــل هـــــذا التطـــــور في التكنولوجيا الإعلامية فضاء جديدا للعلاقات والاتصالات يمكن أن نسميه الفضاء السبراني، المفضي إلى تحــــــول فـــــي إدراك المجتمــــع ومقاربــــة المدينـــــة، والتي غيرت حياة الشباب ونظرته وطبيعة نضالا ته ورؤيته للثقافة والفكر وتعاطيه مع التغيير. وتبلورت فضاءات جديدة للتواصل والتعارف والنقاش والحوار والتفاعل، مغيرة الاستقطاب التقليدي بين النخبة المثقفة من ناحية والجماهير من ناحية أخرى، وساهمت في نبذ وصايتها ومعجمية "التلقيح" الخارجي أو "عضويتها" و"قيادتها".
إن قراءتنا للدور الطلائعــــي للشبــــاب فــــي تحريك الشــــارع والتعبئــــة والتنظيـــــم، كشف تهافـــــت النظرة الدونية للشبان وإدراك  طبيعة الوعــــي السياســــي والثقافي تشكيلا وإنشاء  ودورا ، وأن هناك صيغا وأنماطا وأساليبا  تم الانتباه  إلى أهميتها مثل المدونات والشبكات الاجتماعية (فايسبوك- تويتر...). ف"الفايسبـــــوك" مثلا يعــــد أكثر مـــــن مليون تونسي (تنسيب مع عدد السكان) منخرط في صفحاته، حيث استطاع المثقف الفايسبوكي أن ينشئ وعيا افتراضيا نضاليا، وتحول هذا الفضاء الافتراضي إلــــى فضـــــاء للتواصـــــل يسمــح بربــــط الصداقـــــات والتعارف على مدى بعيد وبإدارة المداولات  والنقاشات ، فالعالم تحول فعليا  إلى قرية صغيرة، حيث لا يمكن إخفاء الحدث وطمس المآسي ودس الاستبداد والقمع، وأصبح الشاب يمتلك "حق الفضح" ( le droit au scandale ).
ضمن جمل معبــــرة وفقرات قصيرة وصور معبرة وتعليقات ومطارحات كبيرة، إنــــه مجتمع سياسي جديد، كوّن برلمانا افتراضيـــــا وحتــــى حكومــــة افتراضيـــــة، وهــــــذا الجــــدل على اختزاليته وبرقيته وجزئيته وشكلانيتــــه وإشاراتـــه لا يعبر عن فراغ أو سطحية في العقل السياسي بل تدل عن عمق ونضج فكري يكشف التراكم.
فكل الأحداث يتم ضخها وشحنها ونشرها، فأشعرت الشاب التونسي أنه قادر على صناعة الحدث وأن له أهمية وأنه يعبر وأنه يفعــل، بل إنه يثور ويمكن أن يغير. كانت الإرساليات وفقرات الفايسبوك تفعل فعلا"سحريا" في التأطير والتواصل وفي ارتقاء وعي الشبان (الأطفال والكهول)، الكل يساهم والكل يبني، وكان البناء نوعــــــا من الانتقال بين الافتراضي والواقعي، ثم بين الواقع إلى الافتراضي، كانت صلة لولبية تتراكم وتنشئ رموزا. الكل يكتب ويقرأ ولا يقرأ فقط أي تفاعلا بين مستعملي الشبكات الاجتماعية ومــــا يقـــــرؤه وما يبثه وما يرسله، فهي علاقات افتراضية وغير مباشرة وحميمية ومحفزة ومعبئة نفسيا وذهنيا، إنها فضاء الموقف، و عبرها يعبر عن إنسانيته وفرديته ومواطنته وحريته وتهويماته وموقفه.
وأنشأ "الفايسبوك"  نخبة افتراضية تونسية عريضة  تمنح القيمة للكتابة المتناثرة  مع  كثافة القراءة مع الألوان والصور المشهدية  وصياغة المخيال الجديد وحيوية النضال الجديد، معيدا صياغة خليطا عجيبا بين الكوجيطو الديكارتي والتاريخ الهيغلي والبراكسيس الماركسي، صانعة موقفا موحدا، ومنظومة مشاركة سبرانية جديدة تعوض غياب منظومة المشاركة الفعلية والواقعية.
إن الوسائط الإعلامية الجديدة والشبكــــات الاجتماعيــــة لها أثرها في احتضان الحدث الفردي(البوعزيزي) ثم المحلي(سيدي بوزيد) ليصبح حالة اختمار وطني عام( وعربي)، ويصدم البديهيات النضالية نظريا ويلغي النظرية الموضوعية للتغيير ويزعزع المسلمات ويعيد النظر في وظائف المثقف أو النخبة بأن ينخــــرط في المناخ التواصلي وتجنب الانعزال ونفي الصفوة والاصطفاء والتعالي. واتسع بذلك تعريف النخبة ليشمل كل من المتعلمين والمدرسين و "عمال المعرفة" مزيحا الحواجز بين النخبة والجماهير وبين النشاط الذهني والنشاط التقني. والتي تعني ولادة فاعل اجتماعي و نضالي جديد، وإعلان عن نهاية النخبة المثقفة بالمعايير الكلاسيكية. و أذابت النخب السبرانية الشبابية السقف الإيديولوجي والجدران المذهبيـــــة والحزبيــــة، وأصبح النقــــاش هو الثابـــــت وأن الحـــوار هو الأصل وأن التواصل هو المؤسس وأن التبادل هو المنشئ. 
 
من المشاركة في الثورة
إلى المشاركة في الحياة السياسية والمدنية
 
الصورة الأولى: التي أستحضرهـــــا للشبــــاب كـــان يوم 14 جانفي 2011، حين كنت أشاهد بعيني بشكل سريالي ولا واقعي مجموعات شبابية تعرض صدورها العارية في مواجهة قوات البوليس التي تطلق النار بشكل عشوائي.
الصورة الثانية: المشاركة الحماسية للشباب في تشكيل لجان الدفاع الشعبي، إذ تشكلت بعد هروب الدكتاتور مجموعات تحـــرس المؤسسات والأحياء بالعصي خلال ليالي جانفي الباردة، وكانت تجد متعة أو بدقة تكتشف معنى للحياة ومشروع وجود.
الصورة الثالثة: تنظيم فرق عمل لتنظيف الشوارع والساحات وطبقت شعار النشاط الكشفي "الكشاف يؤثر ولا يترك آثارا" ( علما أن الشباب هجر العمل الكشفي أيضا عندما تم إفراغه من محتواه ).
الصورة الرابعة: (عدم احترام كرونولوجيا الأحداث)، ما قبل 14 جانفي حملات متعددة ضدّ حجب مواقع الأنترنت، وإطلاق حملات ذات حمولة تونسية صرفة ( حملة سيب صالح) ( حملة نهار أزرق على عمار)...
الصورة الخامسة: انجاز اعتصام القصبة 1 لإسقاط حكومة محمد الغنوشي الأولى المتضمنة عددا كبيرا من أعضاء الحــــزب الحاكــــم (تحول الاعتصــــــام إلى ما يشبه التدريب على النقاشات السياسية وتحديد اختيارات البلاد وكيفية تحقيق أهداف الثورة)، وكانت مزارا لكل الوافدين من داخل البلاد ومن خارجها.
انجاز اعتصام القصبة 2 لإسقاط حكومة محمد الغنوشي الثانية التي اعتبرت غير حريصة في تحقيق أهداف الثورة والمطالبة بمجلس تأسيسي الذي كان مطلبا شبابيا خالصا نادت به الأحزاب لاحقا.
الصورة السادسة: تواصل الدور النشيط لمناضلي شباب الفايسبوك في إسقاط الوزراء( وزير الخارجية ) وكبار الموظفين  للضغط على من اعتبروا من عناصر الفساد أو من غير المعبرين عن روح الثورة وأهدافها، إنها ديمقراطية الفايسبوك (الديموفايس).
الصورة السابعة: الانخراط في تكوين الجمعيات وفق الأهداف المدنية والثقافية والاجتماعية والخدماتية والحقوقية...، إنها روح جديدة تسري في الشباب للمشاركة والانخراط في الشأن المدني والالتزام بالمسؤولية الاجتماعية.
الصورة الثامنة: المشاركة المكثفة في اللجان الجهوية واللجان الفرعية للانتخابات التي دارت يوم 23 أكتوبر 2011  (مراكز الاقتراع- مراقبة-...).
