إثراء للنقاش

بقلم
محمد الحمار
إلى من يريد نظام الحكم البديل

 بعد أحداث مدينة سليانة الدامية، وبعد واقعة 4 ديسمبر بساحة محمد علي النقابية، وعلى إثر سلسلة الإضرابات الجهوية ثم التهديد بالإضــراب العـــام (الذي أُلغى في يوم 12 مــن نفـــس الشهــــــر)، وبالنظــر إلى أحداث الذكرى الثانية لاندلاع انتفاضة 17 ديسمبر بسيدي بوزيـــــد وما سجلناه أثناءهــــا مــــن غضب شعبـــي أدى إلـــى رشــــق المنصة الرئاسية بالحجــــارة، وبعــــد ما سبق من تراكمات تصب في نفس الاتجاه، بِتنا على يقين من أنّ تونس (ومصر وسائــــــر بـــــلاد ”الربيـع العربــــــي“) تعرف وضعا أخلاقيا عاما مشحونا بالمزايدات السياسية والإيديولوجية التي تدفع بالبلاد في داخل أتون جهنمي.

 ولمّا نعلم أنّ وقود هذا اللهيب إنما هو حطب من أخطر الأصناف وهو المتمثل في انشطار الوعي المجتمعي وما نجم عنه من انقسام في الفكر السياسي، لا يسعنا إلا أن نشدد على ضرورة إخماد النيران من الأسفل حتى لا تتأجج ألسنة اللهيب وتأتي على الأخضر واليابس.
فما الذي تحتاجه تونس ومثيلاتها غير فلسفة جديدة لنظام الحكم تثلج الصدور دون أن تبرّد القوائــــم، وتشحذ العزائم دون أن تؤجج جمرات العنف السياسي. لكن قبل كل شيء لا نرى بُدًّا من أن تلتزم الطبقة السياسية بإنجاز مراجعة لما وفد عليها من أفكــــار على الأخص منذ تاريخ اندلاع الشرارة الأولى للتغيير، ومن أن تتواضع هــــــذه الفئـــــة وتذعـــــن للتعــــاون مع النخــــب الفكرية. فلا الأفكار المسقطة من الهيئات الأجنبية ستنفع البلاد ولا هي ذاتِ صلة بالواقع الثقافي للبـــلاد. ولا التعالي من طرف السياسيين على أصحــــاب المقترحــــات الفكريــــة وعلى إنتاجهم سيسمح للمجتمع بأن يحرز على التقدم المنشود.
كما تتأكد ضرورة تبديل الرؤية للحكم من خلال معاينة التباطؤ في عمل المجلس الوطني التأسيسي والتلكؤ في الأداء الحكومي، والتصحر الفكــــري والتشــــرذم الـــــذي يميــــز قـــــوى المعارضــــة السياسيــــة. حيث إننا نستشفّ من خلال هذه المعاينـــة أنّ الحــــق صار قيمة قد يراد بها باطل. بدءً بالديمقراطية ومرورا بحقوق الإنسان من بين قيم حديثة أخرى وانتهـــــاءً إلى أيها أفضل النظام الرئاسي أم البرلماني أم الرئاسي المعدل، الكل أضحى هُراء قابلا للتحوّل إلـــــى باطــــل. أما السبب فهو في نظرنا استحالة أن تهتــــــدي النخب إلى البدائل الناجعة ما لـــم تكــــن هــــــــذه الأخيــــــرة نابعة من أعماق الشخصيــــة الوطنية ومن لبّ العقل المجتمعي.
وفي هذا السياق نلاحظ أنّ المسار السياسي إلى حــــد الآن لم يفعـــل ســـــوى الحفاظ علـــى البـــون الشاسع للتفريق بين ثنائيـــات محوريـــة ثـــم تثبيتهــــا فــــي تناقضهــــا دون أن تسهيــــل دمجها في بعضها البعض. ومن هذه الثنائيات نخص بالذكر ثلاثة: الخلافة/الديمقراطية والشريعة/القانون والإسلام/حقوق الإنسان.
وإدراكا منا لخطورة تمادي الحالة على ما هــــي عليــــه، وانطلاقا من مسَلمة مفادها أنّ التناقض بين طرفَي كل ثنائيـــة إنما هو مفتعل إلى أن تثبت استحالة دمجهما، نقترح إنجاز الدمــــج. وهي عمليــــة من الممكن أن تتم عبر آلية إصلاحية تبدو جزئيـــة ولكنها ستكون شاملة إذا ما تمّ استخدامها حسب منهجية دقيقـــــة. ويتلخص ذلك في ما يلي:
(أ) الآلية: إصلاح تعليم اللغات.
(ب) المنهجيـــــة: اعتبـــار اللغــــــة منهاجـــا للتغييــــــر فضـــــلا عن كونها أداة للتواصل وعن كونها فكرا.
إذا اتفقنا على أن يكون إصلاح تعليم اللغات من جهة مدخلا للإصلاح التعليم عموما وللإصلاح العام، وعلى أن يكون من جهة ثانية، وبالتوازي مع ذلك، استحداثا لشروطِ تحوّلِ اللغة إلى منهاج للتغيير، سوف نحتاج إلى خوض المراحل التالية:
 
