شخصيات ملهمة

بقلم
جيلاني العبدلّي
أنا وصلاح الدين الأيوبي في بيت المقدس

 ولد بقلعة تكريت بالعراق ستة 532 ﮪ وتوفي بها سنة 589ﮬ.

 إنه الناصر صلاح الدين الأيوبي، قائد معركة حطين الشهيرة، وفاتح بيت المقدس الشريف، وواحد من أشهر ملوك المسلمين.
 
 لمّا نظرتُ إليه وتفحّصتُ فيه، قرأتُ على صفحات وجهه قيم العروبة، من شموخ ونخوة وشجاعة وإقدام وإصرار.
مستكشفا البارحة كنتُ قد رأيته ينزل بالقدس زائرا مُتفقّدا، ويمشى في رحابها مستطلعا.
 
 كان يجوب المدينة في هيأته الموقرة وحيويته المتدفقة، يُلقي بناظريه في جميع الأنحاء وقد انتابه شيء من الحيرة والتردد والاستغراب.
 كان يفحص الوجوه الغريبة، ويقلّب المشاهد المثيرة وهو يعبر القدس الغربية كمن يبحث عن عزيز قد تاه في الزحام.
 كان يصطدم كلما تقدّم بمشاهد لم يسبق له أن ألفها في الأرض الفلسطينية.
 
لافتات على الواجهات تعلوها رموز غامضة، وخطوط غريبة لم يهتد إلى فكّ أبعادها ومراميها، وشُرطة وعساكرُ في المداخل والمخارج مدجّجة بأنواع من السلاح العجيب، وأعلامٌ مرفرفة في الأرجاء، تعلوها نجمة سداسية هي عبارة عن مثلثين متداخلين متساويين، أحدُهما يمثل قبيلة بنيامين، والآخرُ يمثل قبيلة يهوذا القبيلتين اليهوديتين.
 
 أشياءُ كثيرةٌ مثيرةٌ تجري أمامه، وتذكّره برموز لليهود وعادات لبني إسرائيل، ولكنه لا يفهم سر الحضور الصارخ والمكثف لليهود في هذه الأرض؟ 
 
هو يعرف جيّدا أنّ الأرض التي تطؤها قدماه ليست إلا أرضُ فلسطين، أرض العرب والمسلمين.
 لكنّه لا ينفكُّ يسأل، أين هي ملامح الدولة العربية الإسلامية؟
 وأين هم سكّانها الذين يعرفهم وينتمي إليهم؟
أين هم العرب؟
وأين هم المسلمون؟
غير بعيد عنه، شدّه مشهدُ قومٍ يتوافدون على بعض المحلات التجارية، فترجّل نحوهم مستكشفا مستجليا، فإذا هم مقبلون على شراء نوع غريب من حلويّات لم يألفه طيلة حياته في بلاد العرب والمسلمين، وهو ما زاد في شعوره بالاغتراب وإحساسه بالضياع.
 
 وبينما هو كذلك في تساؤله وتأمّله، مرّ على مقربة منه رجل ذو سحنة عربية، فاستسمحه في الإيضاح إن كانت المدينة التي يجوبها هي بيت المقدس؟
فتنهّد الرجل، وأجابه في حزن أنّ هذه المدينة هي "أورشليم" عاصمة دولة إسرائيل، وأنّ هؤلاء القوم هم اليهود في عيدهم "حانوكا" عيد تدشين الهيكل المقدس الثاني، وهم الآن يتوافدون كما تراهم لشراء حلويات "السّوفغنيّة" ذات الأبعاد الرمزية الاحتفائية.
 ففي سنة 1917م وقع وَعْدُ اليهود بوطن قوميّ على أرض فلسطين بموجب وَعْدٍ يُسمّى وَعْدُ بلفور أُبرم بين المستعمر البريطاني والعصابات الصهيونيّة.
 
 وفي العام 1948م تمّ تهجيرُ العرب الفلسطينيين واستباحةُ أرضهم وممتلكاتهم واستقدامُ عشرات الآلاف من يهود العالم للاستيطان في الأرض العربية الفلسطينية، فأضحى الفلسطينيون إما مشرّدين مطاردين في المنافي والمخيمات، أو محاصرين في قطع صغيرة مجزّأة مقطّعة الأوصال، يعيشون فيها غالبا على مساعدات إنسانية شحيحة يتحكّمُ في طبيعتها وفي مداخلها الإسرائيليون، ويتعرّضون فيها باستمرار للقصف الجوّيّ والاجتياح البرّيّ، ولكثير من المجازر والاغتيالات والاعتقالات. 
 
أمّا منْ نجوْا من التهجير والإبادة فقد وقع تهويدهم، وأصبحوا مواطنين إسرائيليين يحملون الهوية الإسرائيلية، وظلّوا مع ذلك يخضعون دائما للمراقبة والتضييق والمساءلة والتمييز والتهميش.
 وأما عن المسجد الأقصى، فبعد حرقه سنة 1969م على يد أحد اليهود المتطرفين، رسم الإسرائيليون مخططا خطيرا يهدف إلى تقويض أركانه وطمْس ملامح العمارة الإسلامية، وسِرْ معي إن شئتَ إلى هناك عند رحاب أولى القبلتين وثالث الحرمين لتقف بنفسك على حساسية الأمر وخطورة الوضع.
 