من خلال متابعتي الدقيقة للحقل السياسي فإن الشباب يبحث عن الأثــــــر المباشر للثــــورة في قيم الحرية وأن تتجسد الديمقراطية كسلوك يومي وأن تفعل مضامينها الاجتماعية بمعنى التقليص من البطالة وتشغيل الشباب كأولوية مطلقة. وهو يفكّر بشكل حقيقي في تفعيل دوره وإسهامه في إرساء مبادئ الحكم الجيد أو الحكم الرشيد، وتبدو ملامح الحكم الجيد بالنسبة للشباب كما يلي:
◄ الانتقال من نظام مغلق إلى نظام سياسي مفتوح بمعنى رفض التماهي بين الدولة والحزب الحاكم.
◄ الانتقال من شرعية تقليدية إلى شرعية سياسية حديثة دستورية وتعاقدية.
◄ الانتقال من حياة سياسية قائمة على العنف إلى حياة سياسية قائمة على التنافس.
وهو ما يشترط:
• سيادة القانون: 
- مبد ا الفصل بين السلطات
- مبدأ الفصل بين السلطة المدنية والعسكرية
- مبدأ الفصل بين الدين والسياسة
• الشفافية والمحاسبة: 
- مبدأ استقلال القضاء
- مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين
- مبدأ الرقابة القضائية على تصرفات الإدارة وقراراتها
• منظومة المشاركة: 
- المشاركة السياسية تمثل الإرادة العامة للشعب
- المشاركة السياسية تعني القضاء على الاستبداد والتسلط
- المشاركة السياسية هي الشرط الأساسي لتحقيق  التنمية
- المشاركة السياسية  ترسخ مبادئ الوحدة الوطنية
• التعددية السياسية:
- أحد الشروط الأساسية لتحقيق الديمقراطية، بمعنى إقامة بناء متكامل يشمل ضمانات حماية حقوق الإنسان وحرية التعبير وتكوين الجمعيات والأحزاب وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة. 
- التداول السلمي على السلطة. 
- التسامح الفكري والتعايش الجماعي وقبول الاختلاف.
إنها مجموعة مــن الأحلام التي يرى الشباب أن الثورة قامت لا لتغيير في وجوه الحاكمين بل في تغيير مضامين الحكم وأسلوبه، وأن الرهان الجوهري تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي يكون مدخلا للتربية على قيمة الحرية الفردية والجماعية وزرع روح التعايش والتسامح وقبول الاختلاف.
وهي مبادئ قانونية عامة ومعايير دستورية تترجم بالنسبة للشباب في ضرورة احترام معايير العدالــــة في التشغيل وفي الترقيات المهنية وتوزيع عوائد التنمية الاقتصادية. ومن خلال إلغاء تسييس المعرفة والمناهج الدراسيــــة ونظم التعليــــم، وكذلك من خلال حريـــة مراقبــــــة البيانات وحريـــــة الحصـــــول على المعلومات، وانفتاح المؤسسات السياسية وأجهزة صنع القرار أمام الشباب، وفي إتاحة الفرصـــة أمام الشباب لإنشاء أو للانخراط في الأحزاب والجمعيات المدنية. 
ومع ذلك ورغم الدور المتميز للشباب، فإن مشاركته غير واضحة وغير مرئية في الحراك الحزبي، وهو ما بينته دراسة قام  بها المرصد الوطني للشباب بالتعاون مع منتدى العلوم الاجتماعية بإنجاز دراسة ميدانية حول " انتخابات المجلس التأسيسي في عيون الشباب" شملت عينتها 1250 مستجوبا من مختلف الولايات والشرائح العمرية الشبابية قصد التعرف على انتظارات وتوقعات هذه الفئة المدروسة من الاستحقاق الانتخابي القادم وتقييم موقعها فيه ومن خلاله  واستنادا إلى نتائج هذا، فانه يبدو بأن واقع المشاركة الشبابية لا يتناسب بشكل عام مع الحدث الذي حمل عنـــــوان "ثورة الشبـــاب"...وهو ما يطـــرح أكثر من سؤال فيما يتعلق بجاهزية هــــذه الفئـــة النشطة إن كان ذلـــــك فــــي مستــــوى مشاركتها السياسية أومستوى انخراطها ضمن المسارات الآنية أو القادمة. 
ففي مستوى المشاركة والانخراط الحزبي لا تتجاوز المشاركة الشبابية لدى الأحزاب أكثر من 22,3% معظمهم من ذوي المستوى التعليمي المتوسط. ( الإعدادي أو الثانوي بنسبة  26,8 بالمائة)، ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى أن نسبة الشابات اللاتي شاركن في اجتماعات حزبية لا تقل من حيث الكــــم عن نسبة المشاركة أو الحضور الذكوري في العديد من الأحيان. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير بأن جانبا كبيرا من المستجوبين قد عبروا عن عدم استساغتهم لأساليب الأداء السياسي لبعض الأحزاب، وهو ما قد يفسر ربما تراجع شعبية البعض منها، بعد أن كانت على رأس قائمة الأحزاب المفضلة خلال الأشهر القليلة الماضية، وتحسن أوضاع أحزاب أخرى اكتفت بما يعـــــــــرف بالحمــــلات المحايثــة أو القــــــــرب    Une compagne de proximité ورفض الاستقطابات وعدم الدخول في الصراعات السياسية مثل التحالف الديمقراطي.
وحول مضمـــون المواطنــــة والإجابــة عن سؤال: هل المشاركة فـــي الحيــــاة العامــــة ترابيــــة وفعلية، أي متصلة بالجهات،  وبين أن تكون افتراضية، ثمة بون شاسع يمكن أن يفسر بعض المعطيات المتناقضة والمسجلة في هذا المسح. فإذا كان الانترنيت هي مصدر تداول المعلومات السياسية بالنسبة لأغلبية الشبان ذوي المستوى المتوسط ، فان التلفزيون بات بقنواته المتعددة  يحتل المرتبة الثانية كمرجع إخباري بعد الانترنيت وبعيدا عن الدور المتواضع للراديو والذي يتمحور بشكل خاص داخل المناطق الريفية وشبه الريفية بالنسبة للعينات المدروسة. وبشكل عام، فلقد تم تعريف المجال العام هنا بالمعنى الافتراضي ، والذي يشمل قنوات الحوار الالكتروني والرقمي والتي من الممكن أن يشارك فيها الشباب للتعبير عن أرائه ومواقفه ومنها: التلفزيون والراديو والانترنيت والصحافة. بهذا المعنى يدخل الشباب للفعل السياسي بوسائل الكترونية متاحة إلا أنها لا تسهل من عملية إدماجه السياسي، بقدر ما تسهل من عملية توظيفه الإعلامي والسياســـي من قبل أقطاب السياسة وحملاتهم التعبوية وحملاتهم المضادة والحروب الافتراضية السائدة. وقد فتح ذلك أبواب اتخاذ الإشاعة والتحريض والتشويه (وهو شكل من أشكال العنف اللفظي) طابعا رقميا وماديا.
ويبدو أن التحزب التقليدي لا يثير جاذبية الشباب، وهو ما يطرح أسئلة حقيقية حول تطوير الأحزاب لطرق تعاطيها مع الشباب وأهمية الارتقاء بنوعية أنشطتها وأساليب استقطابها للشباب وتفعيل دوره وتشريكه في الحياة الداخلية للحزب لا استثماره وتوظيفه الظرفي.
من المهم جدا ابتكار أنماط جديدة في النضال السياسي والفعل المدني والمساهمة في الشأن العام والانخراط المجتمعي، وذلك يتطلب فعلا أن تشتغل القوى السياسية الجديدة على  فهم حقيقي لمشاكل الشباب ووعي مطابق لأدواره ومهامه والاستجابة لتطلعاته. إن الشباب طاقة جبارة تنتظر من يفتح أمامها النوافذ المغلقة والأبواب الموصدة لتبادر وتنشئ وتصنع وتفعل.  
إنها اشارات تستدعي الأمل رغم التباس المواقف، وتصاعد الضجيج والصراعات المزيفة، ومع ذلك نثق في الذكاء الجمعي للتونسيين لا نجاح التجربة وجعل السنة الثانية للثورة قوس قزح تشرع للتنافس الشريف وتسوغ للتوافقـــات الحقيقيــــة، وتفتح على آفاق أرحب وطموحات أرقى وانجازات أفضل.