أولا
 
اعتبار تونس، فضلا عن كونها دولة، العربية لغتها والإسلام دينها، دولة خلافة ديمقراطية، أي دولة يخلف فيها رئيس جديد رئيسا انتهت ولايته عبر الاقتراع العام في انتخابات دورية. وهي دولة خلافة لأنها أولا وبالذات وبطبيعة الحال تمثل وتصون مجتمعا يؤمن بقيمة الاستخلاف الإسلامية.
 أما ما يجعل دولة الخلافة الديمقراطية مصانة من حيث صفتها المدنية فهو من جهة اعتماد الشريعة الإنسانية أصلا في التشريع في مجتمع المواطنة الذي يؤمن بالاستخلاف، ومن جهة ثانية وبالتوازي، اعتماد حرية الفرد والمجتمع وسيلة طبيعية لإثبات هوية الشعب الاستخلافية وللاضطلاع بالمواطنة، وذلك عبر كافة الوسائل المعرفية والعلمية والتواصلية المتاحة وفي مقدمتها اللغة كأداة وفكر ومنهاج.
ومن الفوائد المنجرّة عن التحـــرر فـــي ظــــل هذا التصور للدولة أن يسهم المواطن التونسي، بفضل الإمكانية المتاحة له لتوليد المزيــد مـــن الحقــــوق الإنسانيـــة، في تكميـــل وتنقيـــح وتقويـــة المنظومة الكونية لحقوق الإنسان. ومن أبرز المهارات الكفيلة بتحقيـــق ذلـــك أن يصبـــح المواطـــن قـــادرا علـــى تحديـــــد واجبات الإنسان في المجتمــع الدولـــي حيـــال مجتمعــــه، القُطـري والكبير، وحيال المجتمعات المسحوقة. وهذا ممّا يجعل المجتمع التونسي متمكنا من الفكر الكوني، إن حقوقيا أم معرفيا وعلميا وحضاريا.
 ويترتـــب عمـــا سبق عرضه في المقدمة وفي البند الأول من آلية و منهجية وأهداف وغايـــات القيـــام بالإجـــراءات والإصلاحــــات كما هي مبوبة في البنود الموالية، وهي كالآتي:
 
ثانيا
 
إحداث مؤسسة في رتبة وزارة تعنى بالشؤون اللغوية. ومن مشمــــولات هـــذه المؤسســة العمومية توحيــد القاعدة اللغوية/العقديــــة للنسيـــج الثقافـــي العــام، بمــــا يتطلبـــــه ذلــــــــــك مــــن إحكــام التنسيـــق بيـــــن مختلـــف دواليـــب الدولـــة، رئاســـة وحكومة وبرلمانــــا وسائــــــر الهيــــاكـــــــل المركزيـــــــــة، وبما يتطلبه ذلك من تجسيد لمعنى دولة الخلافة الديمقراطية.
 
ثالثا
 
إقحام مادة علمية محورية جديدة اسمها "الإسلاميات اللغوية التطبيقية" في مناهج التعليم وتنظيم الدراسة، إن في اللغات و الإنسانيات والاجتماعيات أم في العلوم الصحيحة والعلوم التجريبية، شيئا فشيئا حسبما تستوجبه خصوصيات هذه المادة ومقتضياتها فضلا عن الخصوصيات والمقتضيات المتعلقة بتكوين شخصية الإنسان التونسي وكذلك تلك المتعلقة بارتقاء المجتمع نحو الأفضل.
رابعا
 
تنظيم تعليم اللغات الأجنبية بصفة تسمح بالعناية بقيمة الحداثـة، عبر ترجمتها ترجمة عينية لا نصية إلى اللغة العربية وكذلك عبر إنتاجها بواسطة اللغة العربية. وقد أسمينا هذه المقاربة بـ"التعريب العكسي" أو "التعريب غير المباشر" بناءً على أنها رصدٌ لفوائد السياسة اللغوية الجديدة المطبقة في المجتمع ككل فضلا عن كونها جنيٌ لهذه الفوائد داخل المدرسة والجامعة بواسطة الاستئناس باللغة الأجنبية كفكرِ حمّال للحداثة.
أخيرا وليس أخرا نرجو مـــن سياسيـــي هـــذه البـــلاد الوقــوف على إمكانيات النخب والشعب الحقيقية، بمــــا يلـــزم مــــن الثقـــة في النفس ومن الندية حيــــال البلــــدان المتقدمـــة وسياسييهــــا، حتى يكون القرار الوطني مستقلا بالقدر الذي يجعله مرآة تعكس طموحات الشعب الكامنة. ونتمنى أن تكون محاولتنــــا هـــذه تصــب في هذا الاتجاه.