رافق صلاح الدين الأيوبي الرّجل العربي الذي سخّر نفسه لتقديم التوضيح وإزالة الغموض، فمرّا بحائط المبكى كما يسمّيه اليهود ﴿وهو جزء من حائط البراق﴾ على رهط من الرجال بلحيّهم المتدلّية وقبّعاتهم الصغيرة يتدروشون ويتباكون، وهم يرددون:
"إنّ اليهوديّ هو بؤبؤ عينيْ اللّه...والرّبّ يتعامل مع الشّعوب بقدر ما تتعامل هذه الشعوب مع اليهودي"
وردّدوا من هذا القبيل كثيرا من أساطير الاستعلاء والمغالاة.
وغير بعيد عنهما، لاحظا عمليّات حفر وتنقيب تحت باحات الحرم القدسيّ بحثا عن هيكل سليمان عليه السلام بدعوى أنّ المسجد الاقصى قد أُقيم فوقه حسب الادعاء الاسرائيلي، وليس خافيا على أحرار العالم أنّ الإسرائيليين يفعلون ذلك من أجل طمس الهوية الدينية والخصائص المعمارية العربية والأبعاد التاريخية والحضارية لبيت المقدس الشريف.
 
نظر صلاح الدين في وجه مُحدّثه وهو يسأله في وجوم عن سبب تأخّر العرب عن نصرة المسجد الأقصى، وعـــــن نجـــدة إخوانهـــم في فلسطين؟
فأجابه الرّجل في حسرة وألـــم بـــأنّ حـــال العـــرب يبعث اليوم على الرثاء، لما يشقّهم من انقسام وما يصيبهم من خيانة وعمالة، وما يشكونه من ضعف وهوان، وما يعانيه بعضهم من احتلال رغم ما يملكونه من أسباب القوة والعزة والمناعة.
غير أنّ ما يثلج الصدور وينعش الآمال هو انطواء شعوبنا العربية المسلمة على روح مقاومة تعصف من حين إلى آخر بأحلام المستعمرين في السيطرة والاستغلال والظلم، حسبنا أن نذكر أهل غزة ولبنان والعراق وإنّي لأصدق بقوّة الشهيد العربي البطل عمر بن المختار في قوله البليغ:
" نحن لا نستسلم...ننتصر أو نموت...وهذه ليست النهاية"
عندها بشّ القائد صلاح الدين، وربط على كتفيْ مرافقه وهو يقول له:
 "صدقت أيها الوطنيّ الشريف، فما دام فيكم رفض ومقاومة وتضحية لن ينام الغاصبون ملء جفونهم، ولن يهنؤوا بما غصبوا".
 
قال له ذلك وودّعه شاكرا، ومشى واثقا في خطوات حثيثة، وتوارى سريعا عن الأنظار،.
فمكثت بعده أتساءل إن كان صلاح الدين قد اطمأنّ لمستقبل العرب من خلال كلام الرجل؟ 
أم أنّه قد عزم على العودة إلى مركز الخلافة ليُعدّ الخطط، ويحشد جنده لمهمّة تحرير الوطن العربي من كافّة ألوان الاحتلال والاستغلال؟ 
 
وبينما أنا على تلك الحال، تبدّدت الرّؤية، فاستيقظت من نومي، وغادرت أحلامي، فلا وجدتُ حذوي صلاح الدّين، ولا وجدت نفسي في رحاب بيت المقدس.
 
بقيت محملقا حولي، متأمّلا في ما رأيت في منامي، فتهاوت أمامي صفحات مشرقة من صولات العرب والمسلمين، وهالني البون الواسع بين ما كانوا عليه في أمسهم، وما غدوا عليه في حاضرهم، ولكنني سرعان ما استعدت ثقتي في غدنا وأنا أستحضر في أمسي بطولات في غزة من فلسطين، وما كان قبل ذلك في لبنان والعراق، وتذكّرت من شعر المقاومة ما ردّده الشاعر الفلسطيني توفيق زيادة:.
 
هنا باقون
كأننا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل
هنا على صدوركم باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج كالصبار
وفي عيونكم
زوبعة من نار
هنا على صدوركم باقون كالجدار
نجوع؛ نعرى؛ نتحدى
ننشد الأشعار
ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات
ونملأ السجون كبرياء
ونصنع الأطفال جيلا ثائرا وراء جيل
كأننا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل
إنا هنا باقون
فلتشربوا البحرا
نحرس ظل التين والزيتون
ونزرع الأفكار كالخمير في العجين
برودة الجليد في أعصابنا
وفي قلوبنا جهنم حمرا
إذا عطشنا نعصر الصخرا
ونأكل التراب إن جعنا .. ولا نرحل
وبالدم الزكي لا نبخل؛ لا نبخل؛ لا نبخل
هنا لنا ماض وحاضر ومستقبل
كأننا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل
يا جذرنا الحي تشبث
واضربي في القاع يا أصول
أفضل أن يراجع المضطهد الحساب
من قبل أن ينفتل الدولاب
لكل فعل رد فعل: إقرؤوا
ما جاء في الكتاب  
